الأرمن هم الأمة والشعوب الأصلية التي عاشت في الهضبة الأرمينية بين القوقاز والأناضول وبلاد الشام، وقد كانت أرض الأرمن مسرحًا متواصلًا للصراع بين الإمبراطوريات، بسبب موقعها الاستراتيجي على الطريق بين أوروبا وآسيا، على سبيل المثال الصراع بين الدول الإسلامية وبيزنطة، أو الصراع بين إيران وبيزنطة.
أدّت الصراعات بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية إلى رسم حدود جديدة قسمت “الأراضي الأرمينية” إلى غربية وشرقية في عهد السلطان مراد الرابع، وكانت الأراضي الأرمينية قد وقعت أول مرة تحت حكم السلاجقة عام 1070.
جبل آرارات نقطة التقاء رباعية بين تركيا وأرمينيا وأذربيجان وإيران
وضعهم السياسي والاقتصادي والتعليمي أثناء الدولة العثمانية
حصل الأرمن على حقوقهم كاملة كرعايا غير مسلمين تحت الحكم العثماني، وعاشوا في انسجام مع الأتراك والمجموعات العرقية الأخرى، ويعد الأرمن من أكثر العرقيات التي حملت الثقافة التركية، فلا تجد فرقًا واضحًا بين عاداتهم وتقاليدهم عن جيرانهم المسلمين الأتراك في مختلف الأحياء.
مثلًا سنجد مئات الأرمن في لبنان وسوريا لا يزالون يتحدثون اللغة التركية بطلاقة رغم مرور عقود طويلة على مغادرتهم تركيا، كما أن هناك أكثر من 800 كلمة مأخوذة من الأرمينية بالتركية إضافة إلى نقل أكثر من 4 آلاف كلمة من التركية إلى الأرمينية.
بُنيت أول كنيسة للأرمن في إسطنبول بعد دخول الفاتح إليها عام 1453 في حي سماطيا، وأعطى البطريرك سلطات واسعة ضمن الطائفة الأرمينية في المدينة، مثل الزواج والطلاق والتعليم والعمل الخيري، ولاحقًا أُعطيت سلطات قضائية أيضًا.
وازدادت هجرة الأرمن من القرى وشرق الأناضول نحو إسطنبول في العهد العثماني، وشكّل الأرمن فيها مجتمعًا من النخبة فيها، وحصلوا على وظائف حكومية وإدارية عالية المستوى.
كما ساهموا بالتجارة بشكل كبير وكانوا وسطاء في التجارة العالمية، وأسّسوا صناعة تتوارثها العائلات عبر أجيال، وعمل بعضهم كمترجمين في السفارات الأجنبية في البلاد.
قدّم الأرمن مساهمة كبيرة في تطور أعمال الطباعة في الدولة العثمانية، في عام 1567 اُفتتحت أول مطبعة أرمينية، وفي عام 1812 تمَّ نشر أول صحيفة لهم.
اشتغل الأرمينيون في العهد العثماني بالزراعة والصناعات المحلية والتجارة على نطاق ضيق في مناطق شرق الأناضول، حيث عاشوا لقرون في قرى ومدن صغيرة، كما اشتهروا بصناعة السجاد والحرف اليدوية.
إحدى إحصاءات السكان في العهد العثماني
أزمة الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى
شهدت الدولة العثمانية ظهور عدة حركات تمرُّد وعصيان ومحاولات انفصالية من قبل جماعات أرمينية، كان من بينها محاولة فاشلة لاغتيال السلطان عبد الحميد الثاني عام 1905، بتفجير قنبلة عقب خروجه من صلاة الجمعة.
وفي 24 أبريل/ نيسان 1915 أصدرت وزارة الداخلية العثمانية تعميمًا لإغلاق مراكز الجمعيات الأرمينية ومصادرة أوراقها، واُعتقل في إسطنبول 235 شخصًا من أعيان الأرمن وزعمائهم.
تمثّلُ أحداث عام 1915، التي أدّت إلى تهجير آلاف الأرمن وفقدان آلاف آخرين حياتهم، النقطة الخلافية الأبرز بين المجتمع التركي والأرميني، حيث يصف الطرف الأرميني الأحداث بـ”الإبادة الجماعية”، ويصل عدد الضحايا حسب مصادرهم إلى مليون ونصف قتيل.
بينما يرى الأتراك أن ما حدث كان أقرب إلى الحرب الأهلية، شاركت فيها ميليشيات أرمينية بتوجيه من روسيا وإنجلترا، وأن إجلاء السكان الأرمن من مناطقهم كان ضمن سياق ظروف الحرب، ولا يمكن قراءته خارج السياق التاريخي للأحداث.
