ترجمة وتحرير: نون بوست
في شباط/ فبراير 2022، أعلنت رئاسة الشؤون الدينية التركية أن أداء فريضة الحج إلى مكة بواسطة “الميتافيرس” لا يعتبر “حجًا صحيحًا”، وأوضح رئيس الوزارة أن المسلمين أحرار في زيارة مكة المكرمة بطريقة افتراضية ولكن أداء العبادة بشكل صحيح يقتضي أن تطأ قدما المرء الأرض حول الكعبة المشرفة.
كانت الردود على هذا المرسوم في منصات التواصل الاجتماعي سريعة وشاملة، إذ وافقه البعض بشدة تأكيدا على أولوية التجربة المادية والحسية للحج التي لا بديل عنها، بينما اقترح آخرون مازحين شحن التربة من مكة المكرمة للوقوف عليها أثناء تواجدهم في المنزل وبذلك يصبح الحج مقبولًا دون عناء وتكلفة السفر. من جانبها، نشرت هيئة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي تغريدة لتصحيح التصورات الخاطئة منتقدة الأخبار غير المسؤولة مؤكدةً أن السعودية لم تطلق فريضة الحج في “الميتافيرس”.
أثارت تعليقات الشؤون الدينية التركية آنذاك نقاشات على منصات التواصل الاجتماعي بينما يستمر الجدل إلى الآن حول الصورة التي سيصبح عليها عالم الميتافيرس. فعلى الرغم من مشاكل منصة فيسبوك و”الانهيار” الذي يروج له الكثيرون في قطاع التكنولوجيا، ظهرت العديد من المحاولات لاستكشاف هذه التكنولوجيا الجديدة بما في ذلك في العبادة. وهذا النوع الجديد من الحج الافتراضي للمسلمين الناشطين على الإنترنت (أو ما يعرف بـ “آي مسلم”) ليس إلا نتاج عصرنا الحديث بتشابكاته التكنولوجية والشخصية والسياسية.
ماذا يكشف هذا التحول الرقمي الأخير في الشعائر الدينية الإسلامية عن الإبداع البشري، وما هو موقف الإسلام ومستقبله في عالم رقمي متزايد؟ هل يمكن أن نتحدث الآن عن “إسلام افتراضي”؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي معالمه ولغاته المرئية وإمكانياته المستقبلية؟ تثير الابتكارات الواقعية والافتراضية الشكوك حول استبدالها “للأصل”، وهي ليست بشكوك جديدة كما رأينا سابقًا في ما يخص قضايا مثل زجاجات ماء زمزم و”صور سيلفي الحج” وآثار النبي محمد ﷺ مثل شعره أو ملابسه.
دعونا نبدأ بالحديث عن الميتافيرس كما تخيلها وروّج لها مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ. رغم خسائره الأخيرة، يهدف هذا العالم الافتراضي الغامر إلى جذب وربط الجماهير العالمية ببعضها. ويشمل ذلك بالطبع عددًا كبيرًا من مسلمي العالم الذين يقدر تعدادهم بنحو 1.9 مليار نسمة اليوم. من الناحية الديموغرافية، هناك إمكانات هائلة لتوسيع مجال “المتيافيرس الإسلامي” خاصة إذا كان على المشاركين دفع رسوم أو تم تشجيعهم على التبرع للوصول إلى بعض المنصات أو التطبيقات أو الخدمات مثل الاستشارات الزوجية أو الفتاوي الدينية. وفي حالة الحج، يمكن أن تشمل البرامج الإضافية المربحة في الميتافيرس مدفوعات رمزية أو مساهمات خيرية أو إعلانات مدرة للدخل عند دخول المسجد الحرام في مكة المكرمة وأداء الطواف حول الكعبة ولمس الحجر الأسود. هذه كلها عناصر أساسية لتجربة الحج الذي يمثل أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي متاحة لأي شخص على أرضه وفي الواقع فقط.
