لعب المهاجرون وأحفادهم دورًا كبيرًا في إعلاء راية البلدان الأوروبية في المحافل الرياضية الدولية، حيث زخرت المنتخبات الوطنية الأوروبية بالعديد من الأسماء اللامعة ذوي الأصول المهاجرة، والتي ساهمت بشكل واضح في فوز تلك الفرق بالعديد من البطولات، القارّية والعالمية.
ويبدو أن اليمين المتطرف المتفشّي كالسرطان اليوم في المجتمع الأوروبي قد تناسى -وهو يرفع شعاراته العنصرية المناوئة للمهاجرين ويطالب بطردهم وغلق الحدود أمام اللاجئين- دور هذه الفئة في رفع شأن بلادهم وإيصالهم إلى منصات التتويج، ليس في الرياضة وحدها بل في شتى المجالات.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” جاء تحت عنوان “مونديال قطر.. هل يحقق المهاجرون المجد للديوك الفرنسية؟“، كان قد تطرّق إلى إسهامات اللاعبين ذوي الأصول المهاجرة في فوز المنتخب الفرنسي في السابق وصعوده اليوم إلى دور الـ 16 في مونديال قطر، وفي هذه المادة نستعرض إسهامات أحفاد المهاجرين مع منتخبات القارة العجوز كرويًّا، وكيف أنهم كانوا أحد الأضلاع الرئيسية في تلك الانتصارات التي يتشدّق بها اليوم المواطن الأوروبي في مواجهة العرقيات الأخرى، متناسيًا أو متجاهلًا أن ما تحقق ما كان له أن يتحقق دون مجتمع المهاجرين المستهدَف اليوم.
ألمانيا.. المنتخب المجنَّس
المنتخب الألماني واحد من أقوى المنتخبات الكروية عالميًّا، والذي شارك في جميع نهائيات نسخ كأس العالم ما عدا نسختَين فقط، 1930 و1950، واستطاع تحقيق اللقب المونديالي 4 مرات (أعوام 1954 – 1974 – 1990 – 2014)، كما حقّق اللقب القاري بطلًا لكأس الأمم الأوروبية 3 مرات (1972 – 1980 – 1996) ويعدّ الأكثر تتويجًا بها، فيما حلَّ وصيفًا في أعوام 1976، 1992 و2008، وفاز بكأس القارات مرة واحدة عام 2017.
وعلى طول هذا التاريخ الممتد لسنوات طوال، زخر المنتخب الألماني بعشرات اللاعبين من أصول مهاجرة، كان لهم إسهاماتهم في فوز الألمان بكافة البطولات التي حصدوها منذ عام 1954 كأول بطولة يحصلون عليها (كأس العالم)، وصولًا إلى آخر بطولة لهم عام 2017 (كأس القارات).
التشكيلة الحالية للمنتخب الألماني المشاركة في مونديال قطر تحتضن العديد من اللاعبين الأجانب، على رأسهم المدافع الأبرز أنطونيو روديغر، ذوي الأصول السيرياليونية، وهو أحد أبرز مدافعي العالم خلال الأعوام الخمس الماضية، فيما ضمَّ منتخب المانشافت خلال بطولة أمم أوروبا 2020 العديد من اللاعبين ذوي الأصول الأفريقية، منهم ليروي ساني (سنغالي الأصل)، جمال موسيالا (نيجيري الأصل) وسيرجي غنابري (كوت ديفواري الأصل).
وبالعودة قليلًا إلى كأس العالم 2006، فقد شارك المنتخب الألماني بتشكيلة تحتوي على عدد كبير من الأجانب، أبرزهم البولنديين الثلاثة كلوزة وبودولسكي وتيم بوروفسكي، بالإضافة إلى المهاجم السويسري نوفيل، مع الغاني جيرالد أسامواه، والبرازيلي كيفن كوراني، بجانب الأفريقيَّين أومويلا وديفيد أودونكور.
وقد تضمّنت تشكيلة المانشافت المشاركة في يورو 2016، 27 لاعبًا من بينهم 11 لاعبًا من أصول مهاجرة، أي تقريبًا فريق كرة بأكمله، أبرزهم جيروم بواتينغ الغاني، وإمري جان التركي، وشكودران موصطافي الألباني، وكريم بلعربي المغربي، وسامي خضيرة التونسي، بجانب اللاعب الأشهر مسعود أوزيل ذي الأصول التركية.
