ترجمة وتحرير: نون بوست
في يوم أحدٍ شتوي دافئ من السادس من شهر كانون الأول/ ديسمبر 1992، تم تكليفي بصفي مراسلا لمحطة تلفزيونية في دلهي بزيارة بلدة أيوديا شمال شرق الهند من أجل تقرير عن تجمع سياسي ضخم متوقع للجماعات القومية الهندوسية في المدينة القديمة.
تعرف أيوديا، التي تعتبر وجهةً مقدسة للعديد من المجتمعات الدينية في الهند، بجمال معالمها وتاريخها الثقافي الذي يعود للعصور القديمة. يقدّس البوذيون هذه المدينة باعتبارها مركزا دينيا مهما، ويُجلّها الهندوس باعتبارها مسقط رأس الإله راما، أما بالنسبة للمسلمين فهي موقع مسجد بابري الكبير والضخم الذي يبلغ عمره 464 سنة والذي يُعتقد أنه بُني بأمر من الإمبراطور بابور مؤسس إمبراطورية المغول. ولكن هذا المسجد يمثل جزءا من تاريخ أيوديا الثري الذي مُحي بشكل عنيف في ذلك اليوم.
في ذلك اليوم، سُمح لمئات الآلاف من المتظاهرين القوميين الهندوس بالتجمّع في أيوديا بإذن من حكام المقاطعة المتعاطفين معهم، وعلى رأسهم الحزب السياسي الرئيسي لليمين الهندوسي “بهاراتيا جاناتا”. اجتمع قادة بارزون في حزب بهاراتيا جاناتا، بما في ذلك رئيس الحزب لال كريشنا أدفاني، والرئيس المستقبلي للحزب مورلي مانوهار جوشي، والرئيس بالنيابة لمنظمة “فيشوا هندو باريشاد” أشوك سينغال، إلى جانب العديد من أعضاء البرلمان خارج المسجد في ذلك الصباح. وسرعان ما انضم إليهم أنصارهم إلى منطقة تجمّع كانت تعطي رؤية واضحة للمشهد الرهيب الذي سيحدث بعد ذلك. لقد أشعلت أفعالهم شرارة أعمال شغب من شأنها أن تغير وجهات النظر تجاه أيوديا القديمة والهند على حد سواء.
تدهورت الأمور بحلول الظهيرة واختفت قوات الأمن التي كانت تحرس المسجد كما لو أنها تلقت إشارة على ذلك. شوهد المسؤولون المدنيون المحليون في مقطع فيديو وهم يقفون مكتوفي الأيدي بينما اقتحمت حشود المشاغبين الموقع مسلحين بمطارق وفؤوس وخطافات. وشرعوا في تنفيذ المهمة التي جاؤوا من أجلها وهي هدم المسجد بالكامل. وقد سُمح للمخربين بالقيام بأعمال شغب وهدم المسجد بينما تعرض الصحفيون والمصورون في المنطقة للضرب والاعتداء ومُنعوا من تسجيل قصصهم وروايتها. واستمرت المذبحة على ما يبدو بلا نهاية.
لم يُسمح للقوات شبه العسكرية وأفراد الجيش المخيمين في الجوار بدخول المنطقة إلا بعد يومين، وتحديدا في صباح يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 1992. وبحلول ذلك الوقت، كانت القباب الثلاثة الكبيرة للمسجد قد هُدمت وتحوّل إلى معبد هندوسي مؤقت تم إنشاءه تحت خيمة.
ساعد تدمير مسجد بابري في تعزيز الحملة الرامية لتحويل الهند إلى بلد قومي للهندوس
تردد صدى دمار مسجد بابري بشكل كبير خارج المدينة والمحافظة. وفي الأسابيع التي تلت ذلك، قُتل وجُرح الآلاف في أعمال شغب في جميع أنحاء البلاد. وقد شهدت مدينة مومباي أسوأ أعمال عنف ووفيات طائفية منذ قرن، حيث استمرت أعمال الشغب لمدة شهر كامل. عانت الهند وأمنها الداخلي وروحها الوطنية بشكل خطير.
