تعاظمت أهمية معدن الكوبلت مع التحول الطاقوي الذي ينشده العالم، هروبًا من مخاطر الانبعاثات والتغيرات المناخية، كونه أحد المصادر الرئيسية المستخدمة في توليد الطاقة النظيفة، إذ يتميز بصلابته واستقراره ومقاومته للتآكل، فضلًا عن خصائصه المقاومة لدرجات الحرارة المرتفعة.
ويعد هذا المعدن الذي يوصف بـ”الذهب الأزرق” المكون الرئيسي في تصنيع البطاريات القابلة للشحن، وفق التقرير الصادر عن مؤسسة فيتش سوليوشنز العالمية للدراسات الاقتصادية، الذي كشف عن التأثير القوي للكوبلت في مستقبل صناعة الاتصالات والإلكترونيات بصفة عامة، ما جعله ساحة جديدة للتنافس بين القوى الاقتصادية الكبرى.
ومنذ عام 2016 دخل الكوبلت كأحد المعارك المهمة في الحرب الاقتصادية بين القوتين، الولايات المتحدة والصين، ففي هذا العام استحوذت بكين على شركة “فريبورت ماكموران” الأمريكية التي تستحوذ على واحد من أكبر مناجم الكوبالت في العالم بجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأبرمت معها صفقة هيمنت من خلالها على المنجم الكونغولي لتفرض كامل سيطرتها على إمدادات الكوبلت العالمية، وهو ما أثار حفيظة صانع القرار الأمريكي الذي استشعر الخطر إزاء تمادي النفوذ الصيني في سوق المعادن الإستراتيجية بما يهدد المصالح الأمريكية مستقبلًا.. فماذا عن هذا المعدن الحيوي؟
ما هو الكوبلت؟
يرمز للكوبلت بـ”CO” وعدده الذري في الجدول الدوري (27) ويدخل ضمن مجموعة الحديد التي تشمل معهما النيكل في ثلاثية واحدة، نظرًا للخصائص المشتركة بينهم في الصلابة والمقاومة الكبيرة، وهو عنصر فلزي كيميائي ذو لون أبيض فضي، ويوجد في القشرة الأرضية بكميات ليست بالكبيرة كما يظهر في مركبات مشتركة مع الزرنيخ أو الأكسجين أو الكبريت.
يعود اكتشاف الكوبلت إلى عام 1735 على يد العالم السويدي كيورك برانت (1694 – 1768م)، ولم يكن معروفًا في ذلك الوقت، كما أن خصائصه لم تكن واضحة بصورة كاملة، ما جعل برانت يسميه بداية الأمر “شبه فلز”، وكان أزرق اللون، لذا استخدم ابتداءً في صناعة الزجاج، وأثبت الباحثون أنه كان موجودًا قبل قرون طويلة، لكنه كان ممزوجًا بالبزموت، ومن ثم يصنفه الكيميائيون بأنه أول فلز يكتشف منذ الأزمنة القديمة.
لم يكن الكوبلت بالمعدن المغري لشركات التعدين قديمًا خاصة أنه لم يكن متوافرًا بكميات كبيرة، ففي القرن التاسع عشر نقل الجزء الأكبر منه إلى النرويج وهو ما أثر عليه بصورة ملحوظة، حتى تعرض لغياب شبه تام عن خريطة التعدين في القارة الأوروبية، لكن اكتشافه مجددًا عام 1904 في كندا ثم 1914 في الكونغو الديمقراطية بكميات كبيرة دفع العالم للاهتمام به مرة أخرى، رغم الانتقادات التي تعرض لها بسبب اعتبار صبغته شديدة السمية، ما دفع لاستحداث طرق متطورة لإعادة تدوير مواد الكوبلت.
وبعد الحرب العالمية الثانية أولت الولايات المتحدة أهمية كبيرة لهذا المعدن بعد اتساع دائرة استخداماته لتصل إلى الصناعات العسكرية، وبدأت بالفعل في إجراء عمليات تنقيب متعددة في ولاية أيداهو بالقرب من بلاكبيرد كانيون في جانب أحد الجبال، وبدأت شركة كاليرا للتعدين الإنتاج في الموقع.
الأهمية الإستراتيجية
خلال السنوات العشرة الماضية ظهرت مجالات عدة لاستخدامات الكوبلت، فبعيدًا عن استخدامه لإكساب الزجاج والسيراميك اللون الأزرق، إذ ينسب البعض للفراعنة استخدامه في التماثيل التي صنعوها، كما استعمله الفرس في الألف الثالثة قبل الميلاد لصناعة المجوهرات، وكذلك الصينيون وغيرهم، فإن له استخدامات أكثر تطورًا.
