تأتي زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى طهران، كمحطة ثالثة بعد الكويت والأردن، لتشكّل بدورها زيارة مثقلة بالعديد من الملفات الداخلية والخارجية، خصوصًا أنها تأتي مع استمرار الهجمات الإيرانية على مواقع المعارضة الكردية الإيرانية في إقليم كردستان، إلى جانب تهديدات إيرانية بتنفيذ عملية عسكرية برّية داخل العراق، على لسان قائد قوة القدس، إسماعيل قاآني، في زيارته الأخيرة إلى بغداد.
الأكثر من ذلك، تمثّل هذه الزيارة اختبارًا حقيقيًّا في مدى قدرة السوداني على ضبط السلوك الإيراني داخل العراق، فخلال الفترة الماضية، وعقب اغتيال قائد قوة القدس السابق في بغداد، قاسم سليماني، مارست طهران سلوكًا ضاغطًا على حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، فقد تصاعدت الهجمات الصاروخية على عدة مواقع أمريكية في العراق، وكان أبرزها الهجوم الصاروخي الذي طال مواقع مختلفة في أربيل في مارس/ آذار 2021، عندما استهدفت صواريخ الحرس الثوري منزل رئيس شركة كار للغاز، باز كريم.
معضلة التوافق مع إيران
يهدف الدور الإيراني في العراق وضمن افتراضات التحوُّط الاستراتيجي، إلى ضمان وحماية متطلبات الأمن القومي، والحفاظ على سلامة المصالح الحيوية الإيرانية، وينطوي هذا الدور على عدد من الأهداف والأولويات الاستراتيجية مختلفة الاتجاهات، والتي تصبُّ بمجملها في تحقيق المصلحة القومية العليا في العراق، عبر التأثير السياسي، والسيطرة الاقتصادية، والحدّ من المنافسين الإقليميين، فضلًا عن إنهاء اللعبة المزدوجة مع الولايات المتحدة في العراق، وهي أهداف وأولويات بدأت حاضرة بقوة على أجندات إيران في زيارة السوداني الحالية.
يدرك السوداني جيدًا أن التوصل لخطوط واضحة مع إيران في العراق، قد يسهّل عليه إدارة الحكومة العراقية خلال الفترة المقبلة، ورغم أنه أعلن قبيل زيارته لطهران أنه مرشّح الإطار التنسيقي الشيعي لرئاسة الوزراء، وأنه غير متحرّج من هذا الانتماء، إلا أن هذا لا يمنع من القول إن الفصائل الولائية الممثلة عبر أجنحتها السياسية داخل الإطار التنسيقي، قد تكون لديها رغبات مختلفة عن إيران في بعض الملفات، وهو ما قد يعقّد مهمة السوداني في كيفية إدارة العلاقة بينها وبين رغبات إيران في العراق.
ونظرًا إلى الأهمية الاستراتيجية التي توليها إيران للعراق، كانت هناك العديد من الأولويات الاستراتيجية التي حاولت إيران المحافظة عليها، رغم التحديات التي واجهتها بعد سليماني، وهي الأولويات التي ستكون حاضرة بقوة أيضًا خلال فترة السوداني، والتي يأتي في مقدمتها السعي للحفاظ على النفوذ الإيراني في العراق، ومواجهة تداعيات أي عملية انفتاح عراقي على محيطَيه العربي والدولي، وتحديدًا على مستوى الاقتصاد والتجارة والطاقة.
بالإضافة إلى إفشال أي مساعٍ إقليمية تحاول إبعاد العراق عن الدور الإيراني، وتحييد الاندفاعة العربية التي تحاول استقطاب العراق بعيدًا عن إيران، مثل المشاريع الإقليمية التي ظهرت خلال حكومة الكاظمي، وأبرزها “مشروع الشام الجديدة”، فضلًا عن الحضور العربي القوي في العراق، الذي تمثل بمؤتمر قمة “بغداد للتعاون والشراكة” في أغسطس/ آب 2021.
حرصت إيران أيضًا على تسريع عملية إخراج القوات الأمريكية من العراق، وهي أولوية حظيت بدعم واهتمام الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، المدعوم من الحرس الثوري، كمحاولة لإنهاء اللعبة المزدوجة مع الولايات المتحدة في العراق، عبر زيادة وتيرة الضغط السياسي والعسكري، وتمكين الفصائل المسلحة القريبة منها في الداخل العراقي، من خلال دعم جهود الإطار التنسيقي بتشكيل الحكومة الجديدة، والاستحواذ على المناصب الحكومية المؤثرة، وهي أولوية أكّد عليها رئيسي خلال لقائه بالسوداني في طهران.