يصادف الأسبوع المقبل مرور 30 سنة على تدمير مسجد بابري. لقد دُمّر المسجد على يد حشد من المخربين وعلى مرأى من الجميع، وجاءت عملية الهدم على خلفية التعبئة العامة الضخمة التي نظمها حزب بهاراتيا جاناتا، ما هز الأسس العلمانية للهند. لأول مرة منذ سنة 1950، وهو العام الذي أصبحت فيه الهند جمهوريةً، صاغ الحزب السياسات الوطنية بشكل علني حول الهوية الدينية وأدخل نظام الأغلبية في التيار السياسي السائد. وقد كان هدم مسجد بابري نقطة تحول في حظوظ حزب بهاراتيا جاناتا السياسية. فبعد أن كان مجرد حزب هامشي، نما بشكل مطرد إلى نظام طاغي وفاز بالأغلبية المطلقة في كل من الانتخابات العامة الأخيرة في الهند في سنتي 2014 و2019.
وفي عهد زعيمه، رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، أعاد الحزب تشكيل الثقافة والسياسة الهندية باستخدام تفسيره الخاص للتاريخ القديم كأداة لتكثيف الاستقطاب بين الهندوس والمسلمين. وترجع هيمنة اليمين الهندوسي المتزايدة على السياسة الهندية اليوم إلى عملية تدمير مسجد بابري وبناء معبد الإله راما، وهو إله هندوسي رئيسي، حيث كان قائما ذات يوم. ويؤكد العديد من القوميين الهندوس أن المسجد أُقيم في المكان الذي ولد فيه راما.
كان هذا الاعتقاد شائعًا في المنطقة لعقود من الزمن، بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر. وبعد ثمانينات القرن الماضي، تعزز هذا الاعتقاد بسبب الحملة التي بدأها نشطاء سياسيون. وقد أضفيت الشرعية على هذه الحملة بالادعاء أن المسجد هو المكان المحدد لميلاد الإله راما وذلك لإثارة المشاعر المعادية للمسلمين بشكل عام.
كانت الحملة مدفوعة من قبل المنظمات تحت إشراف منظمة التطوع الوطنية راشتريا سوايامسيفاك سانغ (آر إس إس)، المنظمة الأم لليمين الهندوسي التي تأسست في سنة 1925. وتعد منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” حاليا أكبر منظمة شبه عسكرية وأقوى منظمة مجتمع مدني في الهند. وقد تلقى العديد من أعضاء الحكومة الحالية، بمن فيهم رئيس الوزراء مودي، تعليمهم على يد هذه المنظمة واستمروا في العمل كمرشحين أو دعاة لأفكارها.
حُظر نشاط منظمة التطوع الوطنية ثلاث مرات في الهند المستقلة، أولها كانت في سنة 1948 وذلك عقب اغتيال المهاتما غاندي الزعيم الروحي للهند. وكان القاتل ناثورام جودسي، وهو عضو من هذه المنظمة. كتب ديريندرا ك. جها، الصحفي المقيم في دلهي، سيرة ذاتية جديدة ومشهورة عن الحادث بعنوان “قاتل غاندي”، مشيرا إلى أنه لم يجد أي دليل على الإطلاق بأن جودسي قد ترك المنظمة على الرغم من تأكيدها أنه استقال قبل أن ينفذ الاغتيال.
ساعد تدمير مسجد بابري في تعزيز الحملة الرامية لتحويل الهند إلى بلد قومي للهندوس، ومهد الطريق لتصوير الإسلام كدين وأسلوب حياة غريب عن الهند في تجاهل كامل للتاريخ الغني للتعايش والتعاون الذي ساد منذ فترة طويلة في شبه القارة الهندية. مثلت سنة 1992 بداية عهد سياسة جديدة بمساعدة منظمات إعلامية خاصة قوية لا تروج فقط إلى الإسلام بأنه يدعو إلى العنف، بل تصفه بأنه “غريب” عن الثقافة الهندية.