ومن أبرز الاستخدامات التي زادت من أهمية الكوبلت ودفعت العالم للاهتمام به والبحث عنه، دوره الكبير في صناعة بطاريات الهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة الإلكترونية المحمولة والسيارات الكهربائية، كما استعمل في اللوحات الرقمية، وتحول هذا المعدن إلى محط اهتمام كبرى شركات التعدين العالمية، بجانب التنافس الذي يحظى به من شركات الاتصالات والإلكترونيات بعدما بات لاعبًا أساسيًا في هذا المضمار.
يُستغل قرابة 25% من إجمالي الكوبلت المنتج عالميًا في صناعة المغانط
ورغم أهميته الإستراتيجية، فإن عملية إنتاجه تواجه العديد من العقبات أبرزها عدم خضوعه لتعليمات سوق التجارة، فهو غير مدرج على قائمة المعادن المتسببة في الصراعات الدولية كالذهب والنيكل والقصدير وخلافه وهو ما يضفي التعقيد على عملية الاستخراج والتنقيب، ومن ثم التبادل التجاري بين البلدان، وهي المعضلة التي تحاول شركات التعدين حلها لإنعاش سوق الكوبلت بعد تصاعد أهميته وارتفاع أسعاره بشكل جنوني خلال السنوات الأخيرة.
ويُستغل قرابة 25% من إجمالي الكوبلت المنتج عالميًا في صناعة المغانط، إذ يسهم بشكل كبير في السبائك والفولاذ حيث يشكل ما بين 20- 40% من حجمها، بما يؤهلها للاستخدام في صناعة النحاس والألمونيوم، وهي التي تستخدم في صناعة الأجهزة الكهربائية، أما السبائك التي تحتوي على 60 – 65% من الكوبلت فتستخدم في صناعة الإلكترونيات.
خريطة الإنتاج
يبلغ إنتاج العالم من الكوبلت نحو 140 ألف طن وفق تقديرات 2019، فيما تتصدر جمهورية الكونغو الديمقراطية قائمة المنتجين بـ100 ألف طن، بما يمثل أكثر من 70% من الإنتاج العالمي للمعدن النفيس، حيث تحتوي مقاطعة “كاتانغا” الكونغولية على أكبر مناجم الكوبلت في العالم، كما أنها تملك الحصة الكبرى من الاحتياطي العالمي الذي يبلغ 7.1 مليون طن متري وفق تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية.
وتأتي روسيا في المرتبة الثانية بإنتاج يبلغ 6.1 ألف طن بما يمثل نحو 4% فقط من الكوبالت المُنتج عالميًا، ويتركز هذا المعدن في منطقة جمهورية ألتاي، التي يوجد بها منجم “كاراكول”، كما يمتلك الروس حجم احتياطي يبلغ 250 ألف طن، في ظل مساعي الدولة لتعزيز إنتاجها من المعدن خلال السنوات المقبلة نظرًا للطلب الزائد عليه.
وفي المركز الثالث تأتي أستراليا بحجم إنتاج يبلغ 5.1 ألف طن بما يمثل 3.6% من الإنتاج العالمي، إلا أنها تملك ثاني أكبر احتياطيات للكوبالت في العالم بعد الكونغو الديمقراطية، التي تبلغ 1.2 مليون، تليها الفلبين في المركز الرابع بحجم إنتاج بلغ 4.6 ألف طن بما يمثل نحو 3.3% من الإنتاج العالمي، ورابع أكبر احتياطي في العالم، يبلغ 260 ألف طن.
من أبرز الاستخدامات التي زادت من أهمية الكوبلت ودفعت العالم للاهتمام به والبحث عنه، دوره الكبير في صناعة بطاريات الهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة الإلكترونية المحمولة والسيارات الكهربائية
وتحل كوبا خامسًا بإنتاج يبلغ 3.5 ألف طن بنسبة 2.5% من الإنتاج العالمي، فيما تملك ثالث أكبر احتياطي الذي يبلغ 500 ألف طن، ويوجد معظمه في منطقة موا شرق البلاد، ثم مدغشقر سادسًا بحجم إنتاج بلغ 3.3 ألف طن بما يمثل نحو 2.4% من الإنتاج العالمي للكوبالت، ويُقدر احتياطي الدولة من هذا المعدن بـ120 ألف طن، ويتركز في مشروع “أمباتوفي” لتعدين النيكل والكوبالت، الذي تبلغ تكلفته نحو 8 مليارات دولار.