الاستعانة باللاعبين المجنّسين وأحفاد المهاجرين لا تتوقف عند المنتخب الأول فحسب، بل تزخر منتخبات الشباب بالظاهرة ذاتها، فثلث لاعبي المنتخب الألماني تحت 21 عامًا، والذي شارك في بطولة بولندا 2017، من أصول أجنبية، منهم تيلو كيهرير البورندي، وغيديون يونغ الغاني، وسيرغي غنابري العاجي، ومحمد داود السوري.
إسبانيا.. التتويج بأقدام المهاجرين
تعدّ إسبانيا واحدة من عمالقة الساحرة المستديرة في أوروبا، ويتميز لاعبوها بالمهارات المشابهة للمهارات البرازيلية، وحقّق الإسبان العديد من النجاحات الكروية، أبرزها التتويج بكأس العالم عام 2010 بجنوب أفريقيا، وهي المرة الوحيدة لهم في تلك البطولة، مع الفوز بكأس الأمم الأوروبية 3 مرات سنوات 1964 و2008 و2012، والفوز بذهبية كرة القدم في الألعاب الأولمبية 1992 ببرشلونة.
ولعب المهاجرون والمجنّسون دورًا كبيرًا في هذا التتويج الكروي للإسبان، إذ إن كابتن المنتخب الإسباني في بطولة كأس العالم التي أقيمت في جنوب أفريقيا وحصل عليها الإسبان، هو اللاعب برونكهورست، وهو من أصول إندونيسية، كذلك من أضلاع الفريق في تلك النسخة اللاعب السورينامي إيدسون برايفهايد.
وعلى مدار التاريخ الكروي الإسباني شهد المنتخب الوطني عشرات اللاعبين الأجانب، البداية كانت مع اللاعب الإنجليزي رامون زابالو عام 1931، ثم المغربي روبرتو إيفارتي عام 1977، ومن بعده اللاعب الأرجنتيني الشهير ألفريدو دي ستيفانو الذي لعب في صفوف المنتخب الإسباني بين عامَي 1957 و1961.
ومن أباطرة اللاعبين الإسبان ذوي الأصول غير الإسبانية، اللاعب المجري التاريخي فيرينتس بوشكاش، الذي لعب في صفوف الماتادور بين عامَي 1961-1962، والبرازيلي دوناتو غاما دا سيلفا بين عامَي 1994-1996، ومن الأسماء المعاصرة التي حقّقت ألقابًا وبطولات عديدة مع المنتخب الإسباني الفرنسي أرماندو ألفاريز، الأرجنتيني خوان كارلوس تورينيو، والبرازيلي دييغو كوستا ورفيقه رودريغو، والإيطالي تياغو، والغيني أنسو فاتي.
هولندا.. الطواحين بأجنحة سورينامية
“منتخب الطواحين”.. هكذا يلقّب المنتخب الوطني الهولندي لكرة القدم، هذا الفريق الذي نجح في الوصول إلى نهائيات الكثير من البطولات، لكنه لم ينجح سوى في تحقيق لقب واحد فقط، حين حقّق كأس الأمم الأوروبية عام 1988، فيما حلَّ وصيفًا في نهائيات كأس العالم لكرة القدم في 3 نسخ مختلفة، وهي 1974، 1978 و2010، وثالثًا عام 2014، بينما حلّت بالمركز الرابع في عام 1998.
وفي التشكيلة الحالية للطواحين المشاركة في مونديال قطر، هناك العديد من الأسماء ذات الأصول غير الهولندية، على رأسها مهاجم الفريق ولاعب برشلونة الإسباني اللاعب ممفيس ديباي، غاني الأصل، والمتوّج كأفضل لاعب شاب في العالم لعام 2015 من قبل مجلة “فرانس فوتبول”.
كما زخر المنتخب الهولندي على مدار تاريخه بالعديد من اللاعبين الأجانب، أبرزهم كانوا من سورينام بأمريكا الجنوبية، والذي وصفها البعض بأنها الباب الخلفي للكرة الهولندية، ومن أبرزهم حاليًّا جورجينو فينالدوم نجم باريس سان جيرمان، والإيفواري ناثان آكي.