يتم تصوير المسلمين الهنود اليوم بشكل متزايد في الكتب المدرسية والوثائق الرسمية والخطب والسينما والمناقشات الإعلامية التي تشبع المجال العام على أنهم غرباء. وغم وجودهم في شبه القارة الهندية من آلاف السنين، إلا أن المسلمين يتم تصويرهم الآن بأنهم غرباء وغزاة جاءوا إلى الهند عبر الفتوحات من آسيا الوسطى والشرق الأوسط. وأصبح من الأصل أن توصف السلالات الهندية الشهيرة مثل المغول بأنهم محتلون أجانب، وذلك رغم حقيقة أن جميع قادتهم بعد مؤسسهم بابور وُلِدُوا في الهند، وهو ما أصبح عنصرًا أساسيًا في حروب الثقافة المعاصرة في الهند. يتجاهل هذا التاريخ المشوه الروابط المعقدة بين الحكام والناس، وكذلك التفاعلات بين عدد لا يحصى من النخبة والهنود العاديين من جميع الأديان التي ساهمت في صمود هذه الإمبراطوريات الأصلية.
في سنة 2019، منح حكم تاريخي أصدرته المحكمة العليا الهندية موقع مسجد بابري للمدعين القوميين الهندوس مما زاد من إضفاء الشرعية على حكم الأغلبية. والتأييد العلني لحكم المحكمة من قبل رئيس الوزراء مودي – الذي ترأس الصلاة في مراسم وضع حجر الأساس للمعبد الجديد السنة الماضية بصفته رئيس كهنة وليس رئيسًا للحكومة – قوّض النظام العلماني في الهند والمساواة لتقف الهند الآن عند مفترق طرق وتصبح مكانة مواطنيها المسلمين داخل الأمة موضع تساؤل.
إن مصير مسجد بابري مؤشر على أن الكراهية الطائفية الآن هي التي تحدد القصة الحاسمة للإسلام في الهند. مع ذلك، يمكن أن تكون الذكرى الـ30 لتدمير مسجد بابري الوقت المناسب للبحث عن رواية مختلفة. وفي الواقع، يروي معْلَم ذو قيمة يقع جنوب البلاد قصة مختلفة عن ظهور الإسلام في جنوب آسيا والدور الذي لا يزال يلعبه.
على شاطئ في ولاية كيرالا في أقصى جنوب الهند يقع أول مسجد في جنوب آسيا، وهو معلم ما زال باقيًا يحكي قصة وصول الإسلام إلى الهند عبر التجار والمسافرين والبحارة في القرن السابع؛ وكيف اتخذ هؤلاء المسلمون الأوائل الطريق البحري إلى الهند وكانوا جزءا من تبادل ثقافي مفتوح في ما كان يسمى آنذاك ميناء موزيريس. إن هذا المسجد الصغير – والمهم أيضًا – في كودونجالور (التي كانت تسمى في يوم من الأيام كرانجانور) المعروف باسم مسجد شيرامان بيرومال جوما، يضيء مثل جوهرة موضوعة فوق أرضية بيضاء طباشيرية.
عادة ما تعكس المساجد – بطريقة معينة – أسلوبًا معماريا معروفًا وشعبيًّا يسمى الهندية الإسلامية، بالقباب والمآذن والميزات التي تبدو فارسية بشكل واضح. لكن هذا المسجد عبارة عن هيكل كرالي نموذجي بجدران بيضاء وأبواب ونوافذ خشبية وسقف قرميدي كستنائي، وهو أسلوب مميز للمباني المقدسة المحلية الأخرى بما في ذلك المعابد والكنائس. مقدمة المسجد محاطة بشارع مزدحم، ويطل الفناء الخلفي على مسطح مائي تصطف على جانبيه المساحات الخضراء المورقة.
