ترجمة وتحرير: نون بوست
حاول مبروك جاسر، وهو يضغط في يده حفنة من التراب، حبس دموعه بينما يواري ابنه الأكبر الثرى. مثل آلاف التونسيين من قبله، حاول أبو بكر (بوبكر) البالغ من العمر 16 سنة الهجرة إلى أوروبا في وقت سابق من هذه السنة أملا في بدء حياة جديدة ومستقبل أفضل. ولكن في الخامس من شهر أيلول/ سبتمبر أثناء محاولته دخول المجر عبر صربيا المجاورة، تحطمت السيارة التي كان يستقلها في نهر الدانوب أثناء مطاردة الشرطة له بسرعة جنونية، مما أدى إلى مقتله هو ومواطن تونسي آخر.
صرّح والد الفقيد لموقع “ميدل إيست آي” بعد فترة وجيزة من الجنازة بأن ابنه “كان على دراية بكل المخاطر، لكن كل ما كان يفكر فيه هو مغادرة تونس”. وأضاف بنبرة منكسر “ظل يخبرني أن جميع أصدقائه قد غادروا، وأن أبناء عمومته سلكوا نفس المسار. لقد أراد مغادرة البلاد”. وعلى غرار ملايين التونسيين، تضرّر جاسر بشدة من الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد حيث بات يُنظر إلى الهجرة إلى الشمال على أنها استراتيجية الخروج الوحيدة.
شهد الاقتصاد، الذي يحتضر لسنوات بعد انتفاضة الربيع العربي سنة 2011، مزيدًا من الاضطرابات في تموز/ يوليو الماضي عندما أقال الرئيس قيس سعيّد الحكومة وعلق عمل البرلمان فيما وصفه العديد من المراقبين بالانقلاب الأبيض.
أدت الزيادات في أسعار المواد الغذائية والطاقة على الصعيد العالمي نتيجة الحرب في أوكرانيا إلى زيادة العبء وإثقال كاهل المواطنين التونسيين العاديين، مما أدى إلى ارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية. وفي ظل هذا المناخ المالي غير المستقر، حاول أكثر من 13 ألف تونسي عبور الحدود إلى أوروبا منذ بداية السنة، الكثيرون منهم يسلكون طرق تهريب خطيرة عن طريق البحر.
وفقًا للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فُقد حوالي 500 شخص أو لقوا حتفهم قبالة الساحل التونسي خلال نفس الفترة.
قالت تسنيم عبد الرحيم، الباحثة غير المقيمة في معهد الشرق الأوسط، لموقع “ميدل إيست آي”، إن “هناك عوامل متعددة يمكن أن تفسر ارتفاع معدل الهجرة غير النظامية في تونس، ولكن عادةً ما تتأثر القرارات بمزيج من العوامل الاجتماعية والاقتصادية وتفاعلها”.
وأضافت أنه “إذا نظرنا إلى الأرقام التي أصدرتها مؤخرا شبكة “بارومتر عربي”، في تموز/ يوليو، فإن حوالي 55 بالمئة من التونسيين أفادوا بنفاد الطعام لديهم قبل تمكنهم من جني المال لشراء المزيد، مما يثير مخاوف بشأن نقص الغذاء. وقد أدت الديناميكية المزدوجة لارتفاع الأسعار مقابل محدودية خيارات كسب العيش إلى خلق مجموعة متزايدة من المهاجرين، إذ يفكر الكثير من الناس في البحث عن فرص أخرى في مكان آخر”.
جيش الكزاوي
تنتشر قصص الأحلام المحطة والمآسي في المناطق الداخلية من تونس مثل تطاوين، لكنها مصحوبة أيضًا بقصص نجاح أولئك الذين وصلوا إلى أوروبا واتخذوا منها موطنًا لهم.
في جنازة أبو بكر، أخبر العديد من السكان موقع “ميدل إيست آي” بأن أخبار المهرّب المغربي، الذي كان يروّج لشبكة تهريبه على “واتساب” و”فيسبوك”، قد استحوذت على أذهان المجتمع. وأوضح السكان أن هذا المهرّب، الذي يطلق عليه اسم الكزاوي”، يطلب من المهاجرين ما لا يقل عن 3500 دولار مقابل أن يوفّر لهم ممرا آمنا نسبيًا إلى أوروبا.
