لمنطقة البلقان أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا، فجغرافيًا هي صلة وصلها بأوروبا، ويوجد بين الأتراك والمجتمعات البلقانية وشائج وثيقة تاريخية وثقافية وإنسانية.. ترسّخت بفعل الهجرات إلى الإمبراطورية العثمانية بداية والجمهورية التركية لاحقًا، واندمجت هوية البلقاني بالهوية التركية حتى صارا شيئًا واحدًا.
في هذا التقرير ضمن ملف “أعراق تركيا”، نتعرّف إلى أقلية الألبان والبوشناق ذوي الأصول البلقانية، وثقافتهم الخاصة وأحيائهم في تركيا.
الألبان (الأرناؤوط)
الألبان، هم مجموعة عرقية تشكّل أمة واحدة تعيش بشكل أساسي في ألبانيا، التي بقيت تحت الحكم العثماني فترة 1385-1501، واشتهروا بقوتهم ويُنسَب إليهم فضل فتوحات الدولة العثمانية بأوروبا وصولًا إلى فيينا.
ارتبط الألبان ارتباطًا وثيقًا بالأتراك، إذ تقول ماريا تودوروفا -مؤرّخة بلغارية-: “التركية هي في الواقع مفهوم يؤكد على أمة منفصلة يتبنّاها مسلمو البلقان للتمييز عن الهوية المسيحية. لهذا السبب، غالبًا ما يستخدم مسلمو البلقان كلمة الترك عند وصف أنفسهم”.
البوشناق
البوشناق، هم مجموعة عرقية تعيش في الجزء الجنوبي الشرقي من أوروبا وبالتحديد في البوسنة والهرسك، كما يعيش جزء كبير منها في إقليم السنجق الذي ضمّته صربيا إلى أراضيها، وأصبحت سراييفو تحت الحكم العثماني عام 1463، بعد أن فتح السلطان محمد الفاتح البوسنة، لكن الإسلام دخلها قبل ذلك بحوالي قرن كامل.
عاش البوسنيون 4 موجات هجرة كبرى رئيسية نحو تركيا حتى عام 1918، كان النزوح الجماعي الأول عام 1878 بعد غزو الإمبراطورية النمساوية المجرية للبوسنة، وحدثت الهجرة الثانية عام 1882، والموجة التالية من الهجرة عام 1900، والموجة الرابعة عام 1908.
أما المهاجرون البوشناق الذين وصلوا تركيا في فترة 1934-1938 فقد حصلوا على مساعدات سكنية من الحكومة التركية، ووفّرت لهم الأدوات اللازمة للعمل في الإنتاج الزراعي، وذلك فقط بالنسبة إلى المهاجرين الذين يوافقون على الإقامة في المناطق التي تحدّدها الدولة لتوطينهم.
– تفاصيل الموجة الكبرى للهجرة من البوسنة إلى تركيا – TRT Avaz –
في العهد العثماني
حظيَ الألبان والبوشناق بثقة السلاطين العثمانيين، وكانت لهم مكانة رفيعة في الدولة، وصل المهاجرون الألبان الأوائل مع عائلاتهم إلى تركيا للعمل في القصور العثمانية، وشغلوا مختلف المناصب بدءًا من الباشا وحتى حرّاس القصر، وأقاموا في حي أرناؤوط كوي بإسطنبول ومدن البحر الأسود مثل ريزا وسامسون وطرابزون.
كما قامت الدولة بتعيين قادة في الجيش العثماني من الألبان، ووطّنتهم مع عائلاتهم في مناطق ذات حساسية عرقية، مثل بينجول ذات الأغلبية الكردية للقتال ضد الحركات الثورية أو الانفصالية.
في تركيا اليوم
يعدّ الألبان والبوشناق من أكثر العرقيات اندماجًا وانسجامًا مع المجتمع التركي المحلي، ولا يُنظر إليهم كأجانب وافدين، بل يعامَلون بصفتهم رعايا الدولة العثمانية، ومن إرث الإمبراطورية الذين فقدوا أرضهم واضطروا لمغادرة ديارهم بعد هزيمة الدولة العثمانية.
يعزّز هذه النظرة المتصالحة أنهم كانوا من أكثر الشعوب ولاءً للدولة العثمانية، على عكس الصورة الذهنية المرسومة للعرب مثلًا في المجتمع التركي، كقومية “ساعدت” بريطانيا والحلفاء في حربهما مع العثمانيين.