تعرَّف الحاكم المحلي، الملك بيرومال من سلالة شيرا، على الإسلام من خلال المسافرين وأمر ببناء المسجد؛وتقول الأسطورة إن الملك رأى قمرا منقسما في أحلامه وعند مناقشة رؤياه مع التجار الذين جاؤوا إلى بلاطه من شبه الجزيرة العربية، أخبروه عن نبي في أرضهم كان يبشر بإيمان ينطوي على معجزة انشطار القمر، كما ورد في سورة “القمر” في القرآن، وكان لهذه المحادثة تأثير عميق على بيرومال.
وفقًا للقصة، قام برحلة إلى شبه الجزيرة العربية لمقابلة النبي شخصيًّا. ومن غير الواضح ما إذا كان الرجلان قد التقيا في الواقع، ولكن ما هو معروف أن بيرومال مرض في طريق العودة ودُفِن في عمان. وعندما عاد رفيق الملك مالك بن دينار وأتباعه إلى كودونغالور، تم تسليم الرسائل التي كتبها الملك إلى الزعماء المحليين مع تعليمات ببناء المسجد إليهم، وحصل رفقاء الملك الباقون على إذن لبناء أول مسجد في جنوب آسيا سنة 629 ميلادي.
يحلل كتاب “رياح موسمية من الإسلام: التجارة والإيمان على ساحل مالابار في العصور الوسطى”، للمؤرخ سيباستيان ر. برانج صدر سنة 2018، كيف أثرت التجارة عبر المحيطات على الحياة الثقافية والدينية في جنوب الهند تاريخيًا. بين الميناء والمسجد والقصر والبحر، يلخّص برانج قائلًا إن “المساهمين الرئيسيين في هذا الامتداد للعالم الإسلامي في العصور الوسطى لم يكونوا سلاطينا أو جنودًا أو علماءً، بل كانوا تجارًا رتيبين عاديين لم يكن هدفهم الرئيسي نشر إيمانهم بل الربح …تمت هذه العملية بشكل أساسي من خلال تفاعل هؤلاء المسلمين العاديين – العاديين بمعنى أنهم لم يكونوا ممثلين لسلطة الدولة ولا سلطات دينية معترف بها – مع المجتمعات غير المسلمة”.
يقرّ البروفيسور م. إلياس، مؤرخ وعميد كلية العلوم الاجتماعية بجامعة المهاتما غاندي في منطقة كوتايام بولاية كيرالا والذي يعمل على كتاب مفصل عن أول مسجد في المنطقة، بأن رواية مثيرة للانقسام عن التاريخ الهندي مزينة بروايات عن “الفتح” الإسلامي للهندوس تكتسب التأييد العام والرسمي على حساب قصة قديمة عن الهند كأرض تتعايش فيها أساليب الحياة والمعتقدات المتنوعة منذ فترة طويلة. وهو يقول إن دور البحر في تسهيل الحركة السلمية للناس والأفكار مهمل، على الرغم من حقيقة أن أول لقاء إسلامي مع شبه الجزيرة الهندية حدث مع بحر العرب كبوابة لها.
يعمل إلياس حاليًا على معرض “بحر- سفينة تبحر”، يركز على البحر والمحيطات كمركز لانتشار الحضارات والأفكار. قال لصحيفة “نيو لاينز”: “سوف يفكر الفنانون والمؤدون والعلماء والمفكرون معًا في الماضي العالمي الذي لم يسمع به من قبل والمستقبل المرن لولاية كيرالا البحرية”.
يقول المؤرخون مثل إلياس إنه كان لهذا التفاعل تأثير مختلف تمامًا عن تأثير الجيوش بشكل أساسي على الأرض من شمال الهند. وبعيدًا عن كونه يتعلق بالسيف، كان الاتصال الذي عززه البحر بين الهند والعالم الإسلامي قصة تجار وبحارة وخطباء ساهموا في ولادة ثقافة توفيقية استمرت حتى الوقت الحاضر – رواية مختلفة تمامًا عن قصة الغزو العنيف التي تحظى بشعبية الآن في الولايات الشمالية.