إلى جانب سوق الميتافيرس، يعتبر الحج الافتراضي أيضًا شاهدًا على حقبة كوفيد-19. فقد أجبرت الجائحة الكثيرين على الصلاة في المنزل وتسببت في تعليق مؤقت لتجمعات صلاة الجمعة، بينما فُرضت على الحجاج قيود وتوجب عليهم الالتزام بمختلف قواعد الصحة والنظافة والتباعد الاجتماعي. وما بين 2020 و2021، قلّصت المملكة العربية السعودية من أعداد الحجيج وعلقت الحج للأجانب ومن لم يحصل على اللقاح والمصابين بأمراض مزمنة، كما وضعت عددًا من التدابير الوقائية مثل تقليل التجمعات واشتراط إجراء فحص “بي سي آر” قبل الحج وبعده وتنفيذ الحجر الصحي. كل هذه العقبات اللوجستية بعد واقع الكورونا دفعت بالناس ليشاركوا بحماس في العالم الافتراضي، وهذا بلا شك سيعود بفائدة كبيرة على عالم الميتافيرس الناشئ.
مع الاستجابة لهذا التحول التكنولوجي للوباء، كان مرسوم الشؤون الدينية التركية بمثابة توبيخ مباشر لمشروع “الحجر الأسود الافتراضي” في المملكة العربية السعودية الذي تم إطلاقه في كانون الأول/ ديسمبر 2021، ووصف بأنه “مبادرة ثقافية” وأن الواقع الافتراضي يهدف لتعزيز وليس استبدال الحج. يقع المشروع تحت مظلة “مشروع المدينة المنورة” الأكبر، وقد وقع على إمام الحرم المكي الشريف مهمة الإشراف عليه، بينما عُهد بتنفيذه التكنولوجي إلى خبراء في جامعة أم القرى في مكة المكرمة.
تسمح هذه المبادرة الافتراضية للمستخدمين الذين اشتروا نظارات الواقع الإفتراضي أو “نظارات الكعبة” بمحاكاة تجربة لمس الحجر الأسود. وتنتج نسخة ثلاثية الأبعاد طبق الأصل من الحجر مادة عطرية مثل المبخرة ما يتيح للحاج الافتراضي فرصة الشعور به وشمه أثناء الاستماع إلى الصلوات مباشرة من الحرم. وهكذا تحفز التجربة الحواس وأهمها الإبصار والشم واللمس.
لا تزال هذه المبادرة جديدةً ومن غير الواضح حاليًا ما إذا كان من يرغب في زيارة الكعبة افتراضيا سيتعين عليه الاتصال عبر الميتافيرس. وفي الوقت الحالي ما يتضح هو ترحيب البعض بهذا العالم الصوري الحديث في المجال الرقمي، بينما يشعر البعض الآخر بعدم الارتياح تجاه الواقع المعزز أو الافتراضي. يتهم المنتقدون داخل المملكة العربية السعودية وخارجها بأنها “تعبث بالدين” ويجب أن تلام على ما اعتبره البعض بدعة دخيلة على العقيدة الإسلامية ليس لها أصل في الشريعة. وعلى النقيض يؤكد مؤيدو هذه التقنية الحديثة أن الواقع الافتراضي ابتكار جيد ويمكن اعتباره “بدعة حسنة” قد تعمل على تقوية ونشر الإيمان وزيادة التقوى، بالإضافة إلى قدرتها على تشجيع عالم أكثر خضرة من خلال الحد من حركة المرور في ظل التغير المناخي الكارثي.
لطالما رافق الحماس والتمرد العلاقة بين الأنظمة الدينية وتقنيات التصوير. في كل من اليهودية والمسيحية والإسلام والبوذية وغيرها من الأديان في العالم، غالبًا ما كان حب الصور مرفوقًا بالخوف منها أو تدميرها، لذلك احتدمت النقاشات حول التصوير في الماضي كما في الحاضر مع ظهور كل اختراع أو تطور جديد. وقد شهد القرن العشرين ظهور المطبعة والطباعة الحجرية والتصوير الفوتوغرافي والأفلام والوسائط الرقمية التي لها مؤيدون ومنتقدون، وخاصة التصوير الفوتوغرافي الذي يمكنه التقاط الضوء المنعكس على الكائنات الحية.