يعيش البوسنويون في مجتمعات وأحياء خاصة بهم في أدابازاري (صكاريا) وإزمير ومانيسا، ويبلغ عددهم حوالي 2 مليون إنسان، بينما يبلغ عدد الألبان حوالي مليون و300 ألف شخص.
أغلب الألبان الذين لا يزالون يتحدثون لغة الأرناؤوط هم من سكان مدينة إسطنبول، فيما تقول مصادر أخرى إن هناك حوالي 5 ملايين ألباني ما زالوا موجودين في تركيا حتى لو نسُوا لغتهم.
وتعدّ هذه أرقامًا تقريبية، إذ لا توجد أي سجلّات تحوي بيانات مفصّلة، خاصة في ظل هيمنة اللغة التركية والكردية على ذوي الأصول الألبانية، ووفقًا للمنسّق العام المنتدب من مركز كوسوفو الثقافي، كامل بيتيس: “في الوقت الحالي، لا تعرف أي عائلة ألبانية تقريبًا اللغة الألبانية التي يتحدث بها أسلافها، فهم يتحدثون التركية والكردية. إنهم لا يعرفون حتى الثقافة والتاريخ الألبانيَّين. لقد تزوجوا من نساء محليات عندما استقرَّ أسلافهم في هذه المدن”.
وأوضح: “لكن من المثير للاهتمام أنهم يعتبرون أنفسهم ألبانًا. لقد كانوا يحاولون اكتشاف جذورهم الخاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وبوابة الحكومة الإلكترونية، بعد أن أطلقت تركيا خدمة الأنساب عبر الإنترنت”.
تعود أصول الكثير من الفنانين والرياضيين الأتراك إلى بلاد البلقان، أما أشهر الشعراء الأتراك وكاتب نشيد الاستقلال الوطني، محمد عاكف أرسوي، فهو من كوسوفو التي وُلد فيها والده محمد طاهر أفندي.
مناطق شهيرة في إسطنبول تنسَب إلى البلقان أو البوشناق
حي أرناؤوط كوي في بشكتاش بإسطنبول على ساحل البوسفور، سُمّي على اسم الانكشاريين من أصل ألباني، الذين عُيِّنوا لحماية المنطقة بعد غزو الفاتح لإسطنبول عام 1453، وهي إحدى مناطق الترفيه في القرن التاسع عشر، بينما كانت تابعة إداريًّا لقضاء غلطة خلال الفترة العثمانية، فقد بقيت في منطقة بشكتاش خلال فترة الجمهورية.
عام 1468 هو تاريخ توطين المجتمع الألباني على هذا الشاطئ، والذي كان مهملًا ومتداعيًا وشبه مهجور في ذلك الوقت، وكان مغطى بكروم العنب.
سُمّي الحي بأرناؤوط كوي عام 1568، ولا تزال المنطقة مركزًا للحياة والترفيه في مضيق البوسفور مع العديد من المطاعم الفاخرة.
كما ورد اسم منطقة أرناؤوط كوي في الأرشيف والخرائط العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ويُقال إن قرويًّا من ألبانيا عاش في المنطقة المؤدّية إلى أدرنة وبالتالي إلى أوروبا، ومع الوقت أصبح اسمها قرية الألباني وبعدها اتخذت اسمها النهائي أرناؤوط كوي، ومرّت المنطقة بـ 3 مراحل رئيسية للتغيرات السكانية فيها:
– الهجرة من كوسوفو وبلغاريا ومقدونيا خلال حرب البلقان.
– بعد اتفاقية التبادل السكاني بين تركيا واليونان عام 1923، وصل عدد العائلات فيها إلى 350 عائلة.
– تأثرت أرناؤوط كوي بالهجرة الداخلية في تركيا وأصبحت مركزًا رئيسيًّا وتحولت إلى بلدية مستقلة.
وتوجد 3 روايات لتسمية أحد الأحياء الواقعة في منطقة باهتشلي ايفلر باسم يني بوسنة (البوسنة الجديدة)، حيث تتحدث الشائعات عن توطين جماعة قادمة من البوسنة (أمير أو رجل نبيل أو أميرة مع عائلتها) ومنحهم قصرًا في مركز الحي، وتسمية الحي بـ Saraybosna (سراييفو)، وتغيّر اسم المكان أكثر من مرة ليصبح يني بوسنة.