يذكَر أن الأسطورة رود خوليت، أشهر من ارتدى قميص هولندا على مرّ التاريخ، ذو أصول سورينامية، وقد حاز على جائزة أفضل لاعب في أوروبا عام 1987، وعلى جائزة أفضل لاعب في العالم مرتَين في عامَي 1987 و1989، وأول من حمل بطولة أوروبا لمنتخب بلاده عام 88، كذلك هناك ريكارد ودافيس وكليفرت وغيرهم من أعلام الكرة الهولندية من أصول أجنبية.
إنجلترا.. أحلام الماضي بأقدام الأجانب
تعدّ إنجلترا واحدة من المنتخبات المؤسّسة للعبة كرة القدم في التاريخ المعاصر، فهي من بين الأقلية التي شاركت في جميع نهائيات كأس العالم لكرة القدم باستثناء الأعوام 1930، 1934، 1938، 1974، 1978 و1994، ورغم ذلك لم تَفُز بالبطولة سوى مرة واحدة فقط عام 1966، كما وصلت إلى مرحلة الربع النهائي في الأعوام 1954، 1962، 1970، 1986 و2002، ومرحلة نصف النهائي في عامَي 1990 و2018.
وتمتلك التشكيلة الإنجليزية المتواجدة حاليًّا في مونديال قطر العديد من الأسماء ذات الأصول غير الإنجليزية، على رأسها ماركوس راشفورد من أصول كتيتية (جزر الهند الغربية)، صاحب هدفَي الصعود لدور الـ 16 أمام المنتخب الويلزي، كذلك اللاعب المهاري السريع رحيم شاكيل ستيرلينغ من أصل جامايكي، ومواطنه كالوم ويلسون.
وفي التشكيلة التي شاركت في بطولة 2018 في روسيا، ضمّت قائمة المنتخب أكثر من 5 لاعبين مزودجي الجنسية، وقع عليهم اختيار المدير الفني للمنتخب غايث ساوثغيت، والذي ما زال يتولى المهمة حتى اليوم، هم ديلي آلي، كالوم هودسون، جايمس تاركوفسكي، ألكسندر آرنولد وديكلان رايس.
استهداف اللاعبين المجنّسين لتدعيم صفوف المنتخب الإنجليزي تحوّل إلى ظاهرة منذ سنوات ليست بالقليلة، والأمر لا يتوقف عند الفئة العمرية المشاركة في المنتخب الأول فقط، فالأرقام الرسمية البريطانية تشير إلى أن الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم يتابع عشرات اللاعبين الصغار، وأن 55 لاعبًا من أصل 75 يتابعهم الاتحاد للفئة العمرية الأقل من 15 عامًا يحملون أكثر من جنسية.
ويعوّل الشارع الإنجليزي على أبناء وأحفاد المهاجرين في تحقيق إنجاز عام 1966 بتحقيق اللقب المونديالي، حيث تعدّ إنجلترا أحد الفرق المرشّحة للبطولة هذا العام في ظل المستوى الجيد الذي ظهرت عليه حتى الآن، والذي يشكّل اللاعبون من أصول أجنبية عاملًا رئيسيًّا في هذا الأداء المقنع عكس كافة التوقعات الأولية.
البرتغال.. لا منتخب من دون المجنّسين
حقق منتخب البرتغال لقب بطولة أمم أوروبا مرة واحدة فقط عام 2016، فيما حلَّ وصيفًا خلال عام 2004، ووصل نصف النهائي 3 مرات في أعوام 1984، 2000 و2012، أما على مستوى كأس العالم فحلَّ ثالثًا عام 1966 ورابعًا عام 2006، أما في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي أُقيمت عام 1996 فحلَّ في المركز الرابع.
يدخل رفقاء كريستيانو رونالدو مونديال قطر بأحلام التتويج وكتابة تاريخ جديد لبلادهم، فيما مثّل اللاعبون المجنّسون عصب المنتخب الأول، حيث بات من الواضح أن البرتغال لا يمكنها امتلاك قائمة كاملة من دون المجنّسين.
