يصل عدد الأكراد الذين يعيشون في المناطق الحدودية بين العراق وتركيا وسوريا وأرمينيا وإيران حوالي 30 مليون نسمة، وتعد هذه المنطقة موطنهم الأصلي، فيما يقطن أكثر من نصفهم في تركيا (حوالي 16.6 مليون نسمة بحسب إحصاءات عام 2019)، بما يعادل 20% من السكان.
يعدّ الأكراد أكبر عرقية في العالم ليس لها دولة قومية، إذ استثنتهم اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 من تأسيس دولة قومية لهم، وفي حين نصّت اتفاقية سيفر بين الحلفاء والدولة العثمانية عام 1920 على حقّ تقرير المصير للأكراد وإقامة كيانهم “كردستان”، إلا أن معاهدة لوزان التي وقّعتها تركيا بعد حرب الاستقلال عام 1923 غيّرت المعادلة.
تسبّب استثناء الأكراد من وجود كيان سياسي خاص بهم، مع تمسُّكهم بهويتهم وثقافتهم الخاصة، في أزمات وحروب مستمرة في البلاد التي يتوزّعون فيها، إضافة إلى تعرضهم – في كثير من الأحيان – لقمع وحشي واضطهاد ومحاربة لثقافتهم وظروف معيشية قاسية.
وتعزو بعض التقارير فشل الأكراد في إيجاد مشروع كردي واضح، رغم مرور أكثر من 100 عام على سعيهم لإقامة كيان خاص بهم، لأسباب تتعلق بسيادة الدول التي يقيمون فيها، إضافة إلى الانقسامات الكردية الداخلية.
دخول الأكراد تحت الحكم العثماني
كانت معركة جالديران بين العثمانيين والصفويين في عهد سليم الأول عام 1514، بداية دخول العشائر الكردية تحت الحكم العثماني، حيث لم يكن للأكراد كيان خاص بهم بسبب الصراعات الداخلية والنظام الاقتصادي الإقطاعي البدائي للعشائر.
حدثت معركة جالديران قرب الحدود الشرقية الحالية للجمهورية التركية
عملَ العالِم إدريس البدليسي على تشجيع ودعم انضمام أمراء العشائر الكردية إلى الدولة العثمانية، حيث أرسل الأمراء عريضة إلى السلطان سليم يطلبون فيها الدعم ضد الصفويين الذين حاصروا ديار بكر، فاستجاب السلطان وكسر الحصار وردَّ الصفويين.
ومن الجدير بالذكر أن الغالبية الكردية تتبع الدين الإسلامي والمذهب السنّي، ما جعلهم أقرب ثقافيًّا ودينيًّا إلى العثمانيين من الصفويين، وظهر منهم قيادات كردية-عثمانية رفيعة، مثل إدريس البدليسي؛ وهو سياسي كردي ومؤرّخ وعالم دين من مواليد مدينة ديار بكر، اكتسب شهرته من كتاباته النثرية باللغات التركية والعربية والفارسية، وكان القائد الأعلى للعساكر الأكراد التابعين للدولة العثمانية.
أدّت الاتفاقيات الموقعة لاحقًا بين الصفويين والعثمانيين، خاصة فيما يتعلق بتنظيم حدود مناطق السيطرة، إلى تكريس انقسام أراضي الأكراد (كردستان) بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية، ويمكن القول إن جذور المشكلة الكردية بدأت من هناك.
فترة تأسيس الجمهورية
نظر أتاتورك إلى تأسيس دولة كردية في الجنوب أو دولة أرمينية في الشرق كتهديد لقيام الجمهورية التركية، بسبب تداخل الأكراد والأتراك في كثير من المناطق، وفي مؤتمره الصحفي المنعقد في إزميت في يناير/ كانون الثاني 1923 أجاب عن سؤال حول القضية الكردية، بأن الأكراد والأتراك إخوة وكلاهما من ركائز بناء الوطن، وأن الجمعية الوطنية التركية الكبرى تتكون من ممثلين مفوضين لكل من الأكراد والأتراك، ومصالحهما ومصيرهما واحد وهما يدركان أنه من غير الممكن رسم حدود بينهما.
