ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت البلقان في مركز منافسة القوى العظمى لعدة قرون؛ حيث لعبت روسيا منذ فترة طويلة دورًا رائدًا؛ فقد دعمت حلفاءها المسيحيين السلافيين والأرثوذكس في صربيا وأماكن أخرى في المنطقة، ومع تفكك يوغوسلافيا في عام 1990 والصراعات الناتجة عن ذلك؛ عادت منطقة البلقان مرة أخرى لتوضع في طليعة السياسة الأوروبية.
الآن، وبعد أكثر من عقدين من الحروب اليوغوسلافية؛ أصبحت الترتيبات السياسية التي تم إنشاؤها لتحقيق التوازن بين مطالبات عدد لا يحصى من الطوائف العرقية والدينية محفوفة بالمخاطر بشكل متزايد. وبينما يسعى جزء كبير من المنطقة إلى تكامل أعمق مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي؛ يقول خبراء إن موسكو تحاول الاستفادة من التوترات المتصاعدة لعرقلة تلك الجهود. ومع ذلك؛ فإن حرب الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا يمكن أن تقوض نفوذ روسيا في البلقان.
هل يمكن أن تصبح البلقان نقطة جيوسياسية مضيئة؟
تصاعد العداء الجيوسياسي في المنطقة لعقود في أعقاب تفكك يوغوسلافيا في 1990 والحروب التي تلت ذلك، ومع تدهور العلاقات المتوترة بالفعل بين روسيا والغرب أكثر بسبب حرب أوكرانيا؛ تصاعدت التوترات أيضا في البلقان.
وأدت محاولات رعاية دول البلقان في المؤسسات الغربية باستمرار إلى رد روسيا والجماعات القومية والانفصالية المحلية التي تدعمها، ومع شبح الصراع الذي لم يتم حله في البوسنة والهرسك وبين صربيا وكوسوفو؛ ويقول محللون غربيون إن موسكو تسعى إلى الاستفادة من عدم الاستقرار المستمر للحفاظ على نفوذها وإضعاف الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
ماذا تعني حرب أوكرانيا لدور روسيا في المنطقة؟
ويقول محللون إن غزو بوتين أثار المخاطر بالنسبة لحكومات البلقان، ولعل الوضع في صربيا هو الأكثر خطورة؛ حيث يزن الرئيس ألكسندر فوتشيتش جهود الاتحاد الأوروبي لعزل موسكو ضد علاقات بلاده الطويلة الأمد مع روسيا، وخاصة اعتمادها على الطاقة الروسية والدعم الدبلوماسي لموقفها من كوسوفو. وحتى الآن سار على حبل مشدود؛ مما أغضب موسكو والعديد من مؤيديه من خلال الانضمام إلى قرار الأمم المتحدة الذي يدين الغزو الأوكراني ويرفض الاعتراف بضم روسيا. في الوقت نفسه؛ أحبط قادة الاتحاد الأوروبي برفضه الانضمام إلى نظام العقوبات في الكتلة، بينما ضغط الاتحاد الأوروبي من أجل فرض حظر شامل على الطاقة الروسية؛ فيما عقد فوتشيتش اتفاقًا مع روسيا لتوريد الغاز إلى بلاده لمدة ثلاث سنوات.
ومع ذلك؛ يرى بعض المحللين أن الحرب قد تضعف موقف روسيا في البلقان؛ حيث يستاء العديد من صانعي السياسة من الاضطرابات التي تسببت فيها، فقد كتب مكسيم ساموروكوف من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي مبينًا أن استخدام بوتين لمحاولة كوسوفو للاستقلال لتبرير استفتاءات الضم في شرق أوكرانيا أغضب العديد من القوميين الصرب، الذين يرون أنها تضفي الشرعية على ادعاءات كوسوفو. ردًّا على ذلك؛ نأى فوتشيتش بنفسه بشكل متزايد عن الكرملين. كما دفعت الحرب صربيا، التي تعتمد على الواردات الروسية في كل ما لديها تقريبا من الغاز والكثير من نفطها، إلى السعي إلى تنويع الطاقة، فقد أعلن فوتشيتش أنه بسبب حظر الاتحاد الأوروبي على النفط الروسي، ستقوم صربيا ببناء مصافي تكرير جديدة قادرة على التعامل مع النفط الخام من جميع أنحاء العالم والسعي للحصول على إمدادات جديدة من الغاز الطبيعي من أذربيجان وأماكن أخرى.