لهذا السبب، حُظر التصوير الفوتوغرافي في البداية في المملكة العربية السعودية، ولكن تم تبنيه بعد ذلك كأداة تخدم “المصلحة العامة” لأنها تساعد في تعزيز العقيدة الإسلامية والحكم السعودي. ضمن هذه الصبغة المزدوجة من الدين والدولة، تنتشر الصور المطبوعة والصور الرقمية لمكة والكعبة بشكل رمزي وتعزز قدسية المسلمين عبر المناطق الجغرافية جسدياً ونفسياً على حد سواء.
تمثل أشكال تعبير مبتكرة أخرى مرتبطة بالحج، وخاصة إلتقاط الصور ونماذج الكعبة المشرفة، مصدرا للقلق. حتى مع إصدار بعض رجال الدين فتاوى تحظر “صور السيلفي في الحج” كشكل من أشكال التباهي والتقوى الزائفة، إلا أنها أصبحت ظاهرة منتشرة على مدى العقد الماضي. تضمنت الصور رموزًا تعبيرية واستخدام أجهزة الآيفون وتطبيقي تويتر وإنستغرام كشكل من أشكال “السيلفي” التي يتم تسجيلها رقميًا وربطها اجتماعيا وأصبح من الصعب التحكم فيها.
في سنة 2017، أصدرت المملكة العربية السعودية حظرًا على التقاط صور السيلفي في الحج داخل مساجد مكة والمدينة في إشارة إلى مخاوف لوجستية مثل الزحام ورغبةً منها في تقليل “الارتباك والانزعاج” بين صفوف الحجاج. تجنب هذا المسوغ المنطقي بشكل فعال الأحكام الدينية الشائكة وقلل من خطر المزيد من الإخفاقات على المستوى الدولي.
كان صنع نماذج للكعبة أمرًا شائعًا بشكل مماثل ومثيرًا للجدل مؤخرًا. في جميع أنحاء العالم – من دبي إلى تركيا وإيران وماليزيا وكينيا ونيوجيرسي وغيرها – يحتفل الطلاب والبالغون بالحج أو يستعدون له من خلال ترديد الصلاة باللغة العربية والطواف حول نموذج مصغر من الكعبة عادة ما يتم تغطيته بقماش يحاكي الكسوة – القماش الأسود المطرز بآيات قرآنية الذي يكسو الكعبة المشرفة في مكة المكرمة.
ا ينبغي اعتبار أغراض الحج والهدايا التذكارية مجرد ظاهرة رأسمالية متأخرة، بل تعود إلى عدة قرون مضت وتتضمن مجموعة من التمثيلات المرئية والإصدارات المادية
في إطار الأوساط المدرسية، تمت الإشادة بهذه الطقوس باعتبارها شكلاً فعالاً من أشكال التعلم التجريبي لتعليم التلاميذ الصغار بعض المبادئ والشعائر الأساسية للإسلام. لكن في أوساط أخرى، خاصة فيما يتعلق بالفتاوى الإلكترونية الصادرة عن رجال الدين السلفيين في المملكة العربية السعودية، يتم إنتقاد نماذج الكعبة على أنها “بدعة مستنكرة” لعدة أسباب، لا سيما أنها قد تصبح موضع تبجيل ديني بدلاً من الكعبة المشرفة الحقيقية أو تؤدي إلى تقليص الرابط العاطفي بالهيكل المقدس الأصلي.
