خلّفت الثورة البلشفية عام 1917 وراءها رؤى جديدة للمنظومة السياسية والاجتماعية، قُتل الملك نيقولا الثاني، واختفى معظم معارضي البلاشفة من الطبقات المتوسطة والعليا، وانبعثت روح أشد كثافة وحماسة، لم يبقَ أمام زعماء الثورة الشيوعية إلا حشود هائلة من الجماهير، شعب يضمّ بين طياته كافة البنى والطبقات الدنيا، العمّال والفلاحين مثّلوا عصب الثورة البلشفية، وهو ما سينعكس على سياسة الحكم وتنظيم الدعاية.
يشير الكاتب نيكولاس ريفز في كتابه “قوة الدعاية السينمائية (The Power of Film Propaganda)” إلى اختلاف منهجية لينين عن ماركس، لم يكن فلاديمير لينين -رغم كونه ماركسيًّا- يتفق مع رؤية ماركس حول تطور الوعي الثوري لدى الطبقة العاملة من خلال النضالات الطبقية ضد الرأسمالية، بل فضّل لينين تمرير الوعي الثوري بطرق شبه مباشرة من خارج الطبقة العاملة ذاتها إلى الداخل، لأنه يؤمن أن الطبقة العاملة لا تستطيع تكوين وعي من داخلها، لن تخلق إلا وعيًا نقابيًّا يطارد أهدافًا برجوازية تحسّن من ظروف العمل وترفع من الأجور، ولن تحقق الطبقة العاملة وعيًا ثوريًّا إلا إذا حصلت على القيادة والتوجيه المناسبَين من قبل المثقفين الثوريين الذين يعرفون طبيعة الرأسمالية.
زرع الأفكار
تحتاج منهجية لينين إلى قوة دعائية أكثر من أي شيء آخر، يحتاج إلى تمرير حاسم وممنهَج لفكر الماركسية اللينينية، نموذجه يستوجب وسيطًا أشد تأثيرًا وجمالًا، وجاءت السينما كردّ فعل لكل ذلك، لقد جمعت الفتنة والدهشة الأولى بالفكر الموجَّه والصورة الموحَّدة.
إيمان زعماء الثورة البلشفية بقوة الوسيط السينمائي وإشرافهم عليه منحهم قوة مضاعفة، لقد اخترق الروس جحافل من الجماهير الأمية، عبر تمرير صور شديدة البساطة لأفكار سلسة وهيّنة على المتلقّي، غير أن أثرها تجاوز الإطار الظاهري ليحافظ على تحديد المسار، وزرع أفكارًا بعينها داخل وعي الشعب، أفكارًا لا يمكن المساس بها، بحيث يتحركون داخليًّا وفق الإيمان الكلّي بالفعل، السينما كانت إرادة لينين المستقلة لخلق حياة أفضل.
حسب الكتاب ذاته، خلال الأعوام السابقة للثورة البلشفية، عام 1914 تقريبًا، تحوّلت السينما إلى مظهر حضاري داخل روسيا، وسيلة ترفيهية للطبقة العاملة في المدينة، على عكس المنطقة الريفية التي لم تنجح بها السينما بشكل تجاري جيد، تأسّس السوق السينمائي الروسي في مستهلّه على الأفلام الخارجية، بيد أنه بدايةً من عام 1908 بدأت حركة الإنتاج الداخلية تعمل على نحو جيد، وخلال الحرب العالمية، عام 1916 على وجه الخصوص، انخفضت نسبة الأفلام الخارجية إلى 20% داخل قاعات السينما الروسية.
الجدير بالذكر أن نية تطويع السينما كأداة دعائية كانت حاضرة حتى لو بشكل صوري أيام روسيا القيصرية قبل قيام الثورة، وكلّفت لجنة سكوبيليف -هيئة خيرية تأسّست لمساعدة قدامى المحاربين في الحرب الروسية اليابانية- بالإشراف على صناعة الأفلام الرسمية.
الاختيار ذاته يدلّ على عشوائية المنهج، وبناءً عليه حقّقت السينما الروسية القليل من الأفلام في ذلك الوقت، هناك محاولات أخرى لدمج السينما بالنظام السياسي، في بداية الحرب طالب النائب بوريشكيفيتش باحتكار الحكومة للسينما، ليأتي سياسي آخر في السنة التالية، ف. م. ديمينتف، واقترح تأميم السينما كأداة دعائية للنظام القيصري، ولكن لم تنفَّذ أي من هذه الاقتراحات، ولم تتجاوز كونها كلامًا في الهواء، حتى عام 1916، حين أخذ وزير الداخلية، بروتوبوبوف، المبادرة لتكوين لجنة مشتركة لتطوير تشريعات للإشراف على صناعة الأفلام واستيرادها.
