لا تنتهي الأزمات المعيشية التي يعيشها السوريون في الجغرافيا السورية عند المواد الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، كالخبز والماء والكهرباء والمحروقات، وإنما تمتدّ لتشمل مختلف مناحي الحياة اليومية التي يراهنون على عيشها بأدنى المقومات والإمكانات المتاحة، وتعدّ أزمة المواصلات امتدادًا للأزمات المتراكمة التي عجزت حكومة نظام الأسد عن حلِّها، رغم مرور سنوات على نشوئها.
وتشهد مناطق سيطرة نظام الأسد أزمة نقل متصاعدة منذ أسابيع، ما أدّى إلى شلل في خدمة النقل الداخلي بين الأحياء السكنية، والنقل الخارجي بين المحافظات والمدن المحيطة بها، وسط ازدحام كبير تشهده مواقف المواصلات التي تعجّ بالموظفين والعمّال والطلبة في ظلّ ارتفاع تكاليف النقل، ما أثقل كاهلهم وزاد من معاناتهم.
ولا أدلّ على حجم هذه الأزمة، من قرار حكومة الأسد إعلان عطلة رسمية يومي الأحد 11 و18 من ديسمبر/كانون الأول الجاري، بسبب أزمة فقدان الوقود التي تشهدها البلاد، وما يترتب عليها من أزمات، كالغلاء وتعطل النقل والمصانع وكل الأنشطة اللوجستية فضلًا عن التدفئة وقد دخل الشتاء. أضف لهذا إعلان الاتحاد الرياضي تعليق مباريات دوري كرة القدم حتى مطلع عام 2023 بسبب صعوبة تنقل لاعبي الأندية لعدم توفر الوقود.
أزمة متصاعدة تثقل كاهل السوريين
سامر الذي ينحدر من ريف حلب الشمالي، ويعمل معلمًا في إحدى المدارس الحكومية في مدينة حمص، يستخدم يوميًّا باص النقل الداخلي أو السرفيس ضمن الأحياء السكنية أثناء ذهابه إلى المدرسة بأجر يصل إلى 300 ليرة سورية، ضمن المسافة القصيرة دون الـ 10 كيلومترات.
وفي حال فوّت الرجل فرصة الحصول على مقعد في الباص أو “السرفيس” بسبب الازدحام، سيضطر إلى استخدام التاكسي، حيث تتراوح تكلفتها ضمن المسافة من منزله إلى المدرسة بين 4 و6 آلاف ليرة سورية، ويعدّ هذا المبلغ ثقيلًا مقارنة مع الدخل المتاح، ما يدفعه إلى استخدام وسائل بديلة كالسيارات المكشوفة أو الدراجات النارية التي باتت تستخدَم بكثرة في نقل الموظفين والطلاب.
وقال الرجل خلال حديثه لـ”نون بوست”: “أتقاضى لقاء عملي في المدرسة 142 ألف ليرة سورية، ما يعادل 26 دولارًا، فيما أعمل إضافيًّا لمدة 6 ساعات في أحد المعامل الصناعية ضمن القطاع الخاص بعد دوام المدرسة، لقاء مرتب شهري بحدود 200 ألف ليرة سورية، ما يعادل 36 دولارًا”.
ويتسبّب الانتظار لساعات أمام الموقف في تأخُّره عن عمله، سواء في المدرسة أو العمل الإضافي، بسبب غياب وسائل النقل وعزوف عدد من العاملين في قطاع النقل الخاص عن العمل في ظل أزمة المحروقات، وازدحام الوسائل المتوفرة بالركّاب.
وتواصلت تداعيات غياب المواصلات وارتفاع أجور النقل التي باتت تستهلك أكثر من نصف رواتب العاملين في القطاع العام، فلم يكن أمام الموظفين أي خيار آخر سوى التقدُّم باستقالاتهم التي تسجَّل بالآلاف في عموم مناطق سيطرة النظام، حيث لم يعد بمقدورهم دفع مبالغ تتجاوز شهريًّا الحد الأدنى للرواتب في سوريا.
لا يختلف واقع أزمة المواصلات بين المحافظات، فجميعها تعاني من ندرة باصات النقل الداخلي المليئة بالركّاب، كما هو حال السرافيس التي تعمل على خطوط المواصلات داخل المدن، بسبب تخفيض كمية المحروقات المدعومة من الحكومة، ما يدفع السائقين إلى بيعها في السوق السوداء عوضًا عن العمل بها، في المقابل يشتري البعض المحروقات من السوق السوداء بأسعار مضاعفة عن السعر المدعوم، ما تسبّب في ارتفاع تكاليف النقل على المواطنين.