بعبارة أخرى، إنه حج خيالي مرتبط بمحاكاة مادية للكعبة المشرفة. وتمامًا مثل عالم زوكربيرغ الافتراضي المليء بالعناصر الخيالية، فقد تم انتقاده مرة أخرى باعتباره أنه ليس عالمًا حقيقيًا. وبينما يوجد قبول أكبر للنماذج التي تخدم أهدافًا تربوية بين رجال الدين، فإن الرغبة في تجسيد الكعبة عبر النماذج والميتافيرس – ناهيك عن مجموعات ألعاب الأطفال التي تحتوي على نماذج للكعبة والأنشطة الحرفية الأخرى المتعلقة بالحج – تبشر بالنمو والتنوع في المستقبل مع كل إختراع تكنولوجي جديد ومجال تطبيقه.
توفر ثقافة المستهلك وقِطاع السياحة مزيدًا من الفرص لتوسيع نطاق الربح المالي القائم على زيارة الأماكن المقدسة. بالإضافة إلى مركزية العقيدة والجوانب الاجتماعية والعاطفية، يعتبر الحج نشاطاً تجاريًا كبيرًا في العديد من الأديان والتقاليد. في نطاق الحج في الإسلام، يقدر الخبراء أنه من المتوقع أن يحقق الحج وحده 150 مليار دولار من العائدات للمملكة العربية السعودية على مدى السنوات الخمس المقبلة.
في مكة المكرمة، تزداد المبيعات في المطاعم والفنادق والمحلات التجارية أثناء موسم الحج، بينما في المدينة المنورة يقدم المعرض والمتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية الذي افتُتح حديثًا للزوار تجربة غامرة، فضلاً عن مجموعة متنوعة من الهدايا التذكارية الدينية للشراء من المتجر الموجود داخل المتحف وعبر موقعه الإلكتروني. ومن بين هذه التذكارات، سجاد صلاة الأطفال التي تصور غطاء باب الكعبة، ومحراب الصلاة للمسجد النبوي في المدينة المنورة، والحجر الأسود، الذي أصبح محور الجدل الدائر حول الواقع الافتراضي وتقنية الميتافيرس الناشئة.
مع ذلك، لا ينبغي اعتبار أغراض الحج والهدايا التذكارية مجرد ظاهرة رأسمالية متأخرة، بل تعود إلى عدة قرون مضت وتتضمن مجموعة من التمثيلات المرئية والإصدارات المادية، من شهادات الحج المصورة إلى رسومات مكة والمدينة في المساجد والسلع الدينية الحديثة مثل الساعات وكرات الثلج التي تحتوي على مجسمات للحج ومصابيح الكعبة التي تباع بشكل كبير خاصة أثناء العطل الدينية الإسلامية. وخلال “مواسم الطلب”، تصبح السلع الدينية شائعة ويمكن أن تحفز التقوى. وينطبق الشيء نفسه على الحج الافتراضي، الذي يدفع الحاج إلى طريق تأدية الطقوس عبر المحاكاة مما يولد الإثارة والقلق على طول الطريق.
تنتشر نماذج عن المواقع الإسلامية المقدسة، وخاصة مكة والمدينة، من خلال التمثيل المادي والمحاكاة المرئية والنسخ المعمارية والمراجع والتحف المادية مثل ألواح الكسوة المطرزة وعينات من التربة المقدسة وزجاجات ماء زمزم وآثار النبي محمد ﷺ. تتعدد الأعمال والمؤسسات التي تشارك في عملية الانتشار، وتشمل الأفراد والشركات وكذلك المساجد والمتاحف التي كانت تميل في الماضي إلى العمل ككيانات مؤسسية منفصلة، إلا أنها اندمجت اليوم في كيان واحد.
نتيجة لذلك، فإن المساجد التي تحتوي على متاحف داخلها تقع عند نقطة التقاء المجالات الثقافية والدينية، مما يجعل السياحة والحج أقرب إلى بعضهما البعض. تمامًا مثل الواقع والميتافرس، بدأت المناطق التي تشهد نشاطاً للمساجد والمتاحف في العالم الإسلامي تتقاطع بطرق مبشرة وإشكالية على حد سواء. هذا هو الحال على وجه الخصوص بالنسبة للمؤسسة الهجينة المتنامية المعروفة باسم “متحف الحضارة الإسلامية”.