حفّز هذا وزير التربية والتعليم على اقتراح تكوين لجنة سينمائية خاصة بوزارته، على أي حال الاقتراحات متأخرة فعليًّا كما يوضّح الكاتب نيكولاس ريفز، لكنها تشير إلى تأثير الحرب على منهجية إدارة الدولة.
خلال الحرب الأهلية ساءت الأحوال أكثر، وتوقفت الشركات السينمائية تمامًا أو غادرت البلاد، كان على البلاشفة أن يعيدوا بناء الصناعة السينمائية بشكل كلّي وإحياءها من جديد، في ظل ظروف اقتصادية مزرية وحالة سياسية مضطربة.
في ذلك الوقت، صُنعت الأفلام على نطاق الاستوديوهات، أغلبها يتمحور حول الميلودراما والجريمة البوليسية، بيد أن تلك الحقبة لا تخلو من الأفلام الجيدة، أشهرها الفيلم الصامت “الأب سيرجيوس (Father Sergius)” عام 1918، مقتبس عن رواية للكاتب الروسي العظيم ليف تولستوي.
قبل الثورة لم يكن تصوير الكهنة مسموحًا، بيد أن الانفتاح الذي خلّفته الثورة، خصوصًا من الناحية الدينية، فتح مجالًا أكبر للفنّان، طالما في حيز غير سياسي، ومع ظهور أفلام جيدة الصنع تبلور لدى الكثير من المثقفين أهمية استغلال الوسيط الجديد، بيد أنه على العكس هناك بعض الأقوال تثير فكرة أن لينين لم يكن يدعم السينما كما يذكر بعض المقرّبين منه مثل أناتولي لوناشارسكي، بسبب طبيعته المحافظة، ما جعل البعض يرجّح أن لينين فضّل المسرح والأدب على السينما.
لكن على الناحية الأخرى، هناك عدة دلائل تشير إلى النقيض، حموة الحماس التي أصابت الموجة البلشفية، والموثّقة داخل جريدتهم الرسمية “برافدا”، حيث يشير نيكولاس ريفز إلى اقتباس للزعيم الثوري الماركسي الشهير ليون تروتسكي في أحد مقالاته عام 1923 في مجلة “برافدا”:
“سلاح يتوق ليستعمَل، أفضل وسيلة دعائية، تقنية وتعليمية وصناعية، يمكن استخدامه في الدعاية ضد الكحول، الترويج للصرف الصحي، الدعاية السياسية، كافة أنواع الدعاية، وسيلة دعائية متاحة للجميع، جذابة، تخترق الذاكرة، وقد تكون مصدرًا محتملًا للدخل”.
عبارات تروتسكي تنضح بفكر ووعي للوسيط الجديد، على المستوى السياسي والتجاري، لأن السينما أعجوبة العصر، لها قدرة تعليمية وترفيهية في الآن ذاته وفي الخطاب نفسه، لذا كان من الطبيعي الانخراط التام مع الوسيط السينمائي البصري كوسيلة دعائية لعدة أسباب، أولها المساحة الشاسعة لروسيا -حوالي 22 مليون كيلومتر في ذاك الوقت-.
مع اتّساع المساحة يأتي اختلاف الثقافات واللغات، بعدد هائل من اللغات يستحيل على التجربة الأدبية اختراقه، عالجت السينما هذه المعضلة لأنها أولًا قابلة للنقل والتنقل، ثانيًا لا تعتمد على لسان بعينه، بل تقوم على لغة بصرية عالمية تتعاطى مع جميع الثقافات واللغات دون مشكلة، فالتقنية الفيلمية آنذاك كانت صامتة، ما يسهّل مهمة تطويعها كأداة دعائية، لأنها تحطّم الحواجز الثقافية والبيئية والاجتماعية دون عناء، خصوصًا أن عددًا هائلًا من سكان روسيا كان أميًّا، لا يعرف القراءة والكاتبة.