وبمساعدة ما يُعرف بـ “جيش الكزاوي”، تبدأ الرحلة عبر منصات التواصل الاجتماعي وتنطوي على السفر عبر ما يسمى طريق البلقان. ويتضمن المسار السفر من تونس إلى مدينة إسطنبول التركية. وبعد توقف قصير، يسافر المهاجر إلى بلغراد قبل السفر عبر الحدود الشمالية لصربيا إلى المجر أو إلى دولة أخرى داخل منطقة شنغن. وحسب نوع الخدمة، يدفع المهاجرون إما 3500 دولارًا شخصيًا أو يرسلون 3800 دولار إلى حساب في فرنسا، وذلك حسب المصادر.
يتلقى المهاجرون مؤنًا شحيحة من قبل المهربين ويتوجهون إلى غابة رادانوفاك على الحدود الصربية المجرية. ثم تُضاف أسماؤهم إلى قائمة حيث ينتظرون دورهم للعبور. وفي هذه المرحلة، يحدد المبلغ المدفوع مستوى الراحة التي سيتمتع بها المهاجر لبقية الرحلة.
وحسب المصادر، هناك طريقتان لاتخاذ قرار بشأن كيفية المضي قدما بعد ذلك. الأولى “تسليمة”، حيث يوجه المهرب المهاجرين لمسافة 30 كيلومترًا سيرًا على الأقدام عبر الغابة ونهر الدانوب وعبر الخطوط العسكرية. وبعد اصطحابهم في سيارة من طراز “فان”، سيقوم سائقون من جيش الكزاوي بنقلهم عبر المجر وإنزالهم بالقرب من الحدود النمساوية. بمجرد الوصول إلى هناك أو في مدينة ترايسكيرشن، وهي بلدة صغيرة جنوب فيينا، يسلمون أنفسهم إلى السلطات النمساوية حيث يتقدمون بطلب للحصول على اللجوء.
قالت المصادر إن الطريقة الثانية، المعروفة باسم “تكتية”، أرخص بكثير إذ تتراوح تكلفتها بين 1500 و2000 دولار – لكنها محفوفة أكثر بالمخاطر.
أداة تنظيمية
أفاد العديد من المهاجرين المحتملين بأن تواجد الجيش الكزاوي على منصات التواصل الاجتماعي ظل أداة تنظيمية مهمة ومساعدةً عملية لأولئك الذين يسافرون إلى دول منطقة شنغن الـ 26 التابعة للاتحاد الأوروبي ومن ثم عبرها. ولكن المخاطر لا تزال قائمة.
ووفقًا للصور التي اطلع عليها موقع “ميدل إيست آي”، يمكن ملاحظة عضات الكلاب وخدوش الأسلاك الشائكة والكدمات الناتجة عن الضرب على أرجل وأقدام المهاجرين في الغابات بالقرب من سوبوتيكا على الحدود مع المجر. وقد تواصل موقع “ميدل إيست آي” مع وزارة الخارجية المجرية للتعليق على الاستخدام المزعوم للقوة، لكنه لم يتلق ردًا حتى وقت النشر.
وفي تصريحه لموقع “ميدل إيست آي”، أشار أحد المهاجرين إلى مقاطع فيديو ورسائل منشورة على “إنستغرام”. عادةً ما يتم وضع علامات على مقاطع الفيديو على أنها فيديو “حراقة”، وهي كلمة عامية مستخدمة في تونس والجزائر والمغرب وليبيا لوصف المهاجرين العابرين للبحر الأبيض المتوسط.
غالبًا ما تتضمن مقاطع الفيديو مهاجرين يجتازون البحر الأبيض المتوسط على متن قوارب وزوارق صغيرة، ولكن يمكن أن تشمل أيضًا أشخاصًا في شاحنات مكتظة تشق طرقا ترابية.
في شباط/ فبراير، انتشر مقطع فيديو عن الحراقة على نطاق واسع لسيدة تونسية، واجتذب تغطية إعلامية عالمية لتمجيد الهجرة غير الشرعية على ما يبدو. وقالت شركة “ميتا”، الشركة الأم لـ “فيسبوك” و”إنستغرام” و”واتساب”، لموقع “ميدل إيست آي” إن مقاطع الفيديو التي تشير إلى خدمات التهريب ستخضع لمراقبة مسبقة وسيتم حذفها.
بعد أيام قليلة من إطلاع فيسبوك على صفحة جيش الكزاوي، قال متحدث باسم شركة “ميتا” إنه اتخذ الإجراء المناسب وتم حذف الصفحة. وقال المتحدث إن “تهريب الأشخاص عبر الحدود الدولية غير قانوني ولا يُسمح بتنسيق هذا النشاط على منصاتنا. نحن نتخذ الإجراءات بمجرد أن ندرك ذلك، ونواصل العمل مع سلطات إنفاذ القانون والخبراء من جميع أنحاء العالم لمعالجة هذه المشكلة”.