تحتفظ بعض المساجد المعاصرة بوظيفتها الأصلية كمواقع لصلاة الجماعة بينما تفتخر في نفس الوقت بكونها تمثل أقدس مدن الإسلام. هذا هو الحال بالنسبة لمسجد المنطقة الصناعية الذي تم افتتاحه في منطقة غبزة الصناعية المنظمة في إسطنبول في سنة 2015. تشمل استراتيجيات بنائه المقتبسة الكعبة والحجر الأسود والأربطة المنقوشة في إشارة إلى الكعبة وكسوتها، بينما يبدو أن القبة الذهبية تمثل إشارة غير مباشرة إلى قبة الصخرة في القدس.
يتخطى هذا الوضع الجمالي المحاكاة والاستجابة في التطبيقات المعمارية ليصل إلى تحفيز استعارات أكبر، بما في ذلك إلى حد ما تصوير غبزة كموقع تجاري مكرس جديد “تتكتل” فيه الواردات التركية على المستويين المالي والديني. ويسلط مظهر المسجد الأنيق الضوء أيضًا على ثروة وتأثير طبقة رجال الأعمال الملتزمين في تركيا.
على رأس هذا النظام السياسي، شيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مشاريع بناء محلية ضخمة آخرها متحف الحضارات الإسلامية الذي افتُتح في 20 نيسان / أبريل. وهذا المتحف هو جزء من مجمع يضم مسجدًا مبنياً على الطراز العثماني الجديد يقع على قمة تلة تشاملجا في إسطنبول.
على الرغم من وظيفته كمتحف وموقعه داخل مجمع من المساجد، فإن متحف الحضارات الإسلامية يقع تحت رعاية مديرية القصور الوطنية. سمح هذا التصنيف البيروقراطي الاستراتيجي، الذي تم تسريعه بموجب مرسوم رئاسي، بنقل حوالي 800 قطعة من المجموعات الأثرية التركية الأخرى من أجل إشغال 110 آلاف قدم مربع من المساحة المخصصة للعرض في المتحف الجديد. وإلى جانب العناصر الدينية والأدوات العلمية والأسلحة والسيراميك والعملات المعدنية، تعرض المنطقة المغلقة نماذج رقمية وعروضا عالية التقنية بالإضافة إلى تسجيلات الصلاة والترتيل الديني وحتى همهمات المعارك، التي يتردد صداها في جميع أنحاء صالات العرض.
تشمل المعروضات الإسلامية المقدسة التي تم نقلها عناصر متعلقة بالحج، وخاصة أجزاء من كسوة الكعبة ومفاتيح بابها، بالإضافة إلى آثار النبي محمد ﷺ، مثل عباءته المباركة وصنادله والعديد من خصلات شعره. “شعره المبارك” (“اللحية الشريفة”) على وجه الخصوص هو أقرب ما يكون إلى بقايا من جسده، لذلك فإنه يعتبر مكمنًا لهالته المقدسة، كما يعد أمانة عزيزة وعنصرًا مقدسًا في تأسيس المساجد عبر أراضي الإمبراطورية العثمانية في زمنها.
أصبح شَعر النبي محمد ﷺ في القرن التاسع عشر علامة على اتساع أراضي الإمبراطورية العثمانية، والتي شملت في ذلك الوقت المدن المقدسة الإسلامية الثلاث مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس. ومن خلال استراتيجيات السرد والعرض بالمتحف، راهن أردوغان وفريقه من القيمين على مجمع “تشامليجا” بادعاء وصاية تركيا على الإسلام على المسرح العالمي، متشبهين إلى حد كبير بالعثمانيين الذين جمعوا آثار النبي في قصر توب كابي – وهو سكن ملكي سابق ومركز إداري تحول إلى متحف وأرشيف في اسطنبول – وبالتالي يدخلون في منافسة أكبر على السيادة العالمية.