رغم كونه معلمًا من العصور القديمة، لم يُترك مسجد شارمان بيرومال جوما بمنأى عن التجاذبات الحديثة. أخبر محمد سعيد، وهو طبيب ورئيس لجنة المسجد، صحيفة “نيو لاينز” بأن مظهر المسجد بدأ يتغير في الستينيات، عندما غادر العديد من سكان كيرلا للعمل في غرب آسيا. وقد أعجب هؤلاء العمال بأساليب المساجد التي شوهدت في دول الخليج العربية الثرية. عند عودتهم إلى ولاية كيرالا، تمت إضافة العديد من المآذن والمباني إلى المبنى الأصلي. وأشغال إعادة التصميم غيرت مظهر المسجد بطرق أساسية، وهو ما أثار غضب السكان المحليين في نهاية المطاف. وأضاف سعيد “قبل عامين، شرعنا في إعادة المسجد إلى حالته الأصلية وتصميمه الأساسي – هيكل مربع من طابقين وسقف من القرميد”.
بيني كورياكوز، رئيس مجموعة مرموقة من المهندسين المعماريين والمصممين المتخصصين في الترميم، عمل في المسجد ما بين 2019 و2021. كانت مهمة هدم المباني الإضافية الملحقة بالمسجد مهمة حساسة.وقد أخبر صحيفة “نيو لاينز” بأنه “على مر السنين، خضع المسجد للكثير من الإضافات التي أساءت إلى الجانب التاريخي ولكن تم إجراؤها لتوسيع مساحة المسجد. تم التجديد في سنة 1994 لاستيعاب العدد المتزايد من المصلين، ولكن سرعان ما تم التخطيط لإحياء الهيكل الأصلي بسبب تاريخه. لحسن الحظ، لا يزال الجزء الأساسي من المسجد القديم سليمًا”.
تتم حاليًا توسعة المسجد لإيواء المزيد من المصلين، حيث لا يمكن حاليًا استيعاب أكثر من 300 شخص داخل الفناء وخارجه. وحسب كورياكوس فإن “هذا الترميم في حد ذاته هو رمز للتناغم الذي يمثله”. قام مهندس معماري مسيحي ونجارون هندوس بإعادة المسجد إلى ما كان عليه في السابق. يقع هذا في قرية “شاندمانغالام” حيث توجد كنيسة ومسجد ومعبد يهودي بالقرب من بعضها البعض”.
توجد معظم المساجد في الهند في وسط مستوطنات كبيرة ومكثفة للمسلمين. ومع ذلك، فإن هذا المعلم محاط بأشخاص من جميع الأديان يعيشون ويعملون حول ساحة سوق مزدحمة. أثناء جلوسي في الخارج في ركن من أركان مجمع المسجد، حيث لا يُسمح للنساء بدخول منطقة الصلاة، لاحظت في زيارة أخيرة أنها كانت مزدحمة بشكل خاص مثل جميع المساجد بعد ظهر يوم الجمعة. كان هناك تدفق مستمر من المصلين، معظمهم من الشباب ومتوسطي العمر، لأداء صلواتهم. وهناك مخبز عبر الطريق يقدم الشاي الأسود مع الحلويات المحلية. كان المشهد صورة مثالية لإيقاع الحياة في المدينة والمكان الحيوي للمسجد القديم.
داخل المسجد، يوجد مصباح نحاسي قديم – شائع في الطقوس الهندوسية – في وسط قاعة الصلاة. وإضاءة المصباح من التقاليد المحلية القديمة. يتبرع أعضاء جميع المجتمعات بالوقود لإبقائه مضاء في جميع الأوقات. قال أحد أعضاء لجنة المساجد لنيو لاينز إن المصباح كان موجودًا منذ أكثر من ألف عام وكان رمزًا للتقاليد المتعددة التي تشكل هذا النسيج الغني للتراث الجنوب آسيوي.