زيادة عدد المغادرين
في محاولة للحد مما يسمى بالهجرة غير الشرعية، كثفت العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الضغط على صربيا لتشديد نظام التأشيرات. وقالت السفارة التونسية في بلغراد لموقع “ميدل إيست آي” إنه اعتبارًا من 20 تشرين الثاني/ نوفمبر، أصبح المواطنون التونسيون مطالبين بتأشيرة للسفر إلى صربيا.
لم تجب وزارة الخارجية التونسية على أسئلة موقع “ميدل إيست آي” بشأن القرار لكنها قالت “إنها على علم بالموضوع ويفكرون حاليًا في الخطوات التالية التي يجب اتخاذها في مواجهة هذه الإجراءات الجديدة”.
حسب تسنيم عبد الرحيم فإن “إلغاء شرط التأشيرة قد يزيد من أهمية شبكات التهريب للتونسيين المهاجرين عبر طريق غرب البلقان. وستصبح الرحلات أطول وأكثر تكلفة وأكثر خطورة”.
يُذكر أن تونس تفرض بالفعل قيودًا على السفر لمن هم دون 35 سنة، حيث تطلب شرطة الحدود في المطارات في كثير من الأحيان تصاريح الوالدين لأولئك الذين يسافرون إلى تركيا والمغرب والجزائر وليبيا.
قال مات هربرت، مدير الأبحاث في مرصد شمال إفريقيا والساحل في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، لموقع “ميدل إيست آي” إنه على الرغم من رؤية حطام القوارب مؤخرًا قبالة الساحل التونسي، ازدادت أهمية طريق البلقان على مدار السنة الماضية. يُنظر إلى خط سير هذه الرحلة على أنه أغلى بكثير من الرحلة البحرية، باعتباره أكثر أمانًا من الطريق البحري، كما يعتبر أكثر أمانا في عصر تشديد تطبيق الحدود من قبل السلطات التونسية.
وأضاف “من كانون الثاني/ يناير إلى آب/ أغسطس، ما رأيناه هو أنه تم اعتراض أكثر من 5000 مواطن تونسي على طول طريق البلقان. مقارنة بـ 842 مواطن الذين تم اعتراضهم طوال السنة الماضية”.
من غير الواضح ما إذا كان الرجال هم الذين يقدمون على الهجرة في المقام الأول، ولكن وفقًا لآخر مسح وطني، تشهد تونس هجرة أدمغة بنسق كبير – جزئيًا نتيجة لتخفيضات الميزانية في قطاعي التعليم العالي والبحث. ويُذكر أن حوالي 39 ألف مهندس تونسي و3300 طبيب غادروا البلاد بين سنتي 2015 و2020.
من جهته، قال محمد علي الطالبي، الباحث في شؤون الهجرة، لموقع “ميدل إيست آي”، إن العديد من التونسيين الذين شقوا طريقهم إلى أوروبا يلومون الحكومة على الأزمة التي يعيشونها. وبمجرد نزولهم من الشاحنات أو الحافلات، يمكن رؤية وسماع العديد من هؤلاء الشباب وهم يهتفون “الرخ لا” (التي تعني لا رجوع إلى الوراء) وشعارات مثل “أهل تطاوين”. وأضاف أن “هذه طريقة للقول إن هؤلاء الشباب موالون للمنطقة وليس للدولة. إنها طريقتهم لقول “لقد أهملتنا الدولة وتركتنا وحدنا”.
قال سعيد، وهو من سكان تطاوين رفض ذكر لقبه، إنه ساعد أخاه مؤخرًا على الهجرة إلى أوروبا منذ أكثر من شهر بقليل. وقال لموقع “ميدل إيست آي”، إن “رحيل كل هؤلاء الشباب هو خطأ الحكومة. لقد أرسلت أخي لأنه لم يكن أمامي خيار آخر، فأمل أو مستقبل له هنا. أخي رجل قوي ولكن هذه الرحلة أبكته، وأبكتني أيضًا. إنها ليست نزهة في الحديقة أو سهلة كما يعتقد الناس. لقد رأى الموت. هل تدرك معنى أن تشاهد شخصين يتقاتلان حتى الموت، حتى يقتل أحدهما الآخر، في غابة صربية نائية؟ سوف يطاردك هذا المشهد لبقية حياتك”.
المصدر: ميدل إيست آي