يقع متحف الحضارات الإسلامية في مجمع مسجد تشامليجا الكبير بإسطنبول، وهو يجسد ويصور عالم الحياة الإسلامية بتصميم دقيق من خلال محاكاة جماليات وصوتيات المساجد. لكنه ليس أول مؤسسة تعرض “الحضارة الإسلامية”؛ فهناك متاحف أخرى وُجدت قبله، بما في ذلك متحف إسطنبول للفنون التركية والإسلامية الذي أوليت مقتنياته التركية/ العلمانية اهتمامًا أكثر من مجموعاته الإسلامية/ الدينية (لم يعد هذا هو الحال منذ تجديد سنة 2014، حيث افتتح معرض جديد مخصص لآثار النبي محمد ﷺ).
ويقع ضمن هذا النوع أيضًا متحف الشارقة للحضارة الإسلامية الذي تم افتتاحه في دولة الإمارات العربية المتحدة سنة 2008. ونتيجة التعاون مع متحف الفن الإسلامي في برلين، فإن القبة الخارجية للمتحف تذكِّر بقبة الصخرة، في حين أن الجزء الداخلي يتضمن معروضات مخصصة للعقيدة والتاريخ الإسلامي، والتي تشمل نسخة مبكرة من القرآن، وقطعة من الكسوة ونماذج لمساجد، بالإضافة إلى أدوات تفاعلية مصممة لمخاطبة “جيل شاشات اللمس” والشباب الإماراتي الحريص على التواصل مع جذوره وتقاليده الإسلامية، كما يتضمن المتحف أيضًا بحثًا عن الهوية يشمل كلاً من القومية والإسلام، الذي هو دين لا يرتبط بحدود الدولة.
تحسب الباحثة في المتحف كارول دنكان، فإن هذا الجانب الشعائري هو سمة متكررة لمتاحف الفن العامة، إلا أن الابتكار يكمن في الاعتماد الحماسي على التقنيات الرقمية الأكثر تقدمًا في الوقت الحاضر في مجال المتاحف الإسلامية الآخذ في التوسع؛ حيث تعتبر هذه التقنيات، بما في ذلك الصور المجسمة والواقع الافتراضي، أساسية في المعرض والمتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية الذي تم افتتاحه في سنة 2021 وتشرف عليه رابطة العالم الإسلامي، وهي منظمة دولية غير حكومية هدفها المعلن هو تقديم “الإسلام الحقيقي”.
وفي بيان رؤيته، يؤكد المتحف على مهمته الخاصة، التي يوسعها لتشمل أيضًا تقديم “الصورة النقية” للإسلام. وفي حين أن مصطلح “نقي” يُقصد به الإشارة إلى شكل غير فاسد من الدين، فإنه من الناحية اللغوية يقترب بعض الشيء أيضًا من معنى “ميتافيرس”، الذي هو عالم خيالي تمامًا وغير مادي.
العودة بالزمن إلى الوراء، فقد احتلت المحاكاة مكانة قوية في نظرية الحلم الإسلامي لعدة قرون، واكتسبت مزيدًا من الزخم في العصر الحديث مع التقدم التكنولوجي من الصورة المتحركة إلى الميتافيرس
في الواقع، يتكون جزء كبير من محتوى المتحف من وحدات البكسل التي تومض على شاشات ثلاثية الأبعاد بالإضافة إلى الأفلام التي تحاكي المجتمع في زمن النبي محمد ﷺ، مثل العرض الرقمي للمسجد النبوي في المدينة المنورة. بالإضافة إلى ذلك، يتم الترويج للمتحف في الفيديو الرسمي الخاص به كوسيلة للدفاع عن النبي من خلال القوة الناعمة وتقوية أواصر الأخوة وتعزيز السلام والتسامح في جميع أنحاء العالم. وكشكل من أشكال الدبلوماسية الدينية والثقافية، تشارك هذه الأنواع من المتاحف في المنافسة الفردية عندما يتعلق الأمر بمن يُسمح له بتمثيل الإسلام وكيفية ذلك، ولذلك فإنها تثير أسئلة غيبية أكثر منها أثرية.