يتناسب المسجد بشكل طبيعي مع المشهد التاريخي الأوسع. تقع “كودونغالور” في وسط ولاية كيرالا، المعروفة باسم “روما الشرق”، وكانت بوابة إلى الهند والموقع الذي يمكن للمرء أن يشهد فيه المنظر الرائع لالتقاء نهر بريار وبحر العرب، في وصف رائع قدمه لنا مكتب سياحة محلي. عُرفت “كودونغالور” بأنها ميناء أسطوري في التجارة البحرية الدولية، إلى أن أدت الفيضانات المدمرة في سنة 1341 إلى إنهاء عصرها الذهبي.
في الوقت الراهن، اكتُشف مدى أهميتها في العصور الوسطى من جديد، وذلك بفضل الحفريات الأخيرة التي استؤنفت في المنطقة التي يطلق عليها اليونانيين موزيريس. رسخت هذه الحفريات، التي لا تزال جارية، الدور المركزي الذي لعبته المنطقة في العلاقات بين جنوب آسيا والعالم الغربي عبر البحر، مما جعلها المكان الذي أجرت فيه الديانات الإبراهيمية الثلاثة – المسيحية واليهودية والإسلام – أول اتصال مع الشواطئ الهندية.
تعتبر ولاية كيرلا منطقة نائية في الهند لأسباب عديدة. أولا، بسبب الكثير من المؤشرات الاجتماعية غير الطبيعية. تاريخيًا، كان للولاية سجل قوي في الإصلاح الاجتماعي وصوتت في واحدة من أولى الحكومات الشيوعية المنتخبة ديمقراطياً في العالم في سنة 1957. وقد أدت تدابير إعادة توزيع وإصلاح الأراضي والإنفاق السخي على الرعاية الصحية والتعليم إلى ثناء كبير على “نموذج كيرلا” للتنمية من الاقتصاديين التنمويين البارزين مثل أمارتيا سن الحاصل على جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية. وهذا يتناقض بشكل حاد مع التقدم الاقتصادي المحدود والإصلاح الاجتماعي الغائب على أرض الواقع في شمال وغرب الهند، مما جعل تلك المناطق أسيرة لسياسات الهوية والاستقطاب. على مستوى معدلات الخصوبة، ودخل الفرد، ومحو الأمية، وتمكين المرأة، تفوقت كيرلا بسنين ضوئية قبل معظم البلاد.
ثانيًا، تنقسم ديانات سكان ولاية كيرلا بالتساوي تقريبًا بين الهندوس والمسلمين والمسيحيين، ويمكن أيضًا رصد عدد مرئي (وإن كان صغيرًا جدًا) من اليهود. بقيت ولاية كيرلا في منأى إلى حد كبير من أهوال التقسيم في سنة 1947 التي استهدف السكان في الشمال ولم تتعافى المنطقة منها إلا بعد وقت طويل. شجّعت سياسات ما بعد الاستقلال، ولا سيما التأثير الشيوعي القوي، التعبئة الشعبية والتمكين اللذين ساهما في جعل ولاية كيرلا استثناءً داخل الهند. تظهر الاختلافات بشكل واضح اليوم، حيث يقع معظم شمال وغرب الهند تحت هيمنة حزب بهاراتيا جاناتا، في حين حافظت ولاية كيرلا على ثقافة التناغم التقليدية.
من المستحيل تقسيم فسيفساء الهند الثقافية الثرية إلى فئات مرتبة من الهندوس والمسلمين والبريطانيين إلا من خلال انتهاج سياسات عنيفة. لكن لسوء الحظ، قوّض تصنيف العصور المميزة إلى “هندوسية” و”إسلامية” و”بريطانية” في التاريخ الهندي – وهو نهج ابتكره المؤرخون البريطانيون في القرن التاسع عشر – فهمنا لماضي الهند الثري.