والحقيقة أن حمل آلة العرض السينمائية داخل الريف والمناطق غير المتمدنة يعتبر نقلة حضارية في حدّ ذاتها، بروباغندا تروّج للنظام دون حتى عرض أي شيء، القفزة التكنولوجية والدهشة التي كانت تداهم سكّانًا على الأطراف والهوامش كفيلة بجعلهم أدوات، وثني إرادتهم تحت طائل النظام، ما جعل السينما الوسيط الأساسي والأهم في خطة الدعاية الروسية، فالوسيط ذاته قابل للتطويع والتغيير، بالإضافة إلى الإنتاج وإعادة الصنع وخلق أنظمة سردية جديدة والتلاعُب بالكاميرا، لقد وفّرت السينما كل ما يحتاجه النظام.
البدء من الصفر مجددًا
خلال الحرب الأهلية ساءت الأحوال أكثر، وتوقفت الشركات السينمائية تمامًا أو غادرت البلاد، كان على البلاشفة أن يعيدوا بناء الصناعة السينمائية بشكل كلّي وإحياءها من جديد، في ظل ظروف اقتصادية مزرية وحالة سياسية مضطربة، ومن بين كل العقبات الممكنة استوجب عليهم تجاوز مشكلتَين رئيسيتَين لتطويع السينما كأداة دعائية مهمة للنظام.
أولًا، إحياء الصناعة ذاتها، البنية التحتية، لضمان إنتاج الأفلام، ومن ثم التأكُّد والتحقُّق من بلوغ هذه المنتجات لملايين من المواطنين الذين تستهدفهم البروباغندا، لضمان وصول الرسالة المضمرة داخل المنتجات الإبداعية، ما يحيلنا إلى المشكلة الثانية وهي فتح عدد أكبر من دور السينما واستخدام وسائل مثل القطار التحفيزي للترويج للأفلام، وإيجاد أفكار جديدة مبتكرة لإدخال السينما إلى المناطق الريفية على نحو أكبر.
رغم انخراط عدد كبير من السينمائيين بشكل مباشر في الأفلام الدعائية، إلا أنهم أضافوا الكثير من الناحية البصرية والتقنية، إلى جانب وضعهم نظريات ومدارس سينمائية مؤسِّسة لعدة مباحث داخل التاريخ السينمائي.
خلّفت الحرب الأهلية خرابًا هائلًا، استوجب أن تتكيّف دُور السينما والجماهير مع الحال الجديدة، فشركات العرض السينمائي القليلة التي لم تغادر روسيا كانت تعمل في دُور عرض مدمَّرة، وعلى النقيض كان السكان يتوافدون بشكل مستمر على هذه الدُّور المتهالكة، حيث بجهاز عرض مهترئ وبعض الطلاء على الحائط عُرضت الأفلام للجماهير.
بحلول عام 1922 أُعيد تأسيس حوالي 5 شركات سينمائية رئيسية في موسكو، أشهرها شركة سيفزابكينو (Sevzapkino) في بتروغراد، إلى جانب شركة VFKO التي لعبت دورًا مهمًّا في إعادة خلق المنظومة رغم الحالة الاقتصادية السيّئة، لأنها كانت تموَّل من قبل الحكومة حتى ديسمبر/ كانون الأول من عام 1921، حينما قرّرت الحكومة أن شركة VFKO يجب أن تخضع لمتطلبات السياسة الاقتصادية الجديدة NEP -تمثل السياسة الاقتصادية الجديدة تراجعًا مؤقتًا للاشتراكية النظرية المكبّلة بقيود المركزية المفرطة-، وتوليد رأس مالها المستقل بعيدًا عن التمويل الحكومي.
ورغم ذلك، وفي مناسبتَين، طلبت الشركة تمويلًا من الحكومة لشراء المعدّات، وتمَّ الرفض من قبل الحكومة، إلى جانب اقتراح رئيس الشركة، بيتر فويفودن، إعادة تنظيم شركة VFKO كصندوق ائتمان برأس مال 2000 مليون روبل، ولكن لم تلتفت الحكومة لهذا الاقتراح أيضًا، ولم تأخذ أي خطوة حقيقية حتى عام 1922 عندما استبدلت شركة VFKO بمؤسسة الدولة المركزية للتصوير الفوتوغرافي والسينمائي جوسكينو (Goskino).
لقد ورثت المؤسسة الجديدة باسمها الجديد جميع الآليات القديمة، غير أنها واجهت العقبة السابقة نفسها، أن نجاحها مرهون بالتمويل الحكومي، ما لم تنجح به المؤسسة الجديدة بسبب السياسة الاقتصادية الجديدة التي اعتبرت هذه الاستثمارات غير ضرورية آنذاك، وعلى النقيض كانت الدور السينمائية تعمل بشكل جيد في حيّز السينما التجارية، لذلك جادلَ تروتسكي حول أهمية السينما، وأشار إلى أنها من الممكن أن تدرَّ العائد التجاري نفسه، وفي الوقت نفسه تُستَغَلّ كأداة دعائية مهمة.