في تلك المرحلة قدّم أتاتورك عدة إشارات لدعمه إنشاء نظام الإدارة المحلية، وفي الدستور الأول الذي تمَّ تبنّيه في 20 يناير/ كانون الثاني 1921 مُنحت مجالس المقاطعات المنتخبة لمدة عامَين سلطة إدارة المؤسسات الدينية والمؤسسات التي تقدم خدمات التعليم والصحة والشؤون العامة والزراعة والاقتصاد.
لكن الحال تغير بشكل متتابع بعد إتمام توقيع معاهدة لوزان ومحاولة اغتيال مصطفى كمال في إزمير عام 1926، واندلاع انتفاضة الشيخ سعيد، فعُلقت مسألة الحكم الذاتي الكردي وبدأ عهد من الإجراءات الصارمة بحقّ التقسيمات العرقية ومنها الأكراد.
حُرم الأكراد من التعبير عن هويتهم وثقافتهم بحرّية، أو استخدام لغتهم وتعليمها في المدارس لأطفالهم، أو إحياء الحفلات، أو توزيع الكتب والنشرات باللغة الكردية.
اقتضى تأسيس تركيا الحديثة والقوية وفق رؤية أتاتورك بناء شعور قومي موحّد بثقافة ولغة موحّدتَين، أي هوية واحدة، وينص القانون التركي على أن كل من يحمل الجنسية التركية هو تركي، فعندما يقول شخص ما إنه يحمل الجنسية التركية (Ben Türküm) فكأنه يقول “إنني من عرق تركي”.
نجم الدين أربكان والمسألة الكردية
في عام 1994 ألقى نجم الدين أربكان خطابًا في مدينة بينجول ذات الأغلبية الكردية، كان سببًا لمحاكمته وسجنه بعد سنوات بتهمة “إثارة الكراهية”:
“لقد ألغيتم البسملة التي كان يبدأ بها الأطفال يومهم في المدرسة، وعلمتموهم بدلًا منها “أنا تركي، أنا محقّ، أنا أعمل بجد”، هذا أعطى الحق لطفل مسلم آخر من أصل كردي أن يقول: “أنا كردي أيضًا، أنا أكثر صوابًا، أنا أكثر اجتهادًا”، ستنتقل السلطة إلى أيدي المؤمنين، وكل هذه الحقوق ستُعطى دون إراقة دماء”.
لكن في المقابل كان أربكان يحذّر من الدعم الأمريكي والإسرائيلي لإنشاء كيان كردي منفصل وإثارة الحروب بين دول في الشرق الأوسط، مع تأكيده على حقوق جميع مواطني الدولة التركية بالتنمية الاقتصادية والحياة الديمقراطية داخل حدود تركيا التي رسمتها حرب الاستقلال، كما وضع خطة صناعية لتنمية المناطق المتخلفة اقتصاديًّا جنوب شرق تركيا.
العهد الجديد بين الدولة التركية والأكراد
وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مع ظهور حكومة كردية إقليمية داخل العراق، وبعد أن تسبّبت الحلول الأمنية للمسألة الكردية بفقدان أكثر من 40 ألف شخص حياتهم كنتيجة للحرب المستمرة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، بالمقابل ازدادت النشاطات السياسية للجماعات الكردية بعد تهجير أكثر من مليون كردي من جبالهم وقراهم ورحيلهم نحو المدن.
دعا حزب العدالة والتنمية للبحث عن حلّ سياسي بتقديم إصلاحات ديمقراطية، بوصفها الطريق الوحيد للحفاظ على السلم الاجتماعي مع الحفاظ على الوحدة القومية التركية، وفي عام 2007 رفع أردوغان شعار ” شعب واحد، علم واحد، وطن واحد” الذي اُعتبر دعوة للتعددية في إطار وحدة قومية.
واستطاع حزب العدالة والتنمية الحصول على دعم انتخابي قوي في منطقة جنوب شرق الأناضول ذات الأغلبية الكردية، مع الحفاظ على دعم القوى القومية في الأناضول على سبيل المثال، وفي انتخابات 2011 فاز 70 عضوًا كرديًّا في البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية.