في كتابه التاريخي، “الهند في العصر الفارسي”، شرح المؤرخ ريتشارد إيتون كيف أن الحكام البريطانيين والقوميين الهنود والانفصاليين المسلمين، مدفوعين بأجندات مختلفة، استمروا في استخدام الفترة الزمنية الزائفة للتاريخ الهندي لتكريس الدين لخدمة مصالحهم. إيتون: “في عمل تلو الآخر، كان الميل واضحًا نحو سرد الأحداث والملوك والمعارك والنصوص الأدبية والدينية بترتيب زمني، كل منها مقسم بدقة إلى قسمين منفصلين لكل من الهندوس والمسلمين. وهكذا حصلت الهند على تقسيمين، أحدهما مسلم والآخر هندوسي، في أحدهما أو في الآخر يجب أن تتوافق كل المعايير تقريبًا مثل الهندسة المعمارية، واللباس، والفن، والأدب، واللغة، وما إلى ذلك”.
كتب إيتون أن قراءة التاريخ من منظور الديانات الحصرية بشكل متبادل “كان لها تكلفة باهظة ذلك أنه جعل من الصعب الأخذ في الحسبان أو حتى رؤية عمليات ثقافية أكبر”. يجب أن يدور التاريخ حول رؤية وفهم التقدم الحضاري الهائل نتيجة التقاء مجالات الفن والثقافة والعلوم والموسيقى واللغة ونمط الحياة. ومع ذلك، إذا كان التركيز فقط على الفترات التي تقاتلت فيها المجموعات المختلفة، فإن رؤانا لكل من الماضي والمستقبل ستصبح محدودة بشكل خطير.
رغم الجهود المستمرة لتصوير الهند الهندوسية على أنها الهند الأصيلة الوحيدة، فمن المستحيل إنكار حقيقة وجود أول مسجد في ولاية كيرلا. يقوم مشروع تراث موزيريس على جمع تواريخ أول معبد وكنيسة في جنوب آسيا، وكلاهما موجودان في كودونغالور، مما يوضح أن الهند كانت موطنًا لجميع الأديان الإبراهيمية منذ قرون. قد تكون أيام مجد ميناء موزيريس القديم مجرد ذكرى اليوم، لكن روحها لا تزال حية من خلال المساجد والكنائس والمعابد القديمة التي لا تزال قيد الاستخدام بشكل يومي.
يعد ناميا أحد سكان اليهود الذين بقوا على قيد الحياة في ولاية كيرلا، يبلغ من العمر 79 سنة، وعاش في منزل أجداده طوال حياته. عند إجراء مقابلة معه في هذا المنزل، ابتسم وهو يصف الفسيفساء الثقافية لمدينته، قائلاً: “هذا هو مسقط رأسي، المنزل الوحيد الذي أعرفه وأعيش فيه، لذلك نحن جميعًا نعيش معًا كما عهدنا في السابق. هذا الوضع الطبيعي بالنسبة لي “.
شهدت الهند في تاريخها الطويل حلقات من التعايش المتناغم وكذلك الصراع المرير. وكيفية اختيار الهنود تفسير ماضيهم ينعكس في معالم حياتهم أكثر اليوم من حقيقة حياة أسلافهم. يجب على الهند أن تقرر ما إذا كانت دولة تبحث عن أعدائها المحليين من خلال تقديم تدمير مسجد بابري قبل 30 سنة باعتباره رمزا للعبودية وكإجراء انتقامي، أو إذا أرادت إلقاء نظرة على مسجد شيرامان جوما الهادئ المطل على بحر العرب الذي يروي قصة مختلفة جدا عن ولادة الإسلام في شبه القارة، قصة تعايش مع الهندوسية وغيرها من الأديان، التي ظلت مستمرة حتى الآن ومنذ أكثر من ألف سنة.
المصدر: نيوز لاينز