وفي الوقت نفسه، ومنذ غزو أوكرانيا؛ ضاعفت بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك قواتها تقريبا، وقد استغل بعض مؤيدي توسع حلف شمال الأطلسي هذه اللحظة للدفاع عن التعجيل بدخول البلاد إلى الحلف. قد تؤدي الاضطرابات أيضا إلى زيادة الإلحاح في بروكسل: في تموز/يوليو 2022؛ الدول الأعضاء توصلت إلى اتفاق لإلغاء المحادثات المتوقفة منذ فترة طويلة حول ضم ألبانيا ومقدونيا الشمالية إلى الاتحاد الأوروبي.
ما هي مصالح روسيا في البلقان؟
لطالما سعت موسكو إلى لعب دور متوازن من خلال دعم حلفائها الصرب، وهو هدف يعود إلى قرون؛ حيث طورت الإمبراطورية الروسية روابط ثقافية وسياسية ودينية وثيقة مع البلقان. ومع السيطرة على المنطقة المتنازع عليها من قبل القوى الغربية الكاثوليكية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية؛ وضعت روسيا نفسها كحليف وراعي للسلاف المسيحيين الأرثوذكس، وخاصة في بلغاريا ورومانيا وصربيا.
وفي العصر الحديث؛ رأت التدخلات الغربية في يوغوسلافيا – وخاصة قصف الناتو لكوسوفو عام 1999، والتي كانت آنذاك مقاطعة منشقة عن صربيا – كدليل على تناقص نفوذ روسيا. بالنسبة لبوتين؛ الذي تولى السلطة بعد أقل من عام؛ كان الصراع في كوسوفو احتجاجًا تأسيسيًّا ضد القوى الغربية، فلقد اعتبر أن ضربات الناتو على القوات الصربية هي بيان نوايا بأن المصالح الروسية لن يتم النظر فيها بجدية في صنع القرار الدولي. وستواصل حكومته معارضة محاكم جرائم الحرب الدولية للقادة الصرب، وسحب قوات حفظ السلام التابعة لها من كوسوفو في عام 2003، ومنع اعتراف الأمم المتحدة بإعلان استقلال كوسوفو في عام 2008.
وفي عهد بوتين؛ سعت روسيا إلى استعادة دورها كوسيط قوة في السياسة الأوروبية وقوة لا يستهان بها على الساحة العالمية. وكما كتب ستانيسلاف سيكريرو، المحلل الأمني في الاتحاد الأوروبي، فإن البلقان هي محور حجج بوتين لعودة “التعددية القطبية” في الشؤون العالمية، في معارضة ما يراه من نظام أحادي القطب والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
إن توسع الناتو هو أيضا في صميم احتجاج بوتين ضد الغرب؛ فهو يؤكد أن القادة الغربيين خالفوا التزامهم بالتخلي عن التوسع شرقًا ويسعون بدلًا من ذلك إلى تطويق روسيا وتدميرها، وترى موسكو أن العلاقات الوثيقة مع دول البلقان وسيلة لمنع انضمامها إلى كل من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وطريقة لإظهار قوتها البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وهو هدف آخر طويل الأمد لفن الحكم الروسي. فعلى سبيل المثال؛ امتلكت مونتينيغرو آخر موانئ غير تابعة لحلف شمال الأطلسي على البحر الأدرياتيكي قبل انضمامها إلى الحلف في عام 2017.
كيف روسيا تمارس النفوذ؟
يركز نهج روسيا على إيجاد وسائل منخفضة التكلفة أو غير متكافئة لإبطاء اندماج البلقان في المؤسسات الغربية مع تعميق العلاقات مع صربيا والجماعات الصربية في جميع أنحاء المنطقة، وهي تسعى إلى استغلال الانقسامات الإقليمية وتضخيم التوترات بين الطوائف العرقية والدينية.
بالإضافة إلى ذلك؛ توجه الحكومة الروسية الشركات التي تسيطر عليها الدولة، بما في ذلك شركة الطاقة العملاقة غازبروم وبنك الدولة سبيربنك، للقيام باستثمارات في جميع أنحاء المنطقة؛ حيث تعتقد أنها ستعزز نفوذها السياسي. وأثبتت موسكو أنها ماهرة في طمس الخطوط بين الإجراءات الرسمية وغير الرسمية للدولة، وغالبا ما توجه دعمها من خلال الوكلاء؛حيث إنها توجد النفوذ من خلال مجموعة من المسارات غير الحكومية، مثل دعم الأندية والمدارس والفرق الرياضية والمراكز الدينية ووسائل الإعلام ومجموعات المحاربين القدامى. إن رعاية هذه القوة الناعمة تمنح روسيا نفوذا مع قطاع عريض من المجتمع بينما تقدم إمكانية إنكار الكرملين.