ومن أبرز العناصر داخل صفوف المنتخب الحارس الفرنسي أنطوني لوبيز، والمدافع المخضرم بيبي من أصول برازيلية، ورفيقه برونو ألفيس أحد أكثر لاعبي المنتخب البرتغالي خبرة، فهذا المونديال هو الثالث له مع منتخب بلاده.
هناك أيضًا الفرنسي رافائيل جيريرو، أحد العناصر الرئيسية وراء فوز البرتغال بيورو 2016، والألماني سيدريك سواريز، مع الظهير الأيمن ريكاردو بيريرا المولود في الرأس الأخضر، وزميله الأنغولي ويليام كارفاليو أحد أهم العناصر الأساسية في المنتخب.
إيطاليا.. أمريكا الجنوبية صاحبة الفضل
رغم غيابها عن النسخة الحالية من كأس العالم، إلا أن إيطاليا واحدة من المنتخبات الأكثر مشاركة في البطولة، حيث شاركت في جميع النهائيات باستثناء عام 1930 و1958 و2018، وتوِّجت بها 4 مرات كانت في 1934، 1938، 1982 و2006، كما حلّت وصيفًا عامَي 1970 و1994، وثالثًا مرة واحدة عام 1990.
وعلى المستوى الأوروبي فلن يختلف كثيرًا عن العالمي، حيث شارك المنتخب الإيطالي 10 مرات من أصل 16 بطولة أُقيمت لأبطال أوروبا، حقق اللقب مرتَين عام 1968 و2020، بينما حلَّ وصيفًا خلال نسختَي 2000 و2012، كما شارك في كأس العالم للقارات مرتَين في 2009 و2013، واحتل المركز الثالث مرتَين في الألعاب الأولمبية الصيفية 1928 و2004.
وقد شهدت آخر نسخة مونديالية حصل عليها المنتخب الإيطالي في 2006 مشاركة أول لاعب من أصول أجنبية في تمثيل المنتخب الوطني، وهو اللاعب ماورو كامورانيزي ذو الأصول الأرجنتينية، والذي بدأ باللعب مع منتخب إيطاليا لكرة القدم عام 2003 وانضمَّ رسميًّا إلى تشكيلة المونديال، ليفتح الباب بعد ذلك أمام العديد من اللاعبين المجنّسين، مثل الأرجنتينيين كريستيان ليديسما وغابرييل باليتا ودانيال أوزفالدو وإيوكويل سكيلوتو، والبرازيليين تياغو موتا وأماوري ورومولو.
وفي نسخة أمم أوروبا 2020 التي حصل عليها الطليان، ضمّت قائمة المدرب روبيرتو مانشيني المشاركة في البطولة 3 لاعبين من أصول برازيلية، جورجينيو وإيمرسون بالميري، وكلاهما يلعب بشكل أساسي في تشكيلة الفريق، بالإضافة إلى رافائيل تولوي، قلب الدفاع، الذي يلعب بشكل احتياطي.
ومن بين أشهر اللاعبين الأجانب في صفوف المنتخبات الأوروبية، القاطرة البشرية روميلو لوكاكو، نجم منتخب بلجيكا وهدّافه الأبرز، والذي تعود أصوله إلى الكونغو الديمقراطية، كذلك اللاعب النيجيري ديفيد ألابا، نجم المنتخب النمساوي، وهناك المهاجم المخضرم بريل إيمبولو، نجم المنتخب السويسري، من أصول كاميرونية، ونظيره الإريتيري ألكسندر إسحاق، مهاجم منتخب السويد وفتى ريال سويسداد الذهبي.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الكرة الأوروبية ما حقّقت نجاحاتها الأخيرة إلا بأقدام المهاجرين، الذين ساهموا في إعلاء اسم القارة فوق منصات التتويج، هذا في الوقت الذي ترفع فيه بعض التيارات المتطرفة الشعارات المناهضة للمهاجرين، متناسين ما قدموه من فضل وما ساهموا به في تحقيق الإنجازات التي تفتخر بها أوروبا في الوقت الراهن، ولا يقتصر الأمر على كرة القدم فقط، بل شتى مجالات الحياة.