ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما كانت مدينة غازي عنتاب التركية تاريخيًا مفترق طرق بين الأعراق. والآن، بدأ اللاجئون تغييرها تدريجيًا مرة أخرى.
تتذكر ريم النجار (34 عامًا) كيف كانت عائلتها تستقل السيارة لمدة أقل من ساعتين عبر الحدود التركية لقضاء فترة ما بعد الظهر في التسوق في غازي عنتاب، ثم بحلول المساء تكون بحوزتها علبة من أجود أنواع البقلاوة في طريقها إلى حلب. تستحضر هذه الذكريات قائلة: “كنا كسوريين مطالبين فقط بإظهار هويتنا الشخصية دون الحاجة لجواز السفر. كانت [غازي عنتاب] كأنها امتداد لوطننا”.
مرّ أكثر من عقد منذ ذلك الحين ومعه انقلبت حياة ريم بعد أن فرض بشار الأسد حصارًا على عاصمة سوريا الثقافية وثقلها الاقتصادي خلال إحدى أكثر حلقات الحرب الأهلية دمويةً. اليوم، تعيش ريم على جانب الحدود حيث كانت فيما مضى تقضي عطلات نهاية الأسبوع كواحدة من بين 500 ألف لاجئ في غازي عنتاب والمناطق المحيطة.
ولكن بدلاً من مجرد التوق إلى حقبة ولّت، عمل النازحون السوريون على مر السنوات على إعادة تكييف منازلهم الجديدة لتلبي احتياجاتهم – وحنينهم إلى حلب – رغم التوتر المتزايد مع بعض السكان المحليين في أحد معاقل المحافظين في تركيا.
إن الصراع الدائر في البلد المجاور غيّر معالم مدينة غازي عنتاب التي تشتهر بثقافتها الغنية ومأكولاتها، وهي واحدة من أقدم المدن وأكثرها اكتظاظًا بالسكان في تركيا وتقع في بلاد ما بين النهرين القديمة، وتعتبر ملتقى طرق للحقب التاريخية والأعراق حيث يتعايش الأتراك والأكراد والعرب معًا.
بينما تحتسي ريم شاي الأعشاب في مقهى ساكلتا الشهير في المدينة، من السهل ملاحظة ثرثرة البعض باللغة العربية في الخلفية، بالإضافة إلى تعليق لوائح المشروبات بكِلا اللغتين. قالت ريم، وهي مترجمة متدربة تعمل الآن في الأمم المتحدة كعاملة إغاثة: “أشعر هنا وكأنني في وطني. عندما أسير في هذه الشوارع، أشعر أنه لا يوجد شيء في سوريا لا أستطيع أن أراه هنا”.
كانت غازي عنتاب وحلب، اللتين تفصل بينهما 100 كيلومتر، جزءًا من نفس المنطقة تحت حكم الإمبراطورية العثمانية. وقد ساهم التحول الأخير في لمّ شملهما مرة أخرى لأسباب ليس أقلها سياسة بلدية غازي عنتاب المتمثلة في دمج الوافدين الجدد في المدن بدلاً من مخيمات اللاجئين.
وحتى قبل اندلاع الحرب السورية في سنة 2011 ونزوح ما يقارب 4 ملايين شخص شمالًا إلى تركيا، كانت غازي عنتاب واحدة من أسرع المناطق الحضرية نموًا في العالم، إذ زاد عدد سكانها من 120 ألفًا في السبعينيات إلى أكثر من مليون. ومنذ ذلك الحين، أصبحت مركزًا رئيسيًا للمساعدات الإنسانية ونقطة جذب للحلبيين الذين تمكنوا من العثور على عمل.
قال محمد نوري جولتكين، أستاذ علم اجتماع في جامعة غازي عنتاب يركز بحثه على دمج اللاجئين في المناطق الحضرية: “لقد جذبهم إلى هنا الطلب الكبير على العمالة غير الماهرة. ولكن ما جعل التكيف على العيش في المدن أسهل بالنسبة لهم هو حقيقة أن غازي عنتاب وحلب مدينتان توأمان ويجمعهما تاريخ عميق وميزات ثقافية مشتركة”.