ثم تحل بابوا غينيا الجديدة في المرتبة السابعة بحجم إنتاج 3.1 ألف طن بما يمثل 2.2% من الإنتاج العالمي، وتمتلك الدولة احتياطي كوبالت يبلغ 56 ألف طن، تليها كندا التي يبلغ إنتاجها 3 آلاف طن بما نسبته 2% لكنها تملك احتياطي ضخم من المعدن، يتجاوز حجمه 230 ألف طن.
زيادة الطلب
منذ عام 2020 تواصل أسعار الكوبلت ارتفاعها بشكل ملحوظ، فيما يتوقع استمرار هذا الارتفاع خلال الأعوام الثلاث المقبلة وفقًا لتقرير مؤسسة “فيتش سوليرشنز” التي أشارت إلى أن الانتشار المتسارع في إنتاج السيارات الكهربائية سيؤدي إلى زيادة الطلب العالمي على كبريتات الكوبلت على المدى القصير والمتوسط رغم وفرة الإمدادات التي تغذي المشروعات الحاليّة، غير أن زيادة تلك المشروعات مستقبلًا يتوقع أن تزيد معها الكميات المطلوبة من المعدن.
وأشار التقرير إلى أن هناك زيادة في إنتاج المشروعات التي تعتمد على الكوبلت في غضون 3 إلى 5 سنوات فصاعدًا، وعليه فإن الأسعار ستواصل تصاعدها نتيجة تسارع وتيرة الطلب، منوهًا أن ثورة البطاريات ستحدد اتجاهات إنتاج الكوبالت، الذي من المتوقع أن يُحوَّل إلى أشكال كيميائية تُستخدم في البطاريات القابلة للشحن، بدلًا من الاستخدام في الصناعات الأخرى.
ومع التوجه نحو زيادة الإنتاج من السيارات الكهربائية في ضوء التوجه العالمي نحو التحول الطاقوي، مع تقليل استخدام العناصر الضارة بالبيئة المستخدمة في صناعة الأجهزة الإلكترونية، بات الكوبلت قبلة العالم اليوم، والهدف الأبرز للعبور نحو المستقبل، وهو ما يتوقع معه أن تشهد الساحة الاقتصادية تنافسًا شرسًا بين القوى الكبرى.
ووفق خريطة الإنتاج ربما تملك أستراليا نموًا كبيرًا في قطاع إنتاج الكوبلت، لكن اتساع رقعة المشروعات لديها ربما يستحوذ على الجزء الأكبر من هذا الإنتاج، ما يتطلب المزيد منه، الأمر كذلك في أوروبا وأمريكا الشمالية، فرغم النمو المحدود للإنتاج هناك، فإن التوجه نحو الصناعات الإلكترونية وتكنولوجيا الاتصال سيزيد من الطلب على الكوبلت، وهو ما يمكن أن يتسبب في أزمة حقيقية إن لم يتم تلبية تلك الاحتياجات.
ويواجه سوق إنتاج الكوبلت انتقادات حادة بسبب الظروف الصعبة والقاسية التي يتعرض لها العاملون في هذا القطاع، فقد شنت بعض المنظمات الحقوقية هجومها على الدول والشركات المنتجة للمعدن، لافتة إلى أن العمال لا تتوافر لديهم أدوات وأجهزة الحماية الشخصية، بجانب أن أجورهم زهيدة ويعملون لساعات طويلة.
المنظمات كشفت أن ظروف إنتاج الكوبلت غير صحية ويمكنها إصابة العاملين بأمراض خطيرة كالسرطان وتسمم الدم وتلف الرئتين، هذا بخلاف استغلال الأطفال في هذا القطاع، إذ تقول التقارير إن نحو 20% من المناجم التي يستخرج منها الكوبالت لا تراعى فيها الظروف الإنسانية للعاملين، فيما تشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إلى أن عدد الأطفال العاملين في تلك المناجم يبلغ نحو أربعين ألف طفل، بعضهم عمره سبع سنوات فقط، ويتعرضون لظروف قاسية جدًا خلال عملهم في المناجم قد تصل إلى أن بعضهم لا يشاهد ضوء الشمس لأيام طويلة.
