ترجمة وتحرير: نون بوست
لا شك أنك قد تساءلت في مرحلة ما، مثلي، عن شكل الدولة العربية التي تخيّلها الفلسطينيون في عام 1948 لو أنهم انتصروا في الحرب. ماذا كانت خططهم؟ أين كانوا سيبنون نسختهم من طريق أيالون السريع؟ هل أرادوا أيضًا تجفيف بحيرة الحولة لتوفير المزيد من الأراضي الزراعية؟ وماذا كان رأيهم بشأن 628000 يهودي الذين كانوا يعيشون عشية يوم الحرب في ما يعرف الآن بـ “إسرائيل”؟ ماذا كانوا ينوون أن يفعلوا بهم؟
في كل أسبوع؛ كان الكاتب بن درور يميني يخبر قراءه في صحيفة يديعوت أحرونوت عن القادة العرب في عام 1948 الذين دعوا إلى إلقاء اليهود في البحر، وأنهم بعبارة أخرى، كانوا ينوون تنفيذ الذبح المنظم.
لذلك؛ من دون إثقال كاهل قراء “هآرتز” ببحوث أكاديمية جافة، أعتقد أنه من المفيد إخبارهم أنه خلال 15 عامًا من البحث، التي قرأت خلالها مئات الوثائق الدعائية من عام 1947 إلى عام 1949، لم تعترضني سوى حالة واحدة فقط ذكر فيها زعيم عربي كلمة “البحر” و”اليهود” في نفس الجملة. وكان ذلك الزعيم المصري حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، في دعوة لطرد اليهود من مصر.
في الواقع؛ لم تكن الاقتباسات الأكثر شيوعًا (مثل تلك المنسوبة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية في ذلك الوقت، عزام باشا) مدعومة من قبل مصادر عربية موثوقة، وليس من الواضح ما إذا كانت قد قيلت بالفعل.
على أية حال؛ لم أجد أي دعوات لقتل اليهود لمجرد أنهم كانوا يهودًا سواء في الدعاية أو المواد التعليمية الموجهة للفلسطينيين والمقاتلين العرب عام 1948. واستنادًا إلى الوثائق التي جمعتها لكتابي الأخير، فإن الادعاءات حول وجود خطة عربية “لإلقاء اليهود في البحر” متجذر في الواقع في الدعاية الصهيونية الرسمية. وبدأت هذه الدعاية خلال الحرب، ربما لتشجيع المقاتلين اليهود على ترك أقل عدد ممكن من الفلسطينيين في المناطق التي ستصبح جزءًا من “إسرائيل”. (بالمناسبة، تكشف مقارنة الدعاية العربية واليهودية في عام 1948 أن دعاية جيش الدفاع الإسرائيلي وسابقتها، منظمة الهاجاناه، كانت أشد عنفًا).
ظننت مؤخرًا أن الفرصة الذهبية لمعرفة المزيد عن خطط الفلسطينيين لتحقيق النصر في عام 1948 قد أصبحت بين يدي. وبعد خمس سنوات من طلب الإذن لفحص العديد من الملفات التي نُهبت من المؤسسات الفلسطينية أثناء الحرب والتي تم إخفاء وجودها، زودني أرشيف دولة “إسرائيل” بقائمة ملفات من وزارة الخارجية السرية التي كانت تسمى “الدائرة السياسية” (التي أصبحت فيما بعد الموساد). في عامي 1948 و1949؛ حيث ترأس هذه الدائرة عميل استخباراتي يُدعى بوريس جورييل.
عندما يرفض أرشيف دولة “إسرائيل” نشر الوثائق المنهوبة من الفلسطينيين بحجة أن هذا من شأنه “تقويض الأمن القومي”، فمن الواضح أن هذا غطاء لخوف مختلف تمامًا، حيث لا توجد ولا يمكن أن تكون أي أسرار للدولة في الوثائق العربية التي يكتبها الفلسطينيون
لفت ملفان ضمن هذه القائمة انتباهي على الفور؛ الأول كان ملف وزارة الخارجية 5/6100، بعنوان “فلسطين – دولة عربية مستقلة”. واحتوى الملف على وثائق صادرة عن جامعة الدول العربية، على ما يبدو كجزء من مراسلاتها مع حكومة “عموم فلسطين” في المنفى التي تم تشكيلها في قطاع غزة خلال الحرب. وقال الأرشيف إن هذا الملف احتوى على “مراسلات وتقارير عن قيام دولة عربية مستقلة”، لكنه سري للغاية لدرجة أنه لن يسمح لي بقراءته، إلا بعد 90 عامًا فقط من إنشاء “إسرائيل”، أي في عام 2040.
اعتقدت حينها أنه لا بأس بذلك، ربما لا يستطيعون إخباري بما كان الفلسطينيون يخططون له لإقامة دولتهم المستقلة، لكن كل طفل في “إسرائيل” يعرف أنه عندما يتعلق الأمر بمفتي القدس سيئ السمعة، فإن كل شيء معروف بالفعل ومفتوح للتدقيق. وعلى الرغم من كل شيء فقد كانت علاقات أمين الحسيني مع كبار المسؤولين في الحزب النازي والدعاية المروعة التي بثها عبر الراديو خلال الحرب العالمية الثانية من المواضيع المفضلة لآلة الدبلوماسية العامة الإسرائيلية منذ سبعة عقود حتى الآن.
لكن اتضح أنني كنت مخطئًا مرة أخرى؛ فقد تضمنت ملفات القسم السياسي وثائق كتبها المفتي بين عامي 1946 و1948 (ملف وزارة الخارجية 3/6100). ومع ذلك، فإن هذه أيضًا لا يمكن عرضها إلا بعد 90 عاما من كتابتها، كما أبلغتني المحفوظات.
لكن لا تقلق، فقد وافقوا على مشاركة مراسلات المفتي مع كبار المسؤولين النازيين، لكن الأمر التافه الذي كان يفعله زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية خلال الحرب هو فقط الذي لا يمكن الكشف عنه.
هذان الملفان ليسا سوى غيض من فيض للتراث السياسي والثقافي الفلسطيني المخبأ في أرشيف “إسرائيل”، والذي تم الاستيلاء عليه كغنائم من المؤسسات والأفراد الفلسطينيين في أعوام 1948 و1956 و1967 و1982 (وبالطبع في العقود اللاحقة أيضا)، ولكن يمكن الاطلاع على بعضها فقط.
وحسب تقديري؛ يمكن العثور على عشرات الآلاف من الصفحات من الوثائق العربية التي لم يتم إتاحتها للجمهور بعد في أرشيف دولة “إسرائيل” وأرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي وأرشيف الموساد، وأخيرًا أرشيف جهاز الأمن العام (الشاباك)، والذي أحرق بعض هذه الوثائق مرة أخرى في 1960، وفقا لرواية شخص واحد.
وحقيقةً أن أرشيف الشاباك مغلق تمامًا أمام عامة الناس، بموافقة من محكمة العدل العليا؛ هو ما يجعل معرفة حقيقة ما يحتوي عليه هذا الأرشيف أمرًا مستحيلًا، وحتى في الأرشيفات الأخرى يتم إخفاء العديد من الملفات المنهوبة، خاصة في بعض الحالات، كما لا يتوفر قائمة بمحتوياتها أيضًا.
بالمناسبة؛ هذه ليست مجرد وثائق من النخبة السياسية الفلسطينية، حيث اكتشفت عدد صغير من الملفات الفلسطينية المنهوبة من أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي تحتوي على آلاف الصفحات من الوثائق عن الناس العاديين، وهو ما تم توفيره مؤخرًا بناء على طلبي.
يتناول أحد الملفات حياة رجل يدعى وديع إسكندر عزام، حيث يتضمن وثيقة السجل العقاري لمنزله في صفد، وشهادة زواجه، وبطاقات العمل التي جمعها خلال حياته، ومذكراته الشخصية وبعض القصائد التي كتبها، ليكون بذلك عالم كامل من الوثائق عن شخص دُمر عالمه في عام 1948.
سرقة “إسرائيل” وحيازتها غير القانونية لتراث الفلسطينيين ستصل في النهاية إلى المحاكم الدولية، وسيكون من الحكمة أن تمنع “إسرائيل” ذلك من خلال الإفراج المنهجي عن الوثائق التي تحتفظ بها وجعلها في متناول الجميع.
عندما يرفض أرشيف دولة “إسرائيل” نشر الوثائق المنهوبة من الفلسطينيين بحجة أن هذا من شأنه “تقويض الأمن القومي”، فمن الواضح أن هذا غطاء لخوف مختلف تمامًا، حيث لا توجد ولا يمكن أن تكون أي أسرار للدولة في الوثائق العربية التي يكتبها الفلسطينيون، مثل خططهم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة أو وثائق من دار للأيتام في يافا.
السر الأكبر من وجود هذه الوثائق؛ التي تُعتبر نصبًا تذكاري للحضارة الفلسطينية المدمرة، هو أن المسؤولين الإسرائيليين رفع السرية عن الوثائق، مما قد يقوض الرواية الصهيونية الإسرائيلية ويثير الشكوك بين الناس الراغبين في فحص التاريخ بعين ناقدة.
تخيل لو أن دولة أخرى تمتلك أرشيفات جالية يهودية في أوروبا الشرقية ودُمرت خلال الهولوكوست، أو أرشيفات جالية يهودية في بلد مسلم. بالطبع ليس هناك مقارنة، ولكن ماذا تقول الـ ياد فاشيم؟ أو المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة؟ هل ستتدخل الحكومة الأمريكية لإحضار هذه الوثائق إلى بر الأمان؟
في الواقع، ليس عليك أن تتخيل، لأنه كان هناك عدد كبير مثل هذه الحالات على مدار الـ 70 عامًا الماضية، ومنها المعارك التي لا تزال دائرة حول أرشيف الجالية اليهودية في بغداد، الذي أخذته قوات الاحتلال الأمريكية من مقر المخابرات العراقية في عام 2003.
وقام الأمريكيون بنسخ الأرشيف بأكمله رقميًّا ووضعه على الإنترنت، والآن يخططون لإعادته إلى الحكومة العراقية، إلا أن ممثلي الجالية اليهودية العراقية يطالبون بعدم إعادة الوثائق إلى بغداد، حيث لم يبق يهود هناك، والمعركة لا تزال مستعرة حتى الآن.
ستواجه “إسرائيل” أيضًا صعوبة في الاستمرار في التمسك بالتراث الثقافي لشعب آخر، خاصة عندما لا يكون لمعظم أفراد ذلك الشعب الحق في الوصول إلى الأرشيف الإسرائيلي لدراسة هذا التراث. وكما تم تدويل جوانب أخرى من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن سرقة “إسرائيل” وحيازتها غير القانونية لتراث الفلسطينيين ستصل في النهاية إلى المحاكم الدولية، وسيكون من الحكمة أن تمنع “إسرائيل” ذلك من خلال الإفراج المنهجي عن الوثائق التي تحتفظ بها وجعلها في متناول الجميع.
المصدر: هاآرتز