من مكان يدري أن فعاليات المونديال العالمي المنعقد في العاصمة القطرية الدوحة سترفع اسم الشماغ والعقال عاليًا بعد أن كان ذلك مقتصرًا على بعض العرب؟! فالذي يسير في شوارع الدوحة اليوم ويرى الكرنفالات والاحتفالات يلاحظ أن الكثير من الزوار باتوا يضعون شماغًا وعقالًا في تقليد للثقافة العربية، وانتشرت صورًا ومقاطع كثيرة تبين انتشار شماغات مصنوعة من ألوان أعلام الدول المشاركة، وتطور الأمر أن تضع النساء على رؤوسهن الشماغ ويلبسن الجلابية.
وكما لكل بلد ثقافة تدل عليه كأنواع الطعام والشراب واللباس، ارتبط الشماغ والعقال في بلاد العرب خاصة في بلاد الرافدين وبلاد الشام ودول الخليج وغيرها بالعروبة والثقافة المميزة لها، فهاتان القطعتان توضعان على الرأس إحداهما من القماش وهي الشماغ والأخرى هي خيوط تشكل العقال ويلتف حول الشماغ ويثبته.
رمز ثقافي
لطالما كان لهذا الزي مدلولات عظيمة تعبر عن أخلاق العرب وكرمهم، كما أن له غرائب سنتحدث عنها في تقريرنا هذا، ولا بد لنا أن نلفت إلى أن الكثير من وسائل الإعلام شوهت صورة هذا الزي عبر المسلسلات والبرامج الساخرة التي باتت تبين أن الشماغ والعقال رمزان للجهل والتخلف، متبعين بذلك الثقافة الغربية وما تبثه من أفكار ترى بأن الحداثة بعيدة عن هذه الأزياء!
تختلف تسمية غطاء الرأس في البلدان العربية باختلاف أشكاله، ففي قطر على سبيل المثال يسمى بالـ”غترة” وفي السعودية يطلق عليه “الشماغ” وفي سوريا ينادونه بـ”الشماخ” أو “الحطة” وفي بعض الدول ينادى بالجمدانة والقضاضة، أما في فلسطين فيطلقون عليه اسم “الكوفية” نسبة إلى الكوفة في العراق، وباتت رمزًا من رموز القضية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتحولت إلى العالمية ويرتديها كل من يأيد فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي.
يتكون غطاء الرأس من قطعة قماشية تصنع من القطن أو الكتان ويتم حياكتها بأشكال مختلفة وألوان متعددة، فمنها الأحمر وهو الأشهر ويتم لبسه في المملكة السعودية حاليًّا، ومنها الأبيض والأسود، ومنها ما يأتي قطعة قماش بيضاء دون أي تطريز وهو ما يشتهر بالغترة، وعلى الرغم من أنها كلها تستخدم كغطاء رأس إلا أن هناك فروقات بين الشماغ والغترة، حيث يتميز الشماغ بمقاسه الكبير عكس مقاس الغترة التي تتميز بالصغر، كما يتميز الشماغ الذي يكون لونه أبيض يتخلله خيوط بألوان متعددة بوجود مجموعة من التطريز الفخم الذي يعطي القطعة رونقًا خاص بها ويزيدها جاذبية على أطرافه، أما الغترة البيضاء فهي لا تحتوي على أي نوع من التطريز فهي تتميز بأنها بسيطة. ويصنع الشماغ من قماش بوزن ثقيل أما الغترة فيتم استخدام أخف أنواع القماش لصنعها.
يتم تطريز نقوش مستطيلة أو مربعة الشكل باللون الأحمر على الشماغ وهو المعتاد في السعودية ودول الخليج العربي وبادية الشام والعراق، اما النقشة باللون الأسود فهو الدارج في بعض مناطق لبنان وفلسطين ومناطق في العراق وسوريا. كما يوجد نقشات أخرى على الشماغ حيث يلبس سكان الأهوار في العراق الشماغ ذا الخطوط السوداء، الذي يشبه عيون شباك الصيد وهي متموجة تشبه أمواج مياه الأهوار، كما ترتسم في حافته الشماغ خطوط سوداء تمثل زعانف الأسماك ومرجوع ذلك إلى السومريين الذين كانوا يعتقدون أنها تطرد الأرواح الشريرة، أما العلويين يلبسون الشماغ ذو الحبكة الخضراء.