الكونغو.. معركة أمريكية صينية
رغم التنافس بين القوى الاقتصادية الكبرى لأجل السيطرة على حصة جيدة في احتياطي الكوبلت في كل من كوبا وأستراليا والفلبين، فإن المعركة الأكثر شراسة تدور داخل مناجم الكونغو الديمقراطية بين الولايات المتحدة والصين، التي وصلت إلى اعتبار هذا الملف ضمن ملفات الأمن القومي شديدة الخطورة.
على مدار عقود طويلة كانت الولايات المتحدة تهمين بشكل كبير على قطاع التعدين في الكونغو، بجانب بعض الدول الإفريقية الأخرى، حيث أولت واشنطن اهتمامًا بالغًا بتلك المناطق في إطار المنافسة مع الاتحاد السوفيتي وقطع كل الطرق أمامه في سبيل السيطرة على النحاس والكوبلت واليورانيوم في بلدان القارة السمراء.
وبعد انهيار الاتحاد وتفتت بلدانه، شعر الأمريكان بشيء من الارتياح والراحة معًا، فتراجع الاهتمام بالدولة الإفريقية، لتجد الصين فرصتها السانحة نحو الدخول بكل قوة لمنافسة واشنطن في سباق التعدين الإفريقي.
وبعد المليارات التي أرسلتها الولايات المتحدة منذ أيام أيزنهاور ونيكسون وكلينتون وصولًا إلى بوش الابن، تراجع الدعم بشكل ملحوظ في أواخر عهد باراك أوباما، وعامًا تلو الآخر، فقدت الولايات المتحدة نفوذها التعديني في الكونغو، وصولًا إلى عام 2016 حين استحوذت شركة “China Molybdenum” الصينية على شركة (فريبورت ماكموران) الأمريكية، وبالتالي استحوذت على المنجم المعروف باسم Tenke Fungurume الذي كان مملوكًا للشركة الأمريكية، لتتحكم الصين رسميًا في إمدادات الكوبلت العالمية، إذ إن الكونغو وحدها تنتج 70% من الإنتاج العالمي كما ذكرنا.
المملكة المغربية تحتل المرتبة الحادية عشر عالميًا في حجم الاحتياطي العالمي من الكوبلت بنحو 17.6 ألف طن
الضربة الصينية أثارت حفيظة بعض الدبلوماسيين الأمريكيين الذين دقوا ناقوس الخطر إزاء هذا الانقلاب الكبير في التوجه الأمريكي صوب القارة الإفريقية، والهيمنة الصينية على مقدرات القارة، بما يهدد مصالح بلادهم في القارة من جانب ويقوض مساعيها نحو الريادة والتربع على عرش الاقتصاد العالمي من جانب آخر.
ومؤخرًا بدأ الأمريكان في إعادة النظر في موقفهم إزاء الكونغو والدول التي تمتلك ثروة تعدينية من المتوقع أن تكون عصب الاقتصاد المستقبلي، كزامبيا وتنزانيا وزيمبابوي، بجانب جنوب إفريقيا وبعض دول شرق القارة ممن يملكون احتياطيًا كبيرًا من المعادن الإستراتيجية التي تزخر بها القارة السمراء، على أمل مناهضة التمدد الصيني في تلك البلدان في إطار صراع النفوذ الاقتصادي بين القوتين.
وتدخل فرنسا هي الأخرى على خط المنافسة على الكوبلت، لكن ساحتها هذه المرة في الشمال، بعيدًا عن مناطق النزاع الأمريكي الصيني في الوسط والجنوب، حيث أبرمت شركة رينو الفرنسية اتفاقًا مع مجموعة المناجم المغربية على تزويد المجموعة الفرنسية بـ5000 طن من كبريتات الكوبالت المغربي سنويًا، وعلى مدى سبع سنوات ابتداءً من سنة 2025 بعدما زاد الطلب على المعدن وفي ظل توجه باريس في تعزيز حضورها في سوق السيارات الكهربائية وقطاع الاتصالات والإلكترونيات.
يذكر أن المملكة المغربية تحتل المرتبة الحادية عشر عالميًا في حجم الاحتياطي العالمي من الكوبلت بنحو 17.6 ألف طن، بينما تنتج سنويًا قرابة ألفي طن، وكانت مجموعة المناجم المغربية قد أبرمت قبل ذلك عقودًا مع شركة “جلينكور” الأنجلو-سويسرية، بهدف افتتاح مصنع لإعادة تدوير الكوبالت في ضواحي مدينة مراكش، في محاولة لتعزيز صناعة البطاريات القابلة للشحن سواء للسيارات الكهربائية أم مختلف الأجهزة الإلكترونية والهواتف.