ترجمة وتحرير: نون بوست
أن تأتي متأخرا أفضل من أن لا تأتي مطلقًا؛ هكذا يقول المثل القديم؛ وهكذا يجب أن يكون الاستنتاج بعد قراءة أحدث مقال في مجلة “إيكونوميست” الأسبوع الماضي حول كيفية “تجميد” أوروبا.
أبدت المجلة قلقها من أن القارة “تواجه أزمة دائمة في الطاقة والجغرافيا السياسية التي ستضعفها وتهدد موقعها العالمي”، في حين أن “الضغط الاقتصادي الوحشي سيشكل اختبارًا لصمود أوروبا في عام 2023 وما بعده”.
كان هذا المنظور واضحا بالفعل منذ أشهر؛ ولكن فقط مع قدوم الشتاء المتجمد؛ فقد بدأ يشق طريقه إلى واحدة من وسائل الإعلام الغربية الرئيسية.
وتؤكد المجلة على أن “الخوف من أن إعادة صياغة نظام الطاقة العالمي والشعبوية الاقتصادية الأمريكية والانقسامات الجيوسياسية؛ تهدد القدرة التنافسية على المدى الطويل لدول لاتحاد الأوروبي وحتى الدول غير الأعضاء، بما في ذلك بريطانيا”، مشيرة إلى أن “ازدهار القارة ليس فقط هو الخطر، بل متانة التحالف العابر للأطلسي أيضًا”.
وعلى نحو فعال؛ فإن السعر المرتفع الذي تفرضه الولايات المتحدة على أوروبا مقابل إمداداتها من الغاز الطبيعي المسال، وسياسات الاحتياطي الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة التي تدعم الدولار، وحزمة الدعم الأخضر (وهو مصطلح يعني تخصيص الموارد العامة لغرض تحسين الاستدامة بغض النظر عما يمكن أن يحدث عكس ذلك عبر السوق) التي قدمتها إدارة بايدن بقيمة 369 مليار دولار تحت رعاية قانون خفض التضخم؛ أدت جميعها إلى زيادة التوترات بين ضفتي المحيط الأطلسي. ففي مثل هذه الظروف، فإن القدرة التنافسية للاقتصاد الأوروبي تخاطر بالتعرض للخطر.
لا تزال أزمة الطاقة على رأس أولويات أوروبا؛ حيث تشير أحدث التوقعات الاقتصادية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن حصة الناتج المحلي الإجمالي للأعضاء التي تم إنفاقها على طاقة الاستخدام النهائي تبلغ حوالي 18 في المائة، أي ضعف ما كانت عليه في عام 2020. كما تحذر التوقعات من خطر كبير؛ حيث يُتوقع أن تكون احتياطيات الغاز في أوروبا في الشتاء المقبل أصغر مما هي عليه هذا الشتاء.
ووفقا لنمذجة الإيكونوميست الخاصة؛ فإنه “في فصل الشتاء العادي، يرتبط ارتفاع أسعار الطاقة الحقيقية بنسبة 10 بالمئة بزيادة بنسبة 0.6 بالمئة في الوفيات، ومن ثم فإن أزمة الطاقة هذا العام يمكن أن تسبب أكثر من 100000 حالة وفاة إضافية لكبار السن في جميع أنحاء أوروبا”، ولإعطاء فكرة عن الحجم؛ فقد قدرت وكالة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عدد القتلى المدنيين في أوكرانيا بعد تسعة أشهر من الحرب بنحو 6600 قتيل.
الحماقة والخلل الوظيفي
لحسن الحظ؛ كانت أوروبا قادرة على ملء مخازن الغاز لهذا الشتاء تقريبا بكامل طاقتها، ولكن تم تحقيق هذا الهدف من خلال زيادة أكثر من 40 بالمئة في واردات الغاز الطبيعي المسال الروسي (نعم؛ الروسي) بين يناير وأكتوبر، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ومن الصعب العثور على كلمة أفضل من “التراجيدية” لوصف مثل هذا الموقف.
تجسد هذه البيانات حماقة الاتحاد الأوروبي واختلال مؤسساته، فقد دفعت الأسباب الجيوسياسية أوروبا إلى تنويع إمداداتها من الطاقة بعيدا عن الغاز الروسي، من أجل تجنب الاعتماد على دولة استبدادية وخطيرة. ويجب على صناع القرار في الاتحاد الأوروبي الآن شرح المنطق الكامن وراء التخلي عن أرخص خيار للإمداد، وهو الغاز الذي يتم توصيله بالأنابيب، لاختيار أغلى خيار، وهو الغاز الطبيعي المسال الذي يتم تسليمه بحرًا، من نفس المورِّد.
وإذا كان الوضع يجبر أوروبا على مواصلة الاعتماد على الغاز الروسي؛ لماذا تم اختيار الخيار الأغلى؟ الوضع سخيف لدرجة أنه يقودني إلى السؤال: بين الاتحاد الأوروبي وروسيا, من حقًّا يعاقب من؟.