رسالة خليجية في حقيبة السوداني
قال الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية على هامش زيارة السوداني، ناصر كنعاني، إن الزيارة تهدف إلى متابعة الحوار الثنائي بين البلدَين في المواضيع الاقتصادية والتجارية والسياسية، والمشاركة في اللجنة العليا المشترَكة بين البلدَين، مضيفًا أن الطرفَين سيبحثان ملفات المياه والحدود والقصف الإيراني الذي يستهدف الإقليم، إلا أن هذا لا يُخفي أن السوداني يحاول الاستمرار على النهج ذاته الذي سارت عليه حكومة الكاظمي، عبر الاستمرار في جولات الحوار السعودي الإيراني في بغداد، بعد أن توقّفت عند جولتها الخامسة.
أشارت أيضًا بعض المصادر إلى أن طهران ستجدّد للسوداني التفويض الذي كان ممنوحًا للكاظمي، لمواصلة المساعي العراقية في سبيل استئناف الحوار السعودي الإيراني، على ضوء فشل تجديد هدنة اليمن، والاتهامات الإيرانية للرياض بدعمها الإعلامي للاحتجاجات المتواصلة منذ سبتمبر/ أيلول في الداخل الإيراني. وأضافت أن فريق رئيس الوزراء العراقي أبلغ الجانب الإيراني أن السوداني ينوي زيارة السعودية قريبًا، وربما قبل القمة العربية الصينية المقرر عقدها في ديسمبر/ كانون الأول المقبل في الرياض.
رغم رغبة السوداني في استثمار الحوار السعودي الإيراني، لكسر حالة عدم الثقة الخليجية والعربية به، باعتباره ثمرة تحالف سياسي مقرَّب من إيران، إلا أن إمكانية نجاحه في هذه المهمة ستتوقف على مدى الرغبة السعودية في التماهي مع هذا المسعى، فقد سبق أن أعلنت السعودية عن إيقاف جولات الحوار مع إيران مع الساعات الأولى لتولي السوداني رئاسة الوزراء خلفًا للكاظمي.
قابل هذا الرفض السعودي تأكيدًا عراقيًا عبر الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية، عبد اللطيف رشيد، في القمة العربية الأخيرة في الجزائر، مبديًا رغبة العراق في استمرار جهود استضافة المباحثات السعودية الإيرانية، فرغم حاجة السعودية وإيران استئناف الحوار لاعتبارات إقليمية ودولية عديدة، أبرزها سوريا واليمن وأمن الخليج، إلا أن السعودية بدأت تدرك جيدًا أن السوداني وعبر ارتباطه السياسي الحالي، لا يمكن أن يشكّل عنصر توازن بين الطرفَين، كما أنه لا يمكن أن يأخذ المخاوف السعودية بعين الاعتبار، خصوصًا إذا ما اصطدمت مع الضرورات السياسية للفصائل المسلحة، وهو ما يجعل مهمة السوداني معقدة جدًّا في هذا الإطار، ويأتي جزء كبير من هذا التعقيد من حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده البلاد.
رئيس الوزراء العراقي الحالي، السوداني، لا يملك أدوات الكاظمي السابقة في إدارة الوساطة، وهناك أيضًا متغيرات إقليمية ودولية جعلت من استمرار الحوار السعودي الإيراني أمرًا مستبعدًا.
ما سبق، يعني بوضوح أن رئيس الوزراء العراقي الحالي، السوداني، لا يملك أدوات الكاظمي السابقة في إدارة الوساطة، وهناك أيضًا متغيرات إقليمية ودولية جعلت من استمرار الحوار السعودي الإيراني أمرًا مستبعدًا، وعلى رأس تلك المتغيرات الاحتجاجات الداخلية التي تعصف بإيران، وهي الاحتجاجات التي أحدثت توترًا بين طهران والرياض، بعد أن اتّهمت الأولى الثانية بمحاولة إذكائها، ثم أخبرت الرياض واشنطن أنها تخشى هجومًا إيرانيًّا عليها.
يضاف إلى ذلك، تراجع الحماس في واشنطن وطهران بشأن استنئاف جهود إحياء الاتفاق النووي، إذ يهدّد كل ما سبق الثمار التي أفرزتها جولات الحوار السعودي الإيراني بوساطة عراقية، مثل التقارب الذي حدث في وجهات نظرهما حيال القضية الفلسطينية، وتسهيل أمور الحجّاج الإيرانيين في السعودية خلال موسم الحج، وتهيئة المناخ الدبلوماسي لإعادة تبادل افتتاح السفارات والقنصليات، وهو مسار كان سيتمّ تفعيله خلال جولة الحوار السادسة المفترضة، والتي يبدو أنها لن تتمَّ على الأرجح بالوقت الحاضر.