تعاني آلاف العائلات في الشمال السوري بسبب انخفاض درجات الحرارة وغياب مواد التدفئة، نتيجة الظروف المعيشية المتردية التي ترزح تحتها، وهي التي تعاني أساسًا من انتشار البطالة والفقر وانخفاض مستوى الدخل وغياب الاستقرار المعيشي، فضلًا عن ارتفاع أسعار مواد التدفئة إلى مستويات قياسية.
ورغم مرور أكثر من أسبوعَين على دخول فصل الشتاء وانخفاض درجات الحرارة، لم يكن بمقدور السيد عبد الرحمن العيد تركيب مدفأة في الغرفة التي تعيش بها أسرته المكوّنة من 7 أفراد في بلدة تلالين شمالي مارع بريف حلب الشمالي، نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات وعدم قدرة دخله الشهري على شراء برميل واحد من المازوت.
قال العيد خلال حديثه لـ”نون بوست”: “أعمل مدرّسًا في مدرسة البلدة، وأحصل على مرتب شهري لا يتجاوز الـ 55 دولارًا، وهو بالكاد يغطي تكاليف معيشة أسبوع واحد من الشهر، كيف يمكنني شراء برميل مازوت يتراوح سعره في السوق بين 100 و125 دولارًا بحسب الجودة”.
وأضاف: “إن الظروف المعيشية التي تمرُّ بها الأُسر السورية قاسية جدًّا، وتكاليف المعيشة باتت مرهقة ولا يمكنهم تغطية كافة الاحتياجات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها”، لذلك في حال اشتد البرد وحصل مالًا، يفكر الرجل في شراء المازوت باللتر لتشغيل المدفأة التي سيضعها لاحقًا في منزله.
لا يختلف حال محدّثنا عن حال العديد من الأسر السورية التي تقيم في المدن والبلدات والقرى والمخيمات التي تكون فيها المعيشة أشد قسوة شمال سوريا، الذي يمتد من إدلب حتى مدينة جرابلس شمال شرقي حلب، فمصطفى سرجاوي رجل من ريف إدلب الجنوبي، يسكن في مخيم عشوائي بالقرب من مدينة أعزاز، ويعيل أسرة مكوّنة من 9 أفراد، ويعتمد على عمله في المياومة كمصدر دخل معيشي لإعالة أسرته.
قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن عملي في المياومة غير مستقر وكثيرًا ما أعود إلى المنزل دون ثمن ربطة خبز، وعندما أعمل أحصل على مبلغ يتراوح بين 40 و60 ليرة تركية (3 دولارات)، وهذا المبلغ لا يغطي تكلفة طهي وجبة طعام لأسرتي، لذلك لا أستطيع تحمل نفقة التدفئة”.
سيعتمد الرجل على الحطب وبقايا الكرتون وأكياس النايلون التي يجمعها أبناؤه من الشوارع لتشغيل المدفأة خلال الشتاء، وكثيرًا ما يستخدم الرجل الأحذية وغيرها من الأشياء القابلة للاحتراق في المدفأة للشعور بقليل من الدفء مع انخفاض درجات الحرارة ليلًا.
يعتمد الشمال السوري على مصدرَين رئيسيَّين للمحروقات، المصدر الأول مستورد من الأراضي التركية أما المصدر الثاني فهو الفيول الخام من آبار النفط السورية
تعدّ مادة المازوت من أبرز مواد التدفئة الآمنة التي يعتمد عليها الأهالي في تشغيل مدافئهم خلال فصل الشتاء، بينما تنخفض نسبة استخدام الأنواع الإضافية الأخرى مثل الكاز والحطب والفحم وقشور المكسرات وبقايا تكرير المحروقات، إضافة إلى بقايا عجوة الزيتون (البيرين) وفقًا لتسعيرة الطن الواحد منها، فقد اضطرت الكثير من العائلات إلى استخدام وسائل تدفئة غير آمنة وتسبّبت في اندلاع حرائق وانتشار الأمراض التنفسية.
