يدنو موعد الانتخابات التي يُراد تنظيمها في تونس بشكل تعسفي، يدنو حثيثًا، وسط حملات انتخابية مثيرة للجدل، ووضع اقتصادي يسير في طريق الترهُّل يومًا بعد يوم.
منظمة الشغيلة صعّدت حربها الكلامية، والمعارضة تعاني بدورها من التصدُّعات، وتغازل الجميع لأجل وحدة الصف، فيما تواصل السلطة سياسة الإلهاء قبل أيام معدودة من الموعد المضروب. فكيف يلوح المشهد السياسي المقبل؟ مخاتلة نقابية ومعارضة متنافرة ومشهد انتخابي ضبابي.
مشهد انتخابي مُعتم
مشهد انتخابي ضبابي، كالذي يسير خلف بلور معتم تكاد الرؤية فيه تكون منعدمة، في طريق محفوف بالألغام، وتزداد الأمور خطورة مع دخول الأسبوع الأخير قبيل الانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها يوم 17 ديسمبر/ كانون أول، بالتزامن مع ذكرى اندلاع الثورة التونسية.
شعور يبعث على الأسف والأسى والغبن والحسرة على ما وصل إليه المستوى السياسي للبلاد، وفق عدة شهادات، حيث وصل مرحلة توظيف المال الفاسد، وتدخُّل الإدارة مجسّدة في المسؤولين المحليين والجهويين وغيرهم.
كانت هيئة الانتخابات التي أشرفت على كل الاستحقاقات الماضية مستقلة ونزيهة بشهادة جميع المنظمات الرقابية المحلية والأجنبية، حتى تمَّ تغييرها إلى هيئة تخضع لقرارات الرئيس ومراسيمه.
ناهيك عن الخروقات والاختراقات الأخرى مثل التمديد لأيام بعد انتهاء آجال تقديم الترشّحات للانتخابات التشريعية، وهذا قد يخفي عدة أشياء، وقد سبق لرئيس الهيئة تأكيد عدم وجود أي مترشح في 7 دوائر انتخابية، ووجود مترشح واحد فقط في 10 دوائر انتخابية، فضلًا عن احتمال خلوّ بعض الدوائر من مرشحين، أو عدم اكتمال شروط الترشح لبعض الموالين.
هذا فضلًا عن الهيمنة الإعلامية لهيئة الانتخابات على تغطية المسار الانتخابي، ما أثار غضب هيئة الاتصال السمعي البصري ونقابة الصحفيين، في انحراف مهني غير مسبوق نسفَ المسار الديمقراطي السليم.
هذا ناهيك عن عدم طبيعة المترشحين أنفسهم الذين خلوا من أي شروط مسبقة، بخصوص مستوياتهم أو ملفاتهم الصحية، حتى أصبح بعضهم مجالًا للتندُّر في مواقع التواصل، واضطرت الهيئة إصدار بلاغ اعتبرت فيه المقاطع المنتشرة لا تمتّ للواقع بصلة، وهو ما يطرح هواجس فعلية عن مصير مجلس نيابي، سيكون واجهة لمن لم يرضَ بالبرلمان الديمقراطي.
ذلك يقودنا حتمًا إلى موجة السخرية التي شملت كثيرًا من المرشحين للبرلمان الجديد، بخصوص برامجهم الانتخابية المثيرة للاشمئزاز وحملاتهم الباهتة، بل بعض المشاريع التي تبدو جدّية لن يتم تمريرها دون موافقة رئيس الجمهورية، خاصة أن الدستور الجديد ينصّ على أولوية النظر في مشاريع قوانين الرئيس.
وبالتالي لن يكون أولئك المرشحون سوى عبارة عن أراجيز ودمى يسهل التحكم فيها، أشبه بأي برلمان صوري في أنظمة كليانية، لذا يبدو المشهد اليوم محاطًا بالغموض، ويبعث على الحيرة والتخوف على المستقبل التشريعي في البلاد، وهذا ما حرّك منظمات عتيدة، ولو من باب المناورة السياسية.
اتحاد المخادعة
عادت أكبر المنظمات الشغيلة لتلوي العصا في يد رئيس الجمهورية، وهي ليست المرة الأولى التي تصعّد فيها من نبرة تصريحاتها، حتى تظهر في مظهر المنافس للقصر، وطالما تحجّجت قيادة الاتحاد بأن الوضع العام لا يحتمل التصعيد، رغم تحدّيهم من قيس سعيّد عدة مرات، ورفض الحوار معهم.
وممّا يثير الشكوك عن جدّية الاتحاد في اتخاذ أي مواقف حقيقية، سواء في ما يتعلق بقضايا حارقة مثل رفع الدعم عن المواد الأساسية أو رفض التفويت في مؤسسات عامة، هو عدم إفصاح المنظمة عن طبيعة تحركاتها، كما لم يعارض صراحة سياسة الرئيس بل اكتفى بمعارضة الحكومة المنصّبة من الرئيس، ولم يطالب بتغييرها حتى بