محمد أبو الغيط.. من الثورة فالمحنة ثم إلى الضوء

Screenshot 2022-12-06 at 09

“ليس مطلوبًا من كل مواطن أن يكون الأنجح عالميًا بمجال تخصصه، بل مطلوب فقط أن يكون الإنسان راضيًا فقط عن مواقفه، وعن ما يقدمه لضميره”.. كلمات ستبقى خالدة في القلوب، قالها الطبيب والصحفي المصري محمد أبو الغيط في آخر ظهور له، قبل أيام قليلة، خلال حضوره عبر الفيديو منتدى مصر الإعلامي على فراش المرض، بعدما منعته إصابته بالسرطان من الحضور، لكنه كان حاضرًا على منصات التكريم.  

في فجر الخامس من ديسمبر/ كانون الأول، أعلنت زوجته وأمّ ابنه الوحيد، إسراء شهاب، رحيله عن عمر 34 عامًا، تاركًا لزملائه وأصدقائه ومحبيه وأبناء جيله كثيرًا من الضوء المنثور فيما كتبَ وفعل، وفي أثره الإنساني الباقي. 

أعلنت إسراء شهاب رحيل زوجها محمد أبو الغيط عن عمر 34 عامًا 

ثورة أبو الغيط

في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1988 وُلد أبو الغيط في محافظة أسيوط بصعيد مصر، وفي مدرسته الابتدائية كان زملاؤه يسمّونه “الولد بتاع ميكي”، في إشارة إلى المجلة الشهيرة التي لم تخلُ حقيبته منها مع أخريات، وكانت تسعده للغاية رؤية زملاء الدراسة يستعيرونها لقراءتها بين الحصص.

يكبر الولد قليلاً وتكبر قراءاته معه، يفرغ من الكتب الدراسية في مكتبة والده وجدّه، وتقوده الصدفة إلى مكتبة خاله، حيث روايات “الرجل المستحيل” و”ما وراء الطبيعة”، سحرته هذه العوالم ببساطتها وواقعيتها وخيالها وجدّيتها، وتشكّل خيال محمد أبو الغيط كما رآه العالم.

أبو الغيط الذي تخرّج في كلية الطب، بدأ مسيرته المهنية طبيبًا في مستشفى إمبابة العام في القاهرة، لكن شغفه بالأدب والصحافة دفعه إلى ترك الطب واقتحام مجال الإعلام والتفرغ للكتابة منذ عام 2010.

صورة

هذا الشغف صاحبه حتى رحيله، ودفعه إلى استكمال عطائه المهني، فكان يذهب من محافظته النائية إلى محافظة القاهرة، حيث مئات الكيلومترات، باحثًا عن الضوء، ولقاء كتّابه المفضلين وزملائه للقراءة والبحث، هؤلاء صاروا جيلًا لثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011. 

وكان أبو الغيط واحدًا من هذا الجيل، وصوتًا عاليًا من أصوات يناير الحقيقية وسط صخب الادّعاء، ومن أوائل المشاركين في الثورة المصرية بآمالها وعنفوانها ثم بانكسارها وغربته عن الوطن. 

غاب طريق الثورة عن سالكيه، وتفرّقت دماء الثوار بين النزاعات والسجالات، ليأتي أبو الغيط بتدوينة “الفقراء أولًا يا ولاد الكلب” كانت أبرز ما كتبه وقت الثورة، ثم تحولت إلى مقال حمل صاحبه إلى دخول الوسط الإعلامي، وإلى السجن خلال أحداث الثورة.

بعد ثورة يناير، بدأ أبو الغيط حياته الصحفية في صحيفتَي “الشروق” و”المصري اليوم” وغيرهما، كان صحفيًّا بارزًا لكتابات ممتعة ومعلومات موثّقة وانحيازات للفقراء والمستضعفين.  

صحفي بارع

قبل عقد من محاولة اغتيال الروائي البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي الأخيرة، كتب أبو الغيط تقريرًا تحليليًّا شاملًا قدّم فيه شخصية وموضوعًا لجمهور لا يعرف شيئًا عن رشدي سوى روايته “آيات شيطانية”، التي اعتبرها الرئيس الإيراني أنها مُسيئة للإسلام والمسلمين على مستوى العالم، وأصدر فتوى بإباحة قتله.

أكسبته النوعية الفريدة من الصحافة جائزة رابطة مراسلي الأمم المتحدة، وحصد جائزتَي “مؤسسة هيكل للعمل الصحفي والإعلام المصري”

في ذلك التقرير، نظر أبو الغيط إلى ما هو أبعد من المنشور الذي أثار دعوات لاغتيال رشدي، وأظهر خباياه كإنسان ومؤلف ومصدر إلهام، ونظرًا إلى أن حادث الطعن في 12 أغسطس/ آب 2022 أثار اهتمامًا جديدًا بالروائي، فقد انتشر مقال أبو الغيط -الذي كتبه شاب يبلغ من العمر 23 عامًا في ذلك الوقت- حيث سعى القرّاء للحصول على سرد شامل وموثوق لهوية رشدي.