وبعد المبادرة التصالحية التي دشنتها الحكومة التركية بزعامة أردوغان، أصبح الأكراد يرون مستقبلهم في بلادهم بعيدًا عن الحلم الذي راودهم عقودًا بإنشاء كيانهم القومي، إذ صاروا يشعرون بإمكانية حصولهم على حقوقهم من خلال المفاوضات في تركيا، بعد صراع مرير مع الحكومات المتعاقبة طيلة أكثر من 30 عامًا سبقت وصول العدالة والتنمية للسلطة.
التنمية في المناطق ذات الأغلبية الكردية
عانت مناطق جنوب شرق الأناضول من التخلف الاقتصادي لعقود طويلة، ما أدّى إلى مشاكل اجتماعية وثقافية كبيرة بين أبناء سكان هذه المناطق، نتيجة لاستمرار المعارك والحملات العسكرية والمشاكل الأمنية لفترات طويلة.
كان الرئيس تورغوت أوزال (1983-1993) أول من قدّم رؤية استراتيجية جديدة لحلّ المسألة الكردية، وقدّم “مشروع جنوب الأناضول (GAP)”، وهو مشروع إنمائي يهدف إلى زيادة مستوى الدخل لسكان المنطقة، وتحسين ظروفهم المعيشية والقضاء على اختلافات التنمية الإقليمية.
يحكي مسلسل “الأرض الطيبة” الحياة اليومية لسكان الجبال ومعاناة وجودهم وسط الصراع بين الجنود الأتراك والمقاتلين الأكراد
الأحزاب السياسية الكردية
شهد عام 1990 تأسيس أول حزب سياسي كردي، تلاه تأسيس عدد من الأحزاب التي لم تستطع تجاوز عتبة دخول البرلمان (10%)، وتمَّ حل الكثير من الأحزاب لاتهامها بدعم الانفصاليين، لكن في عام 2012 تأسّس حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) بقيادة صلاح الدين دميرطاش، الذي حاز في انتخابات عام 2015 على 13.12% من الأصوات ليصبح ثالث أكبر كتلة برلمانية في البلاد.
وتتهم الحكومة التركية حزب HDP بدعم الإرهابيين، وأنه الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني، وتمّت محاكمة عشرات النواب ورؤساء البلديات التابعين للحزب بتهم تتعلق بدعمهم للإرهاب، تحديدًا لحزب العمال الكردستاني PKK الانفصالي المصنف في تركيا كتنظيم إرهابي، خاصة بعد المحاولة الانقلابية عام 2016، بمن فيهم زعيم الحزب دميرطاش الذي لا يزال يقبع في السجن.
النائبة الكردية ليلى زانا طلبت أداء القسم الدستوري في البرلمان باللغة الكردية (عام 1991)
حزب العمال الكردستاني (PKK)
تأسّس حزب العمال الكردستاني بشكل سرّي عام 1978، وبدأ نشاطه العسكري ضد المصالح التركية عام 1984، ويعمل وفق أيديولوجية ماركسية لينينية وانفصالية عرقية، اتخذ من جبال قنديل في كردستان العراق منطلقًا لعملياته، فيما بقيَ مؤسِّسه عبد الله أوجلان في سوريا حتى طُرد منها عام 1998، وغادر بعدها إلى كينيا حيث اعتقلته المخابرات التركية وحُكم عليه بالإعدام خُفّف فيما بعد للسجن المؤبّد.
شهدت الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي صراعًا داميًا بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي، كانت نتيجته تدمير آلاف القرى الكردية وواقعًا مأساويًّا لسكان المناطق القريبة من الاشتباكات، كما أن عمليات الحزب تشمل المدنيين من الأتراك والأكراد إضافة إلى السياح الأجانب.
وتتهم أنقرة حزب الشعوب الديمقراطي بمساعدة مسلّحي PKK على اختطاف الأطفال الأكراد من عائلاتهم وتدريبهم في الجبال على السلاح، وتجنيدهم في المعارك ضد جيش بلادهم.
تشارك عشرات الأُسر في الاعتصام المستمر منذ سبتمبر/ أيلول 2019 أمام مقر حزب الشعوب الديمقراطي في ديار بكر للمطالبة بإعادة أطفالهم المختطفين
كما تعتقد الحكومة التركية، بحسب تصريحات لإبراهيم كالن عام 2017، “أن حماية الأكراد من حزب العمال لا يعني فقط الاعتراف بحقوقهم ورفع مستويات معيشتهم، ولكن أيضًا حمايتهم من عنف واضطهاد حزب العمال. فأغلبية الأكراد في ديار بكر، هكاري، شرناق وغيرها من المدن ذات الحضور الكردي، تقول إنها تدعم الإجراءات الأمنية الأخيرة ضد حزب العمال وعناصره المسلحة في المناطق الحضرية، لأنها تمنحهم إحساسًا بالحياة الطبيعية وأملًا بالمستقبل”.
الظاظا
هم جماعة عرقية أصيلة في الأناضول، تتضارب المصادر حول أصولهم، لكنهم عاشوا قرونًا جنبًا إلى جنب مع الأكراد في مجتمع عرقي واحد، وأصبحوا قريبين ثقافة ولغة، وعانت أقلية الظاظا أيضًا من سياسات التتريك التي انتهجها أتاتورك لعقود، ولم يسمح لهم بنشر الكتب والمجلات بلهجتهم الخاصة.
لكن مع رفع الحظر بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ازداد عدد المنشورات المكتوبة والمرئية بلهجة الظاظا “ظاظاكي” القريبة من اللغة الكردية، وتعتنق الغالبية منهم الإسلام منقسمين بين المذهب السنّي والمذهب العلوي.
نجاتي شاشماز (مراد علم دار) من أشهر وجوه الدراما التركية من أصول الظاظا
أحمد كايا.. مثال للنضال الثقافي الكردي في تركيا
خلال إجابته عن أسئلة الصحفيين، وبعد عودته من مجموعة قمة العشرين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال أردوغان إن عرض حكومته بإعادة رفات الفنان الشهير أحمد كايا إلى موطنه تركيا من مكان وفاته في باريس، لا يزال موجودًا في حال موافقة عائلته.
أردوغان الذي تعرّض للسجن والحرمان من الحياة السياسية أيضًا بسبب شعر ألقاه، ذكر أحداث الليلة التي هوجم فيها أحمد كايا أثناء تسلُّمه جائزة أفضل فنان عام 1999: “لا يمكننا أن ننسى ما حدث تلك الليلة، اعذروني، يغضب البعض من قولي هذا، لكن هؤلاء هم الأتراك البيض، ومعروف للجميع ما الذي فعلوه”.
تأثّر كايا بانقلاب 1997 الذي أطاح بنجم الدين أربكان، وانتقد وضع الديمقراطية والحقوق في البلاد، وفي ليلة تسلُّمه جائزة أفضل فنان أعلن أصوله الكردية وأنه سيغني بالكردية وينتج أغاني بلغته الأمّ التي أحبها، فهاجمه بعض الفنانين الموجودين واتهموه بالخيانة، وسُجن على إثر هذه الحادثة بتهمة إثارة العنصرية.
ليغادر بعدها تركيا إلى فرنسا التي توفي فيها بعد فترة قصيرة جدًّا، بعمر لم يتجاوز 30 عامًا، وله أكثر من 30 إصدارًا مليئة بالرمزيات والأحزان.
أخيرًا.. تستعد تركيا، لأهم جولة انتخابية في تاريخها الحديث، منتصف مايو/أيار المقبل 2023، يشارك فيها 11.5 مليون ناخب كردي من أصل 65 مليون ناخب، وتعد أصوات الكتلة الكردية حاسمة لاختيار رئيس الجمهورية وتحديد الأغلبية في البرلمان، إذ لا تتحرك بشكل متجانس في خياراتها السياسية، بل تتأثر بعدة عوامل منها مناطق إقامة الناخب الكردي في المدن الكبرى أم في المناطق الشرقية، التي يميل فيها الناخبون لمنح أصواتهم لحزب العدالة والتنمية كما حدث في انتخابات البلديات 2019، ويشير هذا لثقتهم بالرئيس التركي ومعالجته للمسألة الكردية سلميًا، ورغبتهم بحل المشكلة الكردية تحت سقف الدولة بعيدًا عن المشاريع الانفصالية.