على مدى عقود تبنّت الحكومات المتعاقبة في الجمهورية التركية وجهة نظر الدولة العثمانية، وتعرّض الكثير من مثقفي الأرمن لمحاكمات على خلفية استخدامهم مصطلح “الإبادة الجماعية”.
لكن في عام 2014 سمحت حكومة العدالة والتنمية للأرمن بإحياء أحداث 1915 وتنظيم فعاليات في منطقة تقسيم، كما وجّه رجب طيب أردوغان (رئيس الوزراء آنذاك)، وللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية، بيان عزاء للأرمن وشعوب الدولة العثمانية بمناسبة ذكرى أحداث 24 أبريل/ نيسان 1915.
تتبنّى أغلب الدول الرواية الأرمينية بشأن المأساة الأرمينية في نهاية الدولة العثمانية، وتستخدمها الدول الغربية للضغط على الحكومة التركية، وتجرّم بعض الدول مثل فرنسا إنكار مجازر الإبادة الجماعية للأرمن.
يرى الأرمن في تركيا أن تحسين العلاقات بين تركيا وأرمينيا يلقي بظلال إيجابية على المجتمع الأرميني في تركيا، حيث أظهرت المؤسسات الأرمينية التركية دعمها وتفاؤلها بالخطوات التي تقوم بها أرمينيا وتركيا نحو تطبيع العلاقات بينهما، بعد قطعية لـ 1000 عام.
وشارك البطريرك الخامس والثمانين لأرمن تركيا تغريدة، قال فيها إن لقاء أردوغان مع باشينيان عبر الهاتف أثار الآمال في السلام في العالم، الذي طغت عليه أنباء الحرب.
Silahların, savaşların ve ölümlerin değil diplomasinin barışçıl yöntemlerinin kazanması için duacıyım. Bu telefon görüşmesinin bin yıllık Türk-Ermeni ilişkilerinde yeni bir dostluk sayfasının açılmasına vesile olması dileklerimle.
— Patrik Sahak II (@SahakSrpazan) July 11, 2022
كما صرّح رئيس اتحاد المؤسسات الأرمينية التركية بأن عملية التطبيع الحالية بين البلدَين تأخذ أهمية كبيرة، من حيث تضميد جراح الماضي والتغلب على التحيزات وخلق مناخ جديد لبناء مستقبل مشترَك.
أماكن توزعهم على الأراضي التركية
يمثّل الأرمن في تركيا اليوم أقلية دينية صغيرة، إضافة إلى كونهم عرقية قومية مستقلة، ويقدَّر عددهم بنحو 80 ألف شخص ينتمي أغلبهم إلى الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، كما يقيم أغلبهم في مدينة إسطنبول ويتركز نشاطهم الثقافي والاقتصادي فيها، أما الأعداد القليلة المقيمة في قرى شرق وجنوب الأناضول فتعيش بعيدًا عن أي نشاط.
كنيسة القديس كيراكوس (ديار بكر) من أهم الكنائس الأرمينية في شرق الأناضول، ولها 7 مذابح، أُعيد ترميمها واُفتتحت بعد الترميم عام 2022
الجمعيات الأرمينية والنشاط الثقافي
يركّز الأرمن في نشاطهم وحضورهم على الفعاليات الثقافية والفنية والتوعية الحقوقية، بعيدًا عن التجاذبات الحزبية والسياسية.
عانى الأرمن، كما بقية الأقليات في تركيا، منذ فترة الضعف التي وصلت إليها الدولة العثمانية، وتأسيس الجمهورية التركية على أسُس قومية متشددة، والقوانين العرفية التي تلت فترة الانقلابات، رغم الاعتراف بهم كأقلية دينية في معاهدة لوزان التي ضمنت لهم حرية ممارسة شعائرهم، والتعبير عن ثقافتهم وتقديم تسهيلات لتعليم أطفالهم بلغتهم الخاصة، وتخصيص جزء من موارد الدولة لبناء أماكن العبادة.
إن ارتباط اسم الأرمن بخيانة الدولة العثمانية ودعم الروس في حربهم مع العثمانيين في ذاكرة الأتراك، إضافة إلى التوتر بين الدولة التركية ودولة أرمينيا، جعل الطائفة الأرمينية هدفًا لخطاب كراهية على مدى عقود، وكان اغتيال الصحفي الأرميني هرانت دينك عام 2007 على يد مراهق قومي (17 عامًا) من إحدى نتائجه المأساوية.