أما عن العقال، فهو القطعة التي توضع لتثبيت القطعة القماشية على الرأس ولها عدة أنواع: وكذلك تختلف أشكال العقال، فمنها ما هو غليظ كما يوجد الرفيع، إضافة إلى العقال المقصب والعقال الوبر المصنوع من وبر الإبل، وكذلك يوجد العقال الأبيض، وأخيرًا يوجد نوع العقال المرعز المصنوع من شعر الماعز المستخضر من شمال العراق.
تاريخ
اختلف المؤرخون على تدوين تاريخ الشماغ والعقال، لكن المدلولات المادية تشير إلى أن الحضارات القديمة في بلاد الرافدين استخدمته، ويدل على ذلك التماثيل والآثار التي تحتوي على نقوش تصور غطاء الرأس الذي يرتديه الملوك والشخصيات المهمة.
وفي بحث للأكاديمي المختص في الحضارات الشرقية ببلاد الرافدين والخليج العربي قصي منصور التركي، يقول: “أخبرتنا المنحوتات والتماثيل أن من أهم حكام بلاد الرافدين الذين لبسوا الشماغ أمير سومري لسلالة ومدينة مهمة هي مدينة لكش واسمه گوديا (Gudia) 2144-2124 ق.م. ويعني اسمه الموحى إليه أو المتنبئ”.
ويشير الباحث تركي إلى أن هذا الأمير السومري كان أول من لبس الشماغ على رأسه كعصابة وليس شماغًا مسترسلًا متدليًا، وبحسب مقال مطول لتركي، فإن معنى كلمة شماغ هو “العلو والشموخ”، ودلل بذلك على تحليل معنى الكلمة القادمة من اللغة الأكادية.
وتشير المنحوتات والمخطوطات المسمارية إلى وجود الكلمة منذ ما يزيد على 5000 عام، ويرى بعض المؤرخين أن أغطية الرأس العربية على اختلاف أنواعها ما هي إلا نوع من أنواع التطور في العمامة التي اشتهر بها العرب قديمًا وكانت توضع للوقاية من حر الصيف اللاهب وبرد الشتاء القارس خاصة في الأماكن الصحراوية.
كذلك اختلف المؤرخون بتاريخ العقال، فمنهم من قال إن أصله يعود للحضارات التي وجدت في بلاد الرافدين ومنهم من أرجع أصله للأحواز ومنهم من أشار إلى أن الاكتشافات تدل أن منشأ العقال كان قبل آلاف السنوات في جنوب الأردن، وأرجعه البعض إلى شبه الجزيرة العربية، لكن من المؤكد أن العقال مرتبط ارتباطًا وثيقًا بغطاء الرأس وذلك من أجل حمايته من الوقوع في عوامل الجو، ويصنع العقال عادة من صوف الماعز.
ينظر المؤرخون إلى أن الاسم في الأصل مشتق من عقال البعير، وهو الحبل الذي يعقل به البعير، وكان العربي في أثناء امتطاء بعيره يعقده على رأسه، والمعلوم أن العرب القدماء كانوا يستخدمون قطعة من القماش كعصابة يربطونها على رؤوسهم كضرورة بحكم طبيعة الصحراء الرملية وحرارة الشمس المرتفعة، وهكذا راحوا يضعون عقال البعير فوق الغترة من أجل تثبيتها، قبل أن يصير بشكله الحاليّ.
تكثر الحكايات الشعبية غير الموثقة عن العقال، منها أن العقال كان أبيض وعند سقوط الأندلس بات العرب والمسلمون يضعون العقال الأسود حدادًا على ما حصل، ومن القصص أيضًا أن العقال في بداياته كان مخصصًا للنساء، لكن المؤكد أن للعقال مكانةً كبيرةً لدى العرب قديمًا، فلا يُنزع عن الرأس إلا لأمر كبير ذي مدلول اجتماعي عظيم مظلم واقع أو المطالبة بالثأر.