لم يرحب الجميع بذلك لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي تعاني منها تركيا، حيث تجاوز معدل التضخم 80 في المئة وأصبحت منافسة أكبر على الإسكان. زار الرئيس رجب طيب أردوغان غازي عنتاب في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر ووعد بمزيد من الاستثمار قبل الانتخابات العامة المقبلة، بينما انتقده بعض السكان المحليين لسماحه للسوريين بالاستقرار – وفعلاً استقروا. تعتبر غازي عنتاب القديمة بشوارعها الضيقة المليئة بورش النحاس والحدادين الملتفة حول حصن القلعة الشاهقة في المدينة، مشهدًا يذكر بحلب قبل الحرب.
بنى الحلبيون المدارس والمتاجر والمطاعم. وكانت النتيجة شوارع تتجاور فيها الحروف العربية مع لافتات المتاجر باللغة التركية حيث تشترك وجبات الشاورما السورية السريعة في نفس المساحة مع بائع الكباب التركي. وبعض الأحياء 90 في المئة من سكانها عرب.
مع استعادة نظام الأسد العلوي السيطرة على حلب ذات الأغلبية السنية لتصبح إعادة إعمار المدينة القديمة في يده، فإن القلق الوحيد الذي يطارد المنفيين هو أن المدينة لن تعود أبدًا كما كانت. اعتبارًا من سنة 2017، تم تحديد أكثر من 100 ألف مبنى على أنها مدمرة في سوريا، وتمثل المباني في حلب ثلث المجموع. لهذا السبب، قرر صاحب مطعم واحد على الأقل إنشاء “نسخة تقريبية” لمطعمه في غازي عنتاب.
هرب وائل عديل (39 عامًا)، وهو مالك مطعم “عنتاب سراي” الموجود في حي القلعة القديمة في غازي عنتاب، من مسقط رأسه ووجد ملاذًا في غازي عنتاب في سنة 2020. وقد وجد مطعما تركيا قديما له نفس السمات المعمارية لمنزل قديم في حلب. بحث في كيفية جذب العملاء السوريين والأتراك على حد سواء، ثم أدرك أن التركيز على هوية المطعم الحلبية وتلبية احتياجات النازحين هو الخيار الرابح.
قال عديل، الذي يقدم مطعمه عروضًا حية للموسيقى السورية في عطلة نهاية الأسبوع: إن “الطعام والهندسة المعمارية متشابهة للغاية، وبطريقة ما يحاول آلاف الحلبيين المنفيين بسبب الحرب أن يكونوا مبدعين في جعلها تبدو وكأنها وطنهم، لذا حاولت محاكاة نفس الأجواء التي قد تجدها في مطعم نموذجي في حلب”.
بفضل صناعة المنسوجات والمواد الغذائية المزدهرة، قدمت غازي عنتاب فرصة اقتصادية كبيرة للسوريين الذين افتتح العديد منهم متاجر ومطاعم في شوارع المدينة المزدحمة، مما أتاح فرص عمل للمواطنين الأتراك أيضًا.
نقل صانعو الصابون في حلب المشهور بجودته على مستوى العالم وفوائده للبشرة مصانعهم التي دمرتها الحرب إلى ضواحي المدينة التركية. وقبل عقد من الزمان، كانت غازي عنتاب تفتقر إلى الإنتعاش الاقتصادي الذي كانت تتمتع به حلب من قبل، لكن الحلبيين يغيرون ذلك الآن على حد تعبير غولتكين.
مع ذلك، لا شك أن الوافدين الجدد فرضوا أيضًا ضغطًا كبيرًا على موارد المدينة. فقد ارتفعت أسعار الإيجار بشكل كبير ونشأ صراع حول الوصول إلى مياه الشرب في وقت سابق من الأزمة. هذا إلى جانب الاستياء من أن المساعدات التي تم ضخّها كانت مخصصة فقط للسوريين، ولا تشمل الأتراك المحرومين. ردًا على ذلك، تبنّت المدينة نهجًا تكامليًا وعملت على تكييف بنيتها التحتية وخطط الإسكان وغيرها من الخدمات.
قالت جيمري كوجاك، مساعدة مدير المشروع في جمعية غازي عنتاب للشباب والتدريب، وهي منظمة غير حكومية تساعد المجتمعات المتعثرة في المدينة، إن “الفكرة تتمثل في تقديم معاملة وفوائد متساوية للمحرومين من الأتراك والمهاجرين على حد سواء، وعندما تعمل في أحياء محرومة حيث يكون للأتراك والسوريين نفس الاحتياجات، عليك التركيز على جانب الحرمان وليس الثقافة أو الجنسية”.
