وسط تصاعُد حدّة الاحتجاجات التي تشهدها إيران، على خلفية مقتل المواطنة الكردية الإيرانية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، أعلن المدعي العام الإيراني يوم الأحد، محمد جعفر منتظري، حلّ الشرطة من قبل السلطات المختصة، إذ نقلت وكالة الأنباء الطلابية الإيرانية “إيسنا” عن المدعي العام قوله في مدينة قُم، إن شرطة الأخلاق ليس لها علاقة بالقضاء، وألغاها من أنشأها، حيث شهد البرلمان والسلطة القضائية في إيران منذ يوم أمس السبت، مناقشات مكثّفة تناولت مراجعة القانون الذي يفرض على النساء وضع غطاء للرأس، وقدّم حزب “اتحاد شعب إيران الإسلامي”، المقرّب من الرئيس السابق الإصلاحي محمد خاتمي، مشروعًا لهذا السياق.
علامة ندامة أم محاولة إفلات؟
رغم أن الخطوة التي أعلن عنها المدعي العام تمثّل تراجعًا حقيقيًّا من قبل النظام الإيراني أمام الشارع المنتفض، وتمثّل تحولًا نوعيًّا في سلوك النظام الذي رفض على مدار 40 عامًا الماضية التعاطي بإيجابية مع مطالب الشعب الإيراني، إلا أنه يكشف من جانب آخر جانبًا خطيرًا من الأسباب التي تقف خلف هذه الخطوة، فقد تكون مبررًا لقمع الاحتجاجات أكثر من التجاوب معها، خصوصًا أن النظام فشل خلال الأشهر الثلاث الماضية في التحايل عليها بشتى الذرائع والأساليب، إذ يحاول وعبر الخطوة الأخيرة أن يوصل رسالة واضحة للمجتمع الدولي، بأنه أزال المسبّب الرئيسي للاحتجاجات، وآن الأوان أن تنتهي.
ما لا شك فيه أن الهوة الاجتماعية تزداد يومًا بعد آخر بين النظام والمجتمع الإيراني، فالمسألة اليوم لم تعد قاصرة على موضوع الحجاب، وإنما بدأت تتعدّاها لمطالب أخرى، تتمثّل بتوسيع الحريات الاجتماعية والاقتصادية، وفسح المجال لتغييرات سياسية تمسّ بعضها جوهر النظام، إذ ظهرت في الأسابيع الماضية دعوات صريحة من قبل العديد من التيارات السياسية والاجتماعية، التي بدأت تطالب بتنظيم استفتاء شعبي على شرعية النظام.
تجعل هذه المعطيات النظام الإيراني والحرس الثوري أمام تحديات حقيقية، فعملية التغيير في الأنظمة الجامدة هي عملية صعبة لكنها ليست مستحيلة، وفي نظام مثل النظام الإيراني تصبح عملية التراجع في الأنظمة التي تتمترس خلف الأيديولوجيا الجامدة، أشبه بكرة تتدحرج لتُسقط ما يقف أمامها من موانع حتى تصل إلى قمة النظام.
المعضلة الحقيقية التي يواجهها النظام الإيراني تتمثل بصورة رئيسية في إدامة قدرته على البقاء، فالثابت أن هذا النظام لم يعد يمتلك مزيدًا من الحلول في الداخل.
هناك اليوم العديد من التمترسات الأيديولوجية التي يحاول المجتمع الإيراني إنهاءها على شاكلة موضوعة الحجاب، أبرزها الباسيج ومكاتب المرشد ودور الحرس الثوري الاقتصادي والمؤسسات العابرة للسلطات والحريات الدينية والاجتماعية، وإمكانية تحقيق نجاحات في هذه الملفات ستتوقف على طبيعة تعاطي الشارع الاحتجاجي في إيران مع خطوة النظام الأخيرة.
يشير التاريخ السياسي في إيران إلى أن “فقه الضرورة” الذي يعتمده النظام، وفّر له مخرجًا للإفلات من العديد من الأزمات التي وجد نفسه محاصرًا بها، ففي عام 1988، وبعد الحرب العراقية الإيرانية، اضطر مؤسّس الجمهورية الإسلامية، الخميني، التراجع عن العديد من الفتاوى التي أصدرها سابقًا لامتصاص تداعيات الحرب، والتي كان في مقدّمتها إلغاء الفتوى التي كانت تمنع المرأة الإيرانية من التصويت في الانتخابات العامة.
أما اليوم يجد المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، أن ضرورة بقاء النظام مقدَّمة على أية ضرورة شرعية أخرى، فرغم أن موضوعة الحجاب تمثل ركيزة مهمة من الركائز الأيديولوجية للنظام، ولا تقلّ أهمية عن ركائز أخرى، أبرزها شعارات “الموت لأمريكا وإسرائيل”، والتي وفّرت للنظام شرعية البقاء حتى الآن، إلّا أن التراجع في موضوع الحجاب سيحاول خامنئي من خلاله حصر المشكلة وعدم اضطراره إلى تراجعات أخرى.
ولا سيما أن النظام لم يعد يمتلك قابلية المواجهة الطويلة مع الداخل والخارج، كما أن الحواضن الاجتماعية للنظام وأبرزها مشهد وطهران وقُم، لم تعد راضية على الكثير من سلوكياته، وهو ما يضع بدوره العديد من الاعتبارات التي تقف خلف خطوة النظام الأخيرة.
محاولات البقاء
إن المعضلة الحقيقية التي يواجهها النظام الإيراني تتمثل بصورة رئيسية في إدامة قدرته على البقاء، فالثابت أن هذا النظام لم يعد يمتلك مزيدًا من الحلول في الداخل، وبصورة أكثر دقة هو نظام لا يستطيع تقديم أي حلّ مقنع للشارع الإيراني.
وقضية الحجاب ليست سوى مثال واحد على التمييز الهيكلي بين الجنسَين في إيران، وهي حالة ظهرت للعيان العام الماضي، عندما عادت حركة طالبان للحكم في أفغانستان، حيث أن أول ما فعله الإسلاميون هناك بعد تولّيهم السلطة هو إخضاع المرأة باسم الدين، وهي رؤية لم تعد تتقبّلها المرأة الإيرانية التي بدأت تواجه سطوة النظام بمزيد من التمرد.
تعكس خطوة النظام الأخيرة حجم التفاوت الكبير بين ما يريده النظام وما يريده الشارع، وبالشكل الذي قد يُعيد رسم العلاقة بين الطرفَين خلال الفترة المقبلة، حيث من المتوقع أن يتجاوز النظام هذه الحادثة، لما يمتلكه من خبرة كبيرة في التعامل مع الظاهرة الاحتجاجية الملازمة للشارع الإيراني، إلا أنه من جهة أخرى سيخسر المزيد من شرعيته التي بدأت بالتآكُل يومًا بعد آخر، فالقاعدة السياسية تقول: “إذا أردت أن تقضي على أي ثورة أو حراك شعبي، عليك أن تعظّم أصغر أهدافها، وتصغّر أعظم مبادئها”.
ما يعني بالنهاية أن الحجاب لم يكن جوهر الثورة في إيران بل الرمز، وحلّ شرطة الأخلاق تعظيم لأصغر أهداف هذه الثورة، وهو تراجع تكتيكي قد يكون الهدف منه استعدادًا للقضاء المبرح على هذه الثورة، التي لن تختلف نهايتها عن سابقاتها في كثير من التفاصيل.