بالنسبة إلى الكثيرين ممّن يعرفون أبو الغيط وعلى دراية بتقاريره وتحقيقاته الاستقصائية الحائزة على جوائز عالمية، فإن هذا التقدير لعمله ليس جديدًا على شاب شقّ طريقه داخل أروقة العديد من المؤسسات الصحفية والإعلامية الأخرى، مثل قناة “أون” المصرية وقناة “الحرة” الأمريكية، قبل أن يغادر إلى لندن حيث عمل في “التلفزيون العربي” بسبب التضييقات الأمنية في مصر.

تميّز أبو الغيط، كأحد أبرز الصحفيين المصريين والعرب، في مجال التحقيقات والصحافة الاستقصائية، وعمل مع مؤسسات عربية وعالمية، وفي ظروف قاسية تحيط به من كل جانب، اعتقالات وملاحقات أمنية تطال أهله وأصدقاءه وأقرب الناس إليه، لكنها لم تمنعه من مواصلة العمل والنجاح وحصد الجوائز.   

من خلال خبرته في الصحافة الاستقصائية، فإن عمل أبو الغيط لا مثيل له في منطقة معادية على نطاق واسع للصحفيين، لا سيما أولئك الذين يتعمّقون في مواضيع حساسة مثل الأمن والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان التي اجتازها أبو الغيط بمهارة، في بلدان تتراوح من مصر إلى اليمن وفلسطين المحتلة وسوريا. 

ترك أبو الغيط بصمته الاستثنائية بأعماله البارزة، مقالات وتحقيقات وبرامج تلفزيونية وأفلام وثائقية صنعها أو شارك فيها بجهد ودأب وثقة، وشارك مع شبكة “أريج” للصحافة الاستقصائية في إنجاز عدة تحقيقات حول قضايا تجارة السلاح الدولية والفساد وتتبُّع الأموال. 

تحقيقات كشفت تورُّط شخصيات كبرى من بينها رؤساء دول وحكومات، فقبل أشهر من تشخيصه بالسرطان، كان أحد المشاركين في التحقيق الاستقصائي “SWISS LEAKS” الخاص بجمع ونشر التسريبات السويسرية، التي كشفت تفاصيل الحسابات الخارجية لشخصيات بارزة من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك طغاة الشرق الأوسط وعائلاتهم.  

كما يعدّ تحقيق “المستخدم الأخير” المتلفَز من أبرز أعماله الاستقصائية، الذي شهد رواجًا واسمًا بسبب تسليطه الضوء على الحرب في اليمن والكشف عن الدور االسعودي الإماراتي في تسريب أسلحة ومعدّات عسكرية غربية حديثة إلى طرف ثالث، وحصد بسببه جائزة “فيتيسوف” للصحافة عن فئة المساهمة البارز في صناعة السلام عام 2020.

 

 

تغريدة للصحفي محمد أبو الغيط يعلن فيها فوزه بجائزة “فيتيسوف” للصحافة عام 2020 

كما حصد أبو الغيط العديد من الجوائز العربية والعالمية، وطاردته شهادات التقدير المهني والإنساني طوال حياته، ومنها جائزة مصطفى الحسيني لأفضل مقال صحفي عام 2013، وجائزة سمير قصير المقدمة من الاتحاد الأوروبي لحرية الصحافة عام 2014، والميدالية الذهبية في جائزة “ريكاردو أورتيغا” للصحافة المرئية والمسموعة المرتبطة بالأمم المتحدة عام 2019.

صورة

أكسبته هذه النوعية الفريدة من الصحافة جائزة رابطة مراسلي الأمم المتحدة، وحصد جائزتَي “مؤسسة هيكل للعمل الصحفي والإعلام المصري”، اللتين حصل عليهما على فراش المرض عام 2021، وهو يتلقى علاجه الكيماوي، فتحوّل من طبيب وصحفي إلى مصدر إلهام لآلاف من أصدقائه ومتابعيه.

“أنا قادم أيها الضوء” 

في أغسطس/ آب 2021، أعلن الصحفي المصري عن اكتشاف خلايا سرطانية في جسده، ووصف كيف أن جسده أخرجه من مرضه من خلال حلم متكرر، رأى فيه أشواكًا طويلة تملأ فمه، وكانت طويلة بما يكفي لتصل إلى أعماقه، وقال إن الاستيقاظ من هذه الأحلام كان يتبعها دائمًا ألم حقيقي في حلقه، وكتب: “سرعان ما ظهر المعنى، كان جسدي يستغيث ولا أفهمه”. 