أحد سائقي السرافيس التي تعمل على خط الحمدانية في مدينة حلب، قال لـ”نون بوست” شريطة عدم الكشف عن هويته: “إن مخصصات المحروقات المدعومة عبر البطاقة الذكية لا تكفي للعمل على خط الحمدانية، حيث أضطر إلى شراء المازوت من السوق السوداء بأسعار مضاعفة، ويتراوح سعر اللتر الواحد بين 7 و8 آلاف ليرة، ما يضطرني إلى رفع تسعيرة النقل”.
وأضاف: “لا تقتصر المشكلة على المحروقات فقط، لأن البنية التحتية للطرقات متضررة، والسرفيس يحمل ركّابًا فوق طاقته الاستيعابية، ما يتسبّب في وقوع أعطال ومشكلات مستمرة فيه، وبالتالي يحتاج إلى صيانة ومتابعة بتكاليف عالية، لذلك يفكر الكثير من العاملين في هذا القطاع العزوف عن هذه المهنة، أو التحول إلى النقل الخاص للمنشآت والمدارس”.
وتوقفت شركتان تعملان في قطاع المواصلات بين المحافظات السورية في محافظة حماة، وهما من أكبر شركات النقل في سوريا، نتيجة عدم تزويدها بمخصّصاتها من المحروقات، وهما الشركة الأهلية للنقل، ما أدّى إلى توقف 80 رحلة منها 40 رحلة من حماة كانت تقلُّ 1600 راكب إلى دمشق وحلب والرقة وطرطوس واللاذقية، والثانية شركة علي السراج، التي أعلنت إيقاف رحلاتها التي كانت تنطلق إلى دمشق وحلب والرقة بموجب 35 رحلة تحملُ 1700 راكب، حسب موقع “أثر برس” الموالي.
قرارات حكومية تعسُّفية ترهق السوريين
رغم المعاناة التي تواجه السوريين في مناطق سيطرة النظام، إلا أن الحكومة غير قادرة على حلّ المشكلات التي تتفاقم تباعًا، لا سيما عجزها عن تأمين المحروقات، ما ساهم في شلل معظم القطاعات الخدمية التي تعاني أساسًا من الانقطاع والندرة، وعلى رأسها الكهرباء والماء.
وكانت السلطة قد رفعت تسعيرة المواصلات العامة يوم الثلاثاء 29 نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث حدّدت لجنة تحديد الأسعار في مجلس محافظة دمشق تعرفة المواصلات العامة بقيمة 300 ليرة سورية عن كل راكب، ضمن خطوط النقل القصيرة التي لا تتجاوز الـ 10 كيلومترات، و400 ليرة للخطوط التي تتجاوز الـ 10 كيلومترات.
وبرّر المجلس زيادة التعرفة الرسمية بناءً على دراسة المسافات للخطوط، نظرًا إلى ارتفاع تكاليف قطع الغيار وأجور الصيانة والإصلاح والمحروقات، ومن المفترض أن تشمل هذه القرارات جميع المحافظات السورية، كما لا تقتصر على المواصلات العامة من شركات النقل وسائقي التاكسي والسرفيس.
وخفّضت وزارة النفط في حكومة النظام مخصصات المحروقات من مادتَي المازوت والبنزين، الموزّعة على المحافظات السورية بنسبة وصلت إلى 50%، في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ما انعكس سلبًا على قطاع المواصلات، ودفعَ السائقين إلى التوقف عن العمل وبيعها في السوق السوداء نتيجة تخفيض المخصصات اليومية، في حين لجأت الحكومة إلى فرض تركيب أنظمة GPS على السرافيس بغية التزامها في خط المواصلات وصرف المحروقات المخصصة.
وفي السياق، أوعزت الحكومة الجهات العامة بتخفيض الكمّيات المخصصة من مادتَي البنزين والمازوت للسيارات السياحية الحكومية، بنسبة 40% لكل سيارة، مع عدم منح إذن سفر للمهمات إلا للضرورة القصوى، بحسب بلاغ رئيسها حسين عرنوس، ويعني تخفيضُ كميات المحروقات عن القطاعات العامة تخفيضَ الخدمات البلدية والأمنية المتردية أساسًا.