هرانت دينك هو أحد مثقفي الأرمن الأتراك، وُلد في مدينة ملاطية ونشأ في إسطنبول، تعرّض للمحاكمة بسبب كتاباته، وللانتقادات من مجتمعه بسبب أفكاره تجاه القضية، ورفض تسمية الطائفة الأرمينية بـ”أرمن الشتات”، إذ يُعرّف نفسه بـ أرمني تركي، سخّر نشاطه الصحفي ليكسر دائرة العزلة التي يعيشها المجتمع الأرميني، كما عمل مع زوجته على إنشاء معسكرات دعم لأيتام الأرمن.
عمل هرانت على إعادة الانسجام بين مكوّنات الشعب التركي، والدعوة إلى تعزيز الحريات العامة والحقوق، كما رفض التدخل الأجنبي في تركيا، وفي أحد اللقاءات سخر من سنّ فرنسا تشريعات تجرّم إنكار إبادة الأرمن.
وقال إن الأتراك والأرمن بحاجة إلى حلّ المشكلة من خلال حوار إنساني، والبحث معًا في التاريخ والتصالح مع الماضي، وأن الاستغلال الأجنبي لمأساة الأرمن في الضغط على الحكومة التركية يضرّ بالذاكرة المشترَكة لشعوب الأناضول.
وفي عام 1996 أسّس هرانت دينك ومجموعة من أصدقائه صحيفة “أغوس (Agos)”، لشرح مشاكل الأرمن في تركيا للناس، وهي أول صحيفة في عهد الجمهورية تنشر باللغة التركية والأرمينية، تركّز سياستها التحريرية على الديمقراطية وحقوق الأقليات ومواجهة الماضي وحماية التعددية في تركيا وتطويرها.
ويعدّ وقف هرانت دينك اليوم من المؤسسات الرائدة في معالجة موضوع خطاب الكراهية في تركيا، وتصدر تقارير دورية، كما تعطي محاضرات ودورات متخصصة في تحديد خطاب العنصرية والكراهية ونشر التوعية المجتمعية حوله.
أحياء الأرمن في إسطنبول والثقافة الشعبية
يقيم غالبية الأرمن اليوم في مناطق شيشلي وبكركوي وكاديكوي وأدالار، فيما تمَّ إسكان الدفعات الأولى من الأرمن الواصلين إلى إسطنبول بشكل خاص في مناطق ساماطيا وكوم كابي وبي أوغلو وجيديك باشا، وكان أغلبهم من رجال الدين والحرفيين والمهندسين المعماريين والتجّار والمزارعين والعمّال، أما الأرمن الذين أقاموا في جالاتا فشكّلوا أحياء خاصة بهم، وكانوا الفئة الأكثر ثراء وثقافة من بين الأرمن.
تقوم الأسرة الأرمينية التقليدية على مبدأ “السلطة الأبوية”، حيث تخضع لسلطة أكبر رجل في المنزل، وتتميز العائلات الأرمينية بكثرة عدد أفرادها لذلك تكون منازلها واسعة ومنبسطة، كما تحتوي المنازل على قاعة واسعة لجلوس جميع أفراد العائلة وتناول الطعام، إضافة إلى اجتماعهم في الأعياد والمناسبات الاجتماعية والدينية.
حافظ الأرمن على هويتهم الثقافية لقرون من خلال اجتماع أفراد العائلة الكبيرة معًا للاحتفال بالأعياد، كما ساهمت المدارس والمؤسسات التعليمية الأرمينية في الحفاظ على التراث ونقله بين الأجيال.
تموّل الدولة جزءًا من ميزانية المدارس، وبعضها من قبل الكنيسة والجمعيات الخيرية، ويظهر الأرمن حساسية عالية لتعليم أطفالهم اللغة الأرمينية، ويتحدثون بها فيما بينهم.
تشكّلَ المطبخ الأرميني من المواد الشائعة لجغرافيا الأناضول، ويعتمدون بشكل أساسي على الخبز والمعجّنات والزيتون والمربّيات، وبدلًا من الاعتماد على التوابل الثقيلة يفضّلون الأعشاب الطازجة لتحضير التوابل، ويجفّفون النعناع والزعتر والريحان الأخضر، ويستخدمون الهيل واليانسون والمحلب في صناعة كعك أعياد الفصح.
ختامًا، بالرغم من المأساة التي عاشها الأرمن بدايات القرن العشرين في تركيا، وهي الحقبة التي عاشت فيها جميع الطوائف في الحقيقة محنًا وظروفًا وحشية وقاسية، ولو بنسب متفاوتة، إلا أن ما قبلها وما بعدها كان مختلفًا بالنسبة للأرمن الذي تقلدوا مناصب رفيعة في الدولة العثمانية – كما أشرنا – وكانت لهم حقوقهم وتجارتهم وحرياتهم الدينية والثقافية لاحقًا، وقد حان الوقت ليعمل الجميع على تضميد جراح الماضي وتعافي الذاكرة المثقلة.