وهذه بعض الأمثلة البارزة على ذلك:
– صربيا وكوسوفو: من خلال منع اعتراف الأمم المتحدة باستقلال كوسوفو؛ تضع موسكو نفسها كمدافع عن السلامة الإقليمية الصربية، وهذا يعزز شعبية روسيا بين الصرب ويضغط على بلغراد للحفاظ على علاقات ودية مع موسكو. وتسعى الدبلوماسية رفيعة المستوى؛ مثل زيارة بوتين الرسمية إلى بلغراد في عام 2019، إلى تعزيز هذه العلاقة. كما نمت العلاقات العسكرية الثنائية؛ حيث اشترت صربيا المزيد من الأسلحة الروسية، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي والأسلحة المضادة للدبابات والطائرات بدون طيار، ويقوم جيشا البلدين بمناورات مشتركة، فيما يقول بعض صانعي السياسة الأمريكيون إن مركزًا إنسانيا تديره روسيا في مدينة نيش بصربيا، هو واجهة لعمليات الاستخبارات في جميع أنحاء المنطقة. وعلى المستوى غير الرسمي؛ يساعد الرعايا الروس في تمويل وتنظيم المجموعات القومية وشبه العسكرية، بما في ذلك من خلال معسكرات التدريب العسكرية للشباب الصربي، وهي المعسكرات التي أصبحت تثير الجدل.
وتمارس روسيا أيضًا نفوذًا من خلال العلاقات الدينية؛ حيث تتطلع الكنيسة الأرثوذكسية الصربية إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الأكبر لدعم مطالبها في كوسوفو، والتي تحتوي على بعض أقدس المواقع الدينية في الأرثوذكسية. وتعمل الجماعات الخيرية الأرثوذكسية الروسية، التي يدير أكبرها الملياردير الروسي وحليف بوتين المقرب كونستانتين مالوفيف، في صربيا وفي جميع أنحاء البلقان، مما يضخم أفكار الحضارة السلافية المعارضة للغرب.
وتلعب دبلوماسية الطاقة والصحة أدوارًا أيضًا؛ حيث منحت صربيا شركة غازبروم حصة أغلبية في شركة النفط الوطنية في عام 2008، وتحصل على الغاز الطبيعي من مصادر روسية. وخلال جائحة كوفيد -19؛ تحركت روسيا بسرعة لتزويد صربيا بالإمدادات الطبية والجرعات من لقاح سبوتنيك، وذلك رغم أن حكومة فوتشيتش نوعت في النهاية إمدادات اللقاح.
– البوسنة والهرسك: خلقت اتفاقيات دايتون لعام 1995 – التي أنهت الحرب البوسنية – عملية توازن دقيقة بين كيانين: اتحاد البوسنة والهرسك، الذي يسكنه إلى حد كبير الكروات الكاثوليك والبوشناق المسلمون، وجمهورية صربسكا، التي يسكنها في الغالب الصرب الأرثوذكس. وحذر تشارلز كوبشان ، كبير الزملاء في مجلس العلاقات الخارجية، من أنه مع ارتفاع المشاعر الانفصالية؛ فإن هذا التوازن في خطر. ودعمت روسيا انفصال صرب البوسنة رسميا، من خلال جمهورية صربسكا، وبشكل غير رسمي من خلال عدد لا يحصى من المجموعات الثقافية والدينية والتعليمية وشبه العسكرية. وعززت موسكو دعمها لزعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك الذي تعهد بسحب جمهورية صربسكا من المؤسسات الوطنية في البوسنة والهرسك. وساعد مورِّدو الأسلحة الروس في تسليح قوات شرطة جمهورية صربسكا في حين قام المرتزقة الروس بتدريب أفراد الجماعات شبه العسكرية الصربية البوسنية.
وتفضل موسكو القوميين الكروات في البلاد – الذين يسعون أيضا إلى تقويض إطار دايتون – للمساعدة في درء الإصلاحات التي قد تسمح لسراييفو بدفع عمليات انضمامها لحلف الناتو إلى الأمام. في غضون ذلك؛ يقول بعض المحللين إن روسيا استخدمت نفوذها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإضعاف تفويض قوة الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى دعوات لدور أكبر لحلف شمال الأطلسي هناك، وحذر دبلوماسيون روس من أن انضمام سراييفو إلى حلف شمال الأطلسي سيشكل “عملًا عدائيًّّا”.
– أماكن أخرى في المنطقة: كان الناتو نقطة مضيئة في بلدان أخرى في يوغوسلافيا السابقة؛ فقد عارضت روسيا بشدة انضمام الجبل الأسود إلى التحالف، ووعدت برد غير محدد إذا انضمت. وفي عام 2016؛ وجه ممثلو الادعاء في الجبل الأسود التهمة لعملاء المخابرات الروسية بالمساعدة في التخطيط لانقلاب يهدف إلى الإطاحة بالحكومة الموالية للناتو. (تم إلغاء الإدانات في القضية عند الاستئناف في عام 2021 وما زالت طبيعة الأحداث موضع نزاع).
وسعت موسكو أيضا إلى وقف دخول مقدونيا الشمالية إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي؛ حيث تم منع التقدم في كليهما منذ ما يقرب من عقدين بسبب نزاع مع اليونان المجاورة. ومع اقتراب سكوبي وأثينا من التوصل إلى حل وسط في عام 2018؛ أثارت موسكو معارضة الصفقة من خلال قنوات مختلفة، بما في ذلك من خلال تمويل منظمي الاحتجاجات المحلية، ودفع ذلك اليونان إلى طرد دبلوماسيين روس وتحذير حليفها القديم من التدخل في شؤونها. وانضمت مقدونيا الشمالية إلى الناتو في عام 2020.
كيف استجابت الدول الغربية؟
لقد شاركت الدول والمؤسسات الغربية بشكل وثيق في الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة منذ أن ساعدت المهام القتالية الأولى لحلف الناتو في جلب الصرب إلى طاولة المفاوضات في عام 1990. ومنذ رفض صربيا لمحاولة استقلال كوسوفو؛ حاول الاتحاد الأوروبي سد الفجوة بين بلغراد وبريشتينا، وأحرزت تلك المحادثات تقدمًا بشأن بعض القضايا الإدارية، رغم أن صربيا لا تزال ترفض الاعتراف بكوسوفو كدولة ذات سيادة، ولا تزال التوترات عالية. وفي عام 2020؛ أدت المحادثات المنفصلة التي توسطت فيها الولايات المتحدة إلى إعادة إنشاء العديد من الروابط الاقتصادية ونقاط العبور والخطوات الأولية نحو اتفاقية مبادلة الأراضي.
ومع ذلك؛ يقول بعض النقاد إن التدخل الغربي منذ الحروب اليوغوسلافية كان يركز بشكل ضيق للغاية على الحفاظ على الاستقرار، بدلًا من تحسين المؤسسات الاقتصادية والسياسية للسماح بتكامل أكثر حسمًا في المنطقة. وشهدت السنوات الأخيرة انقسامًا متزايدًا في الاتحاد الأوروبي حول توسع الكتلة، فكانت كرواتيا آخر دولة تنضم إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2013، وعلى الرغم من أن معظم دول غرب البلقان الأخرى تعتبر مرشحة للاتحاد الأوروبي، إلا أن تقدمها تأخر بسبب النزاعات الإقليمية التي لم يتم حلها أو معارضة الدول الأعضاء. ويقول منتقدون مثل إيفانا سترادنر من معهد أمريكان إنتربرايز إن عدم اهتمام الغرب الواضح بالمنطقة فتح الباب أمام تدخل روسي أكبر. كما جادل كوبشان من مجلس العلاقات الخارجية، بأنه مع تركيز واشنطن على الشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ تركت الولايات المتحدة المنطقة “لتحترق في الخلف“.
وكتب كوبشان في أواخر عام 2021: “تستعد شبه جزيرة البلقان بأكملها، عاجلًا أم آجلًا، للاندماج في المؤسسات الأطلسية، وبالنظر إلى ميل المنطقة إلى الصراع العرقي؛ سيكون عاجلًا أفضل بكثير من أي وقت لاحق”.
المصدر: موقع مجلس العلاقات الخارجية