وفي تعليقه حول الموضوع، يرى الباحث الاقتصادي يونس الكريم أن حكومة نظام الأسد تسعى من خلال قراراتها إلى المناورة بما تبقّى لديها من النفط، فهي عاجزة عن السيطرة على الصراع القائم بين تجّار الحرب والميليشيات المحلية والإيرانية، في ظل نقص السيولة المالية، ريثما يتمّ تأمين المحروقات من مصادرها الأساسية.
أسباب أزمة المواصلات
تحاول حكومة النظام التملُّص من الأسباب الرئيسية للأزمات المتكررة في مناطقها، فتارةً تبرر عجزها بغليان الأسواق العالمية على الكميات المتاحة من المواد الغذائية، ذلك بما يتعلق بتوفر السلع في الأسواق وارتفاع أسعارها، وتارةً تربطها بظروف الأصدقاء، وتارةً أخرى بالعقوبات الغربية المفروضة على سوريا، وخاصة أزمة المحروقات، إلا أنها فعليًّا تستهدف أركان النظام ولا تشمل القطاعات الحيوية لحياة السوريين.
ويبدو فقدان مادة المحروقات من أكثر الأسباب تأثيرًا في أزمة المواصلات، وذلك بعدما فُقدت المحروقات المدعومة، وتركّز وجودها في السوق السوداء بأسعار مرتفعة، ما أدّى إلى عزوف السائقين عن العمل وبيع مخصصاتهم في السوق السوداء، أو شرائها بأسعار غالية وبالتالي ترتفع أجور المواصلات على المواطنين، بحسب ما أوضح الباحث الاقتصادي يونس الكريم.
وقال الكريم خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن تهالك البنى التحتية للطرقات داخل المدن وبين المحافظات السورية، جعل الطريق يستهلك المزيد من المحروقات، إضافةً إلى تضرر الآليات التي تحمل فوق طاقتها، ما يعرّض الآليات للأعطال في ظل ارتفاع تكاليف الصيانة، إضافة إلى الضرائب التي تفرضها وزارة المالية”.
وأضاف: “إن النظام غير قادر على فرض توريد المحروقات من مناطق “قسد” في ظل وجود مستحقات مالية ضخمة لم يتم سدادها للتجار، كما أن العملية التركية شرق الفرات تسبّبت في إيقاف شحنات المحروقات التي تدعم حكومة النظام بنسبة جيدة، إلى جانب توقف شحنات النفط القادمة من إيران بسبب عجز النظام عن سداد ديونه”.
وتعتمد حكومة النظام على موردَين أساسيَّين في تأمين المحروقات للبلاد، أولهما الذي تحصل عليه من الدول الداعمة له، وعلى رأسها إيران، حيث وصلت، الجمعة 2 ديسمبر/ كانون الأول، ناقلة نفط إيرانية إلى ميناء بانياس، بعد أن اُحتجزت من قبل القوات الأمريكية قبالة الجزر اليونانية لأكثر من شهرَين، ما يعني أن ناقلات النفط الإيرانية تواجه صعوبة في الوصول إلى سوريا نتيجة الضربات الإسرائيلية والعرقلة الأمريكية.
بينما المصدر الثاني الذي تعتمد عليه حكومة النظام هو صهاريج النفط القادمة من مناطق سيطرة “قسد”، شمال شرق سوريا، والتي تستجرّها ميليشيا القاطرجي، في المقابل تعتمد السوق السوداء على معابر التهريب التي تمتد على الخطوط الفاصلة بين سيطرة النظام و”قسد”، وهي شبه متوقفة، ما فاقم أزمة المحروقات والمواصلات.
ولا شكّ أن قرارات حكومة النظام في تخفيض مخصصات المحروقات للجهات الحكومية والمواصلات العامة، ستنعكس سلبًا على الخدمات المفقودة أساسًا، كالماء والكهرباء والأمن، نتيجة تخفيض مخصصاتها من المحروقات، وأيضًا الطبابة، لا سيما صعوبة الوصول إلى المشافي، وتأمين السلع الأساسية في الأسواق نتيجة توقف الشحن بين المحافظات السورية، ما سيؤدّي إلى رفع الأسعار في ظل تراكم الأزمات غير المتناهية.