ومؤخرًا شهدت المحروقات ارتفاعًا بأسعارها في مختلف مدن المناطق المحررة منذ مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، نتيجة ازدياد طلب الأهالي على المحروقات وعلى رأسها المازوت، الذي شكّل ارتفاع سعره صدمة كبيرة لهم كونهم يكابدون كل شتاء في تأمين مواد التدفئة المتنوعة لمنازلهم بحثًا عن النوع الأقل تكلفة مالية، لكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى استخدام ما توفّره الأسواق حتى بأسعار خيالية غير متناسبة مع مصادر الدخل المتاحة.
تجارة المحروقات تغني اقتصادات الفصائل
تعدّ المحروقات من أهم المنتجات التي يجري استثمارها في ريفَي حلب وإدلب شمال غربي سوريا، من قبل السلطات المحلية المتمثلة بفصائل الجيش الوطني المنتشرة شمال حلب، وهيئة تحرير الشام في إدلب، إذ توفر المحروقات ونقلها وتكريرها مردودًا ماليًّا ضخمًا، ويشهد تزاحم فصائل الوطني والهيئة للحصول على الحصة الأكبر من مردودها.
يعتمد الشمال السوري على مصدرَين رئيسيَّين للمحروقات، المصدر الأول مستورد من الأراضي التركية ويدخل منطقة إدلب الخاضعة لسيطرة تحرير الشام من معبر باب الهوى، فيما تدخل منطقة ريفَي حلب الشمالي والشرقي، الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، من معبر باب السلامة، أما المصدر الثاني فهو الفيول الخام من آبار النفط السورية شمال شرق البلاد.
تدخل المحروقات القادمة من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي سوريا من معبر الحمران بريف منبج شمال شرقي حلب، عبر تاجر ينسّق دخولها يعرَف بـ”آل خليفة”، ويحصل على حماية من الفيلق الثالث الذي سيطر على المعبر، فيما تشرف على إدارة منطقة الحراقات شركة إمداد التابعة للفيلق الثالث، التي تورّد المحروقات إلى ريف حلب وإدلب بالتنسيق مع شركة وتد التابعة لهيئة تحرير الشام.
يسيطر الفيلق الثالث على معبر الحمران منذ انتهاء عملية درع الفرات مطلع عام 2017، ويعمل على توريدها للسوق في الشمال السوري ويحصل على إتاوات، إلى جانب العديد من الفصائل التي تنشر حواجزها في المنطقة. لكن ما حصل مؤخرًا من خلافات فصائلية ودخول الهيئة إلى منطقة عفرين، تسبّب في خسارة الفيلق الثالث معبر الحمران ومنطقة الحراقات في ترحين لصالح حركة أحرار الشام القاطع الشرقي المتحالفة مع فرقتَي الحمزة وسليمان شاه، بحسب ما أوضح الناشط أحمد البرهو.
يسعى كل فصيل عسكري إلى تحصيل مبالغ مالية عبر حواجزه من كل برميل خلال مروره من الحواجز التابعة له
أضاف البرهو خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تعدّ المحروقات من أهم مصادر التمويل التي تعتمد عليها الفصائل، لذلك تتواصل الخلافات والاقتتال بغية الحصول على خطوط الإمداد الرئيسية للمحروقات والتي تغدق عليها بالمال، دون الاهتمام بالكوارث التي تسبّبها للأهالي جرّاء الإتاوات المفروضة التي تضاعف أسعار المحروقات”.
وعقب الاجتماع التركي مع قادة فصائل الوطني لحلّ الخلافات وإنهاء وجود هيئة تحرير الشام في منطقة عفرين، انضمت أحرار الشام القاطع الشرقي وفرقتا الحمزة وسليمان شاه إلى الفيلق الثاني بقيادة فهيم عيسى، وأصبح المعبر تحت سيطرة الفيلق الثاني في الجيش الوطني واقتصر وجود الفيلق الثالث في أعزاز، حيث يفرض رسوم مالية على المازوت العابر إلى عفرين وإدلب.