عملت جمعيتها على تحدي الصور النمطية من خلال الأنشطة التي تهدف إلى تقديم الطعام لكل من الأتراك والسوريين في الأجزاء المختلطة من المدينة. كما يديرون أنشطة تعليمية ثنائية اللغة في مراكز المجتمع العامة في الحوسبة والفنون والطبخ والنوادي الناطقة باللغة الإنجليزية.
وبما أن أكثر من نصف اللاجئين السوريين في تركيا تحت سن 18 سنة، فإن القلق الأكبر هو التعليم الرسمي. افتتحت جامعة غازي عنتاب أقسامًا بالمنهج العربي، ومع ذلك يكمن التحدي في استيعاب السوريين في نظام التعليم التركي. في البداية، كان الأطفال يتعلمون المناهج السورية باللغة العربية بهدف عودتهم إلى ديارهم – حسب جولتكين – ثم أغلقت معظم هذه المدارس أبوابها منذ ذلك الحين.
تقع مدرسة أطفال قوس قزح في حي تركمانلر الذي يمثل السوريون 90 بالمئة من سكانه، وهي من المدارس الابتدائية القليلة التي تقدم دروسًا باللغة العربية. افتُتحت المدرسة في سنة 2020 باعتبارها منظمةٌ غير حكومية لتعليم الأطفال السوريين غير المسجلين وغير القادرين على الالتحاق بالمدارس التركية.
قالت هبة جهجة، المسؤولة الميدانية في مدرسة أطفال قوس قزح، التي كانت تعمل في روضة أطفال سوريا، إن “التحدي الرئيسي هو أنهم في كثير من الأحيان لا يشعرون بالراحة في الذهاب إلى المدارس التركية بسبب قضايا العنصرية، سواء مع المعلمين أو الطلاب، وينتهي بهم الأمر بالتخلي عن التعليم”.
وفقًا لنشوان جمالي، وهو مواطن حلبي يعيش في غازي عنتاب منذ سنة 2013، تعزى هذه المشكلة إلى التمييز العنصري موضحًا أن الأتراك والسوريين يعيشون حياتهم في فقاعات منفصلة ونادرًا ما يتفاعلون مع بعضهم البعض، الأمر الذي يخاطر بتحويل غازي عنتاب الجديدة إلى مدينة داخل مدينة.
حاول جمالي (31 عاما) التصدي للعنصرية من خلال نادي “روم 41” المتخصص في تنظيم عروض موسيقى الإلكترو. كان يفعل ذلك في حلب عندما اندلعت الحرب حتى انقطعت الكهرباء. عندما أطلق مشروعه في غازي عنتاب في سنة 2016، كان هدفه مساعدة أفراد المجتمعين على الالتقاء، وكذلك إنشاء مكان من شأنه أن يعطي النازحين السوريين تذكيرًا ببلدهم قبل أن يتحول إلى أنقاض.
قال جمالي: “إنها طريقة مناسبة لنسيان الماضي والاسترخاء في جو آمن، وجعل المدينة أقرب إلى ما كان عليه الوطن قبل الحرب”. كما تمثل الحفلات التي يقيمها في النادي كسرا للنمط المعتاد، بقوله “عندما أشرف على الحفلات، فإن الصورة التي أراها تعكس التركيبة السكانية المتغيرة للمدينة: عمال المنظمات غير الحكومية الأجانب، والسوريون والأتراك جميعهم يرقصون معًا على إيقاع الموسيقى الإلكترونية. لم يكن من الممكن تخيل هذا قبل 10 سنوات”.
بالنسبة لعديل، فإن مطعمه “عنتاب ساراي” عند سفح قلعة غازي عنتاب لا يزال نسخة مزيفة من الوطن قارنها ببطاقة بريدية قديمة بالأبيض والأسود لحلب. ما يريده أيضًا هو أن يكون مطعمه أداة من أجل الاندماج بقدر كونه جزءًا صغيرا مما كانت عليه الحياة في حلب. وفي الوقت الحالي، فإن 10 بالمئة فقط من زبائنه من الأتراك حسب تقديره. وحيال ذلك قال: “لدينا العديد من العملاء الأجانب الذين يرتادون المطعم لأنه يمثل الحد الأقصى من سوريا – إنه مثل فرع من فروع حلب. آمل أن ينضم المزيد من الأتراك إلى طاولات عشائنا، لفهم هذا الجانب الجديد من غازي عنتاب”.
المصدر: موقع بلومبيرغ