تتقاطع المساجد والمتاحف والميتافيرس الآن في عالم افتراضي بشكل متزايد، حيث أصبح من الممكن التجول في المسجد رقميًا، ويمكن للمتحف أن ينشر صورًا مجسمة وأن يكون له طابع يشبه المسجد، ويمكن أن يشمل الميتافيرس كل ذلك. وتكشف الضبابية التي طغت على هذه المجالات مؤخرًا عن تلاشي الفجوة الواضحة المفترضة بين الواقع المادي والحيلة الرقمية، مما يحفز الاختراعات في هذه المجالات من ناحية والاحترازات منها من ناحية أخرى.
بعيدًا عن القضايا التكنولوجية والعقائدية، يبقى سؤال واحد: كيف يفسر المرء مكانة الخيال أو عدم الواقعية في التقاليد الإسلامية، وما هو مسارها المستقبلي المحتمل؟ يمكن لهذا الاستفسار أن يحرك بعض التأملات “الوصفية”. في التقاليد الفلسفية الأوروبية، تعد مشكلة المحاكاة في الأساس مشكلة أفلاطونية لأنها تنطوي على تشابه يسقط صفات الأصل. وهذا الاختلاف، كما يشير الفيلسوف جيل دولوز، يؤدي إلى تباين جوهري. وقد جادل العلماء بأن المحاكاة في بعض الحالات تصبح حقيقة، وتقتل نموذجها الأصلي. وعند استبدال الواقع المادي، تصبح التصورات المحاكية والعوالم الخيالية “أكثر حقيقة من الواقع” – في محاكاة خارقة للطبيعة تتضمن عملية خداع معرفي واستبدال وجودي.
بالعودة بالزمن إلى الوراء، فقد احتلت المحاكاة مكانة قوية في نظرية الحلم الإسلامي لعدة قرون، واكتسبت مزيدًا من الزخم في العصر الحديث مع التقدم التكنولوجي من الصورة المتحركة إلى الميتافيرس. ففي علم تفسير الأحلام الإسلامي الكلاسيكي، يعد عالم الأحلام “واقعًا حقيقيًا” من صنع الله وليس الفرد، وبصفته “عالمًا من التشبيهات” (“عالم المثال”)، فإن هذا الواقع الفوقي يحتوي على صور وتشابهات، وإن كانت غير مادية، لكنها أصيلة الوجود ومفهومة الإدراك.
يوفر “عالم التشابهات” الإسلامي التاريخي هذا فرصة مستقبلية كمصفوفة ما قبل حداثية لمقاربة الميتافيرس باعتباره بُعدًا غير ملموس مليء بالصور، لا يسعى بالضرورة إلى استبدال الواقع بالخداع، أو الحقيقة بالخيال، أو الأصالة بالوهم والغرائبيات. ترتبط التشبيهات (بدلاً من المحاكاة) بالغيبيات – التحرر المطلق من الجسد – بالمعنى الحرفي، كما أن تصنع مشهد أحلام يدعو المشاركين فيه إلى الاقتراب من الإله، لا من خلال رحلة خارجية بل داخلية. وإذا كان الحج عبر الميتافيرس قد حدث في أي وقت مضى، فإنه يمكن صياغته بعبارات إيجابية باعتباره رحلة من القلب أو بالأحرى سفر القلب.
وتهدف هذه الحركة الروحية، التي تعد مركزية في التقاليد الصوفية وترتبط بمفهوم “كعبة القلب”، إلى تنشيط “العين الأخرى” وتحويل الإدراك من البصر إلى البصيرة. ومثل المسجد والمتحف، فإن الميتافيرس الإسلامي لا يمكن أن يعمل كمحاكاة خادعة تعمق الحرمان، وإنما كحلم جليل يدفع الفكر الغيبي الإسلامي إلى بُعد آخر بالكامل.
المصدر: نيولاينز