في الحديث عن الأقليات العرقية القادمة من البلقان، يمكننا الحديث عن الهجرة من مقدونيا وبلغاريا، حيث استقبلت تركيا حوالي 800 ألف شخص من بلغاريا بعد تأسيس الجمهورية على 4 دفعات، إضافة إلى المهاجرين القادمين من اليونان ضمن اتفاقية التبادل السكاني بين تركيا واليونان، يبلغ عددهم 384 ألف تركي حسب مصادر رسمية، وهؤلاء اللاجئون هم من رعايا الدولة العثمانية أيضًا.
ثقافة المجتمع الأرناؤوطي ومطبخه
تتميز شعوب الألبان بالتضامن الكبير بين أفراد العائلات، والحفاظ على علاقاتهم قوية، ومن المشهور أنه مهما حدثت مشاكل كبيرة ضمن عائلة الأرناؤوطي فلا يمكن لأحد أن يعرف ما الذي يجري، كما تنتشر في تركيا أمثال شعبية تتحدث عن إصرار الأرناؤوط على تحقيق ما يريدونه.
عاش المهاجرون البوسنيون الذين قدموا إلى تركيا بشكل عام معًا وكوّنوا قرى وأحياء بوسنوية، وغلب عليهم إقامة علاقات مصاهرة فيما بينهم، وبنوا منازلهم على طراز منازلهم القديمة في البوسنة.
جلب المسلمون عاداتهم في الطهي وتحضير الطعام إلى الأناضول، إلى جانب تقاليدهم وخلفياتهم الثقافية، أيضًا أدّى تفاعل الألبان مع الكثير من الشعوب والثقافات عبر التاريخ، لتأثُّر مطبخهم بالذوق الإيطالي واليوناني إضافة إلى المطبخ التركي.
لكن أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر الأرناؤوط في تركيا هو وجبة “الكبد الألباني”، المكوّنة من مكعبات لحم الكبد المقلي مع البهارات والفليفلة الحارة، ويقدَّم مع البصل والبقدونس، أما البوسنيون فيشتهرون بكُرات اللحم والمعجنات.
وينسب الأتراك أشهر أطباق الحلوى في تركيا “تريلتشه” إلى دول البلقان، وتعدّ وفق الأصول باستخدام 3 أنواع من الحليب، وهي حليب البقر وحليب الماعز وحليب الجاموس.
كما توجد في تركيا وإسطنبول تحديدًا الكثير من المطاعم التي تقدّم الطعام التقليدي البوسني والألباني، إضافة إلى أماكن بيع المنتجات التقليدية المستخدَمة في مطابخ البلقان، مثل تلك المتوفرة في منطقة بايرام باشا.
الجمعيات والنشاطات الثقافية
توجد في تركيا عشرات الجمعيات الألبانية والبوسنية، وتقيم فعاليات ثقافية وتؤمّن تواصل بين أفراد المجتمع الألباني في تركيا وتقدم لهم بعض الخدمات، كما تقيم أنشطة مشترَكة للألبان والأتراك، على سبيل المثال تعمل جمعية الثقافة الألبانية في مدينة بورصة على الترويج للثقافة الألبانية بإقامة المعارض والمؤتمرات والندوات، بهدف دمج الثقافات التركية الألبانية، وجمع المهتمين بالثقافة واللغة الألبانية.
أما مؤسسة البوسنة الأكاديمية للثقافة والتاريخ فتقوم رسالتها على تقوية الروابط بين البوسنيين في تركيا وسكّان البوسنة والسنجق، وتعمل على رفع مستوى الوعي لمنع تكرار الأحداث المؤلمة، إضافة إلى دعم جهود البحث العلمي وتوثيق الأحداث التي أثّرت على المجتمع البوسني، ومنها موجات الهجرة التي أُجبروا عليها عبر تاريخهم الطويل، حيث تضم المؤسسة أكاديميين وباحثين على سوية عالية من التعليم والثقافة والوعي.
وجود هذه الأعداد الضخمة من أحفاد شعوب البلقان في تركيا وأولادهم الذين باتوا أتراكًا، ووجود إرث عثماني ضخم في دول المنطقة من قلاع ومساجد وتكايا وأسواق وحمامات وأسبلة، تعمل أنقرة باستمرار على ترميمها عبر مؤسساتها، ينعكس على طبيعة العلاقات التي بلغت ذروتها خلال العقد الأخيرة على مختلف الأصعدة.