ومن الأشياء التي يشير إليها العقال، أن من لا يلبس العقال فوق شماغه يكون له ثأر ولم يأخذ به أو ربما يكون في فترة حداد في موقف وفاة، ومن يضرب العقال على الأرض في وسط الديوان فإنه يجزم بالوصول إلى خصمه مهما بلغت التضحيات، ويحذر أن يخاطب أحدهم في الديوان ويقال له (يشماغك وسخ) فإنه يعتقد أن هناك عارًا أو عيبًا أو نقصًا بعائلته.
الشماغ والعقال إلى العالمية
كما تحدثنا في المقدمة فإن مونديال قطر هذا العام أعطى دفعةً كبيرةً بهذا الزي العربي للعالمية، حيث بات الزوار يتحرون لبسه من أجل الاندماج مع ثقافة البلد المضيف وهو ما أعطى رونقًا خاصًا لقطر، كما أن منظمي المونديال كانوا قد صمموا شعار هذا النسخة على هذا الأساس، فتميمة كأس العالم التي أطلق عليها اسم “لعّيب” هي مجسم للزي العربي، وتشير إلى غترة بيضاء اللون مع وجه مبتسم تتدلى منه حبال العقال.
زيارة عائلية مكسيكية ورجنتينية لنا في خيمة الدار الثقافية في #كتارا وشوف ردت فعلهم بعد لبس الشماغ ??⛺️ #سايح_تيوب_في_كاس_العالم pic.twitter.com/4MbqAcrSBq
— Thawab Alsubaie ثواب السبيعي (@sai7org) November 28, 2022
يذكر أنه في كل نسخة من كأس العالم تنتشر ملابس مستوحاة من البلد المستضيف للبطولة، فمثلًا ارتدى المشجعون الأجانب القبعة المكسيكية في نسخة 1986، وملابس مصارعي الثيران في إسبانيا قبلها بأربع سنوات وأزياء المحاربين الرومان في إيطاليا بعد أربع سنوات، وامتدت هذه التقليعات في نسخ أخرى، في حين تميزت نسخة جنوب إفريقيا عام 2010 بانتشار أبواق فوفوزيلا بين المشجعين.
الجمهور الهولندي في قطر يرتدي الشماغ
التبادل الثقافي وتفاعل الحضارات الذي حدث في قطر لم يسبق أن حصل في اي دولة في العالم
مونديال قطر وحد الانسانية
????????? pic.twitter.com/dQ2La9GOBf
— H✨Aylul ✨ايلول✨ Erçel ? (@aylulmadrid) November 29, 2022
ولم يخل المونديال من الطرافة، فتجد امرأة تضع غترة وعليها عقال وهي مستمتعة بالتجربة، وفي بعض المقاطع نجد نساء من دول مختلفة يلبسن الجلابية أو ما يعرف بالدشداشة، وكذلك تجد رجلًا يضع رسوم الحناء الخاصة بالنساء على يديه وهو أيضًا مستمع بالفكرة التي تصيب أي عربي بالغرابة والضحك.
لم تكن الغترة والعقال فقط حاضرتان في مونديال قطر، فقد حصلت عدة مبادرات مجتمعية للتعريف بالثقافة العربية والإسلامية الغائبة عن الغرب والمجتمعات الأخرى، كتجربة الحجاب للنساء والتعريف بالمساجد وقيم الدين وهو ما لفت الأنظار وجذب العديد من الناس الذين تراهم متحلقين حول المسلمين وهم يؤدون صلاتهم ويشاهدون ما يفعلون.
صحيح أن هذه الفترة القصيرة لن تغير من نظرة الغرب للعرب، فالزي العربي ارتبط لدى المجتمعات الأخرى بزي “الإرهاب” وهو ما صنعه الإعلام الغربي وانجر إليه الإعلام العربي الرسمي بكل غباء، لكن مونديال قطر فرصة للنهوض بمبادرات كبيرة يمكن أن تغير هذا الواقع، ولطالما كانت الثقافة الشعبية وإظهارها من أكبر المؤثرات التي تغير نظرة الشعوب وتعيد تشكيل وعي المجتمعات المتأثرة بما يمليه عليها الإعلام.