لقد تحول الحلم إلى كابوس، ووقع أبو الغيط ضحية لمرض السرطان الذي لم يدخل جسدًا إلا أوهنه، وأجرى جراحة لاستئصال المعدة في محاولة باسلة للنجاة، لكن المرض الخبيث تجاوز المعدة، وتسلل إلى أجزاء أخرى من جسده، وجرّب علاجات مختلفة دون جدوى. 

منشور للصحفي الراحل محمد أبو الغيط يروي فيه كيف تحولت فيه أحلامه المفزغة إلى كابوس فعلي

منذ ذلك الحين، وفي سلسلة من المنشورات المطوّلة والمثيرة للاهتمام، أخذ قرّاءه ببلاغة في جولات مليئة بالآمال والإحباطات والعذاب الجسدي والتقدير لزوجته وأصدقائه، في وقت لا تزال مناقشة المشاكل الصحية في الأماكن العامة غير شائعة في الشرق الأوسط، وخاصة من قبل الرجال، لأنها تُظهر الضعف.

رفض أبو الغيط أن يتحول المرض إلى حاجز عن البحث والنضال، وحوّل مرضه إلى مادة للأمل والتعلم، ووثّق رحلته مع المرض عبر محتوى ثقيل ورؤى صريحة تحدّث فيها عن رحلته نحو البقاء على قيد الحياة، وينسج في المعلومات الطبية حول تقدُّم مرضه، مضيفًا عمقًا علميًّا ينبع من خلفيته الخاصة كطبيب، لتتحوّل تلك الكلمات إلى مصدر إلهام لأصدقائه ومتابعيه، الذين يواصلون دعمه لبُعده عن باقي أفراد عائلته الذين يقيمون في وطنه. 

واصل أبو الغيط كتابة مقالاته حتى أسابيع حياته الأخيرة، وجعل من كلماته سلاحًا في وجه السرطان، ورغم التدهور الملحوظ بحالته الصحية، لم يتوقف عن مطاردة شغفه، واستمرَّ في استكمال عطائه المهني بسلاسة وتميز، محوّلًا معاناته مع مرض السرطان إلى نصوص بديعة حوّل فيها تجربته المؤلمة إلى دروس في الحب والحياة، وكتب منشورات حية ووصفية ومقالات علمية وثقافية دسمة، حازت على إعجابات عشرات الآلاف من متابعيه، ليحوّلها في النهاية إلى عمل أدبي. 

أعرب البعض عن أن مثل هذه الكتابات التي يسردها أبو الغيط نادرة وشُجاعة طوال معركته المليئة بالألم ضد المرض الوحشي، الذي لا يظهر أي مؤشر على الاستجابة لأي من العلاجات القاسية التي يمرّ بها، والتي تركت جسده الشاب ضعيفًا وهزيلًا، لم يتوقف أبو الغيط عن إنتاج صحافة لا تشوبها شائبة.

في منشور على فيسبوك في 3 أغسطس/ آب الماضي، وبينما يسرد تفاصيل كيفية خضوعه لجلستَين من العلاج الكيماوي القاسي، وصف أبو الغيط كيف أن نشر تقرير استقصائي لشبكة “سي إن إن” الأمريكية ساهم فيه، حول استغلال روسيا لمناجم الذهب في السودان لتمويل حربها في أوكرانيا، جعله يبتسم لأول مرة منذ أيام. 

قبل أيام قليلة، أعلن أبو الغيط صدور كتابه “أنا قادم أيها الضوء” الذي تمنّى توقيعه في معرض القاهرة للكتاب، ويحمل بين طياته روح المقاتل وعزيمة المثابر وحكمة المتأمّل، ويحكي فيه عن المعركة الشرسة بينه وبين المرض، وعن العشرات من التفاصيل في جوانب الحياة المختلفة تتماشى وتبتعد عن بعضها، كأنه ظلَّ يكتب حتى النَّفَس الأخير. 

كما يروي فيه تجربته مع المرض عبر عدة نصوص اختتمها في صفحته الشخصية على فيسبوك برسالة إلى ابنه: “أعرف أنه ستظل تلك الطاقة من حبي تحيط بك وبأمك سواء كنت أنظر إليكما بعيني أو أنظر إليكما بعيون كل ذلك الكون الفسيح”. 

 

 

محمد أبو الغيط لم يمنعه المرض من البرّ بزوجته وحرصه على مشاعرها، وطالب بالإفراج عن والدها المعتقل منذ عام 2013، خوفًا على تأثير غيابه على نفسيتها، وكتب ذات مرة أن “حماه” أستاذ جامعي في السبعين من عمره، ويتمنّى ألا تُفجَع زوجته فيه (أبو الغيط) ووالدها ووالدتها المتوفية قبل عامَين بالفعل بالسرطان، وكانت تلك أمنيته الأخيرة التي كشف عنها قبل شهور، فهل تتحقق بعدما لم يسعفه الوقت لتحقيق أمنية توقيع كتابه؟