لمدة عامَين استوجب على جوسكينو أن تشقَّ طريقها دون تمويل حكومي، لذلك بدت خطواتها غير مستقرة، ولم تحرز تقدمًا ملموسًا داخل الصناعة، حتى محاولاتها لاستقطاب الشركات الغربية من أجل الاستثمار في السينما داخل روسيا لم تنجح، وظلَّ الوضع راكدًا حتى ظهرت منظمة الإغاثة الدولية العمالية (WIR) -منظمة أنشأها الحزب الشيوعي الألماني عام 1921 لمساعدة ضحايا المجاعة السوفيتية-.
استخدمت المنظمة لقطات أرشيفية سوفيتية للترويج لقضيتها، وبعدها بدأت تدريجيًّا برعاية إنتاج أفلام جديدة، وبعد انتهاء المجاعة عام 1922 ساعدت المنظمة السينما السوفيتية في شراء المواد الخام والمعدّات، وتدفّقت دفعات من المساعدات ليخرج لنا واحد من أهم الإنتاجات السينمائية السوفيتية، الفيلم الكوميدي “المغامرات الاستثنائية للسيد ويست في أرض البلاشفة (The Extraordinary Adventures of Mr West in the Land of the Bolsheviks)” للمخرج ليف كوليشوف.
ويعتبَر هذا الفيلم واحدًا من الأفلام الفريدة على عدة مستويات، خصوصًا في تحديه للأنماط الفكرية الأمريكية عن السوفيت، بالإضافة إلى تدفق عدد جيد من الأفلام الأجنبية داخل السوق الروسي، ومن هنا بدأت السينما الدعائية تعمل بشكل مكثّف أكثر، كان هناك ما يسمّى بالـ Newsreel، وهي أفلام تسجيلية قصيرة ترصد أشياء معينة، مكرِّسة للبروباغندا رغم ما تحتويه من علامات فنية مميزة كانت تلازم السينمات، وتعرَض مع الأفلام الأجنبية.
وبداية من تلك النقطة بدأت الصناعة تستعيد بريقها، وحاول النظام الروسي فرض سيطرته التامة على الصناعة بشكل يضمن لها التحكم الشامل في السوق، لم يسمَح لأي شركة بإدخال أفلام أو شراء معدّات إلا من خلال وسيط حكومي يسمّى هيئة التجارة الخارجية.
خلقت الحكومة الروسية نظامًا محددًا هي المستفيدة منه على السياق التصاعدي، ولكنها في الوقت ذاته ضمنت دوران عجلة الإنتاج وازدهار الصناعة بشكل ما، ولكنها بعد ذلك بعدة سنوات فرضت ضريبة مضافة على دور العرض التي تعرض أفلام أجنبية، وهذا أثّر بالضرورة على سعر التذكرة وبعض السينمات أغلقت تمامًا.
لقد عرقل هذا الإجراء نمو السينما، لأن الإنتاجات الجديدة كانت تموَّل من قبل فائض الإرادات، لتعقد لجنة وتدلي بقرارات جديدة، أولها تغيير اسم شركة جوسكينو إلى سوفيكنو (Sovkino) وتمويلها بمليون روبل إضافية، وتطبيق نظام الاحتكار في التوزيع، وانخفضت الضرائب إلى حد معقول، وتدفّقت الأفلام الأجنبية، وانتعش السوق بإرادات مرتفعة، وصعدت أصول الشركة بشكل جيد حتى عام 1927، مقارنة بعام 1924، إلى جانب تزايُد عدد دور السينما بشكل ملحوظ، لتخدم السوق وتعرض الأفلام الدعائية للنظام.
خلال تلك الفترة وما لحقها، نشط عدد كبير من السينمائيين المميزين، أشهرهم بالطبع الأستاذ سيرجي آيزنشتاين، ودزيجا فيرتوف، وليڤ كوليشوڤ، وغيرهم من الفنانين المهمّين والملهمين للأجيال اللاحقة، الذين رغم انخراطهم بشكل مباشر في الأفلام الدعائية، إلا أنهم أضافوا الكثير جدًّا من الناحية البصرية والتقنية، إلى جانب وضعهم نظريات ومدارس سينمائية مؤسِّسة لعدة مباحث داخل التاريخ السينمائي.