الإتاوات تضاعف أسعار المحروقات
تسبّبت التحركات العسكرية الأخيرة لهيئة تحرير الشام وسيطرتها على منطقة عفرين، خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في خلط الأوراق وتغيُّر مراكز القوى والانتشار بين فصائل الجيش الوطني، ما ساهم في ارتفاع أسعار المحروقات نتيجة الخلافات الفصائلية وتكثيف عدد الحواجز وارتفاع سقف الإتاوات، إذ يسعى كل فصيل عسكري إلى تحصيل مبالغ مالية عبر حواجزه من كل برميل خلال مروره من الحواجز التابعة له، إضافة إلى ترسيم المجالس المحلية التي تتراوح بين 1 و2 دولار أمريكي على كل برميل يعبر مركز إدارة كل مجلس.
تحدّث موقع “نون بوست” إلى تاجر محروقات في منطقة ريف حلب الشمالي والشرقي، يُدعى محمد أحمد الفؤاد، عن تكاليف نقل وتكرير المازوت والإتاوات التي تتقاضها الفصائل عبر المعابر والحواجز المنتشرة في منطقة ريف حلب الشمالي.
الشركات التي تستورد المحروقات والتابعة لهيئة تحرير الشام تحتكر استيرادها وترفع من تسعيرة البرميل 20 دولارًا عن الأسعار في ريف حلب الشمالي،
قال الرجل خلال حديثه: “تدخل المحروقات إلى منطقة ريف حلب مادة خامة (فيول)، وتُباع بالطنّ، حيث يصل سعر الطن من الفيول نوع رويس من آبار محافظة دير الزور نحو 340 دولارًا، بينما يبلغ سعر الطن الفيول من حقل رميلان في الحسكة 410 دولارات، ويعادل الطن الواحد نحو 4.5 براميل، وهي 990 لترًا”.
وأضاف: “يفقد الطن نحو 25% من الشوائب والمواد الأخرى التي تخرج منه، ما يعادل برميلًا أثناء عملية التكرير، ويكلف تكرير البرميل إلى جانب مرابح صاحب المحطة بين 10 و15 دولارًا، ويباع للتاجر من منطقة الحراقات بحسب الجودة والنوع بسعر يتراوح بين 85 و110 دولارات”.
وأوضح: “تتراوح أجور نقل برميل المازوت بحسب مسافة المنطقة المنقول إليها بين 2 و5 دولارات و2 دولار مرابح التاجر، بينما يضاف إليها إتاوات تُدفع لفصائل الوطني أولها في منطقة الحراقات 2 دولار أمريكي على كلّ برميل، ثم يحصل كل فصيل لديه حاجز على الطرق الرئيسية على 1 أو 2 دولار على كل برميل، ومثلها كان يحصل عليها الفيلق الثالث في منطقة أعزاز في حال مرورها إلى عفرين”.
يصل سعر برميل المازوت المكرر من الجودة الممتازة إلى المستهلك في منطقة أعزاز بـ 120 دولارًا، بينما يرتفع سعره في منطقة عفرين إلى 122 دولارًا بسبب حصول مجلس أعزاز على 2 دولار أمريكي على كل برميل يتّجه إلى عفرين، بينما يحصل مجلس عفرين على 1 دولار عن كل برميل مازوت يتجه إلى منطقة إدلب.
وأكّدت مصادر خاصة لـ”نون بوست” من إدلب، أن الشركات التي تستورد المحروقات والتابعة لهيئة تحرير الشام تحتكر استيرادها وترفع من تسعيرة البرميل 20 دولارًا عن الأسعار في ريف حلب الشمالي، وهناك نوعان من المحروقات الخاصة بالتدفئة، وهما: نوع رديء جدًّا يصل سعر البرميل الواحد منه 117 دولارًا، بينما النوع المحسّن يصل سعر البرميل الواحد منه 145 دولارًا.
في المحصلة، تعدّ مناطق الشمال السوري بيئة مناسبة للاحتكار والاستغلال التجاري، سواء لتجّار الحرب أو الذي تقف خلفه سلطات الأمر الواقع التي تبدو بعيدة كل البُعد عن تأمين متطلبات الحياة اليومية للأهالي الذين يعانون الفقر والعوز وضنك العيش، دون وجود مبادرات حقيقية لتحسين واقع السوريين وإنهاء معاناتهم.