Europe faces a crisis of energy and geopolitics that will threaten its global position https://t.co/h6w08jh9yR pic.twitter.com/oUaRy0OKOL
— The Economist (@TheEconomist) November 24, 2022
قد تحصل حملة الاتحاد الأوروبي الواضحة نحو إيذاء النفس على دفعة أخرى من الحد الأقصى لأسعار النفط الروسي الذي من المتوقع أن تتبناه بروكسل بحلول 5 كانون الأول/ ديسمبر؛ حيث إن الهدف هو خفض عائدات روسيا، لكن الوضع قد ينقلب ضد أوروبا، فلا أحد يعرف حقًّا الآثار المحتملة لمثل هذا الإجراء على إمدادات النفط وأسعاره، ويبدو أن إدارة بايدن ضغطت على الاتحاد الأوروبي لتخفيف سياسة العقوبات، لأن المزيد من الإجراءات يمكن أن تعطل أسواق النفط تماما وتكثف أزمة الطاقة.
وهذا يمثل وضعا مأساويًّا آخر؛ فالولايات المتحدة التي طالبت فيما يتعلق بإيران بالولاية القضائية العالمية من خلال تطبيق عقوباتها الثانوية ضد الجميع ، بما في ذلك أعضاء الاتحاد الأوروبي؛ تضغط الآن على الاتحاد الأوروبي لتجنب السير في نفس الطريق بشأن أوكرانيا.
ونتيجة لذلك؛ ففي حين تم تنشيط العلاقات السياسية عبر الأطلسي من خلال موقف متماسك قوي ضد روسيا، فقد تتعرض العلاقات الاقتصادية لضغوط شديدة إذا استمر تقاسم أعباء التكاليف الاقتصادية للحرب الأوكرانية بشكل غير متكافئ؛ وهذه هي الرسالة التي يجب على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إيصالها خلال زيارته الرسمية إلى واشنطن هذا الأسبوع.
القلق الاقتصادي
وقد نقل المستشار الألماني أولاف شولتز بالفعل رسالة أكثر حزما إلى واشنطن من خلال زيارته بكين برفقة كبار رجال الأعمال. وبغض النظر عن الضغوط الأمريكية، وحتى خلافا لتوصيات بيروقراطية بروكسل نفسها؛ فإن ألمانيا ليس لديها نية للفصل عن الصين، ويبدو أنها أكثر وعيا من الولايات المتحدة بأن “مراكز قوى جديدة آخذة في الظهور في عالم متعدد الأقطاب، ونحن نهدف إلى إقامة وتوسيع الشراكات مع كل منهم”.
بعبارة أخرى؛ فإن رسالة شولز إلى بايدن هي التالية: “إذا شعرت بأنني مضطر لقطع علاقتي بالطاقة مع روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، فلا تعتقد للحظة أنني سأشعر بأنني مضطر لفعل الشيء نفسه بالنسبة لعلاقتي التجارية مع الصين”.
تضر السياسات الاقتصادية الأمريكية وأزمة الطاقة بالاقتصادات الأوروبية لدرجة أن الإيكونوميست تدرك أن القارة “معرضة لخطر تراجع التصنيع الشامل”، ويبدو أن صانعي القرار في بروكسل غير مدركين أنهم يركضون نحو الهاوية.
وقد تظهر إدارة بايدن المزيد من الحكمة والحس السليم؛ فبعد كل شيء: ما هي الميزة التي ستحصل عليها الولايات المتحدة في تعزيز السندات عبر الأطلسي إذا كان السعر يمكن أن يكون في نهاية المطاف الدمار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي في القارة الأوراسية؟
من الواضح بالفعل أن أوروبا هي الخاسر الخارجي الأكبر في الصراع الأوكراني، لكن مخاوفها لا تنتهي عند هذا الحد، فوفقا لتقديرات البنك المركزي الأوروبي؛ من الآن وحتى عام 2030 يجب على الاتحاد الأوروبي أن ينفق أكثر من خمسة تريليونات يورو (5 تريليون دولار) للمضي قدما في انتقاله الأخضر، وتنويع إمدادات الطاقة، وسد الفجوة الرقمية، والوصول إلى هدف الإنفاق العسكري لحلف الناتو البالغ اثنين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؛ أي ما يعادل تقريبا تكلفة خطة التعافي من فيروس كورونا في الاتحاد الأوروبي كل عام ، حتى نهاية العقد.
من الصعب أن نتخيل كيف ستكون أوروبا قادرة على إنجاز مثل هذه المهمة الهائلة في عصر تعدد الأزمات، الذي وصفه وزير الخزانة الأمريكي السابق لاري سامرز بأنه “مجموعة التحديات الأكثر تعقيدا وتباينا وشمولا” التي واجهناها منذ أربعة عقود.
بل إنه من الصعب تخيله بالنظر إلى الثلاثي الحالي الذي يقود الاتحاد الأوروبي؛ فيبدو أن رؤساء المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية مختلفين مع بعضهم البعض بسبب بروتوكول نيسان/أبريل 2021 الذي جعل الأول كما لو كان على مقيدًا على كرسي متحرك، والثاني هو من يتزعم ويدير الأمور؛ في حين أن الثالث، رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، يشجع على رؤى معقدة في السياسة الدولية مثل أن “أوروبا هي الحديقة[و] معظم دول العالم الأخرى هي غابة”؛ والواقع أن حملة أوروبا لإيذاء نفسها تسير بأقصى سرعة.
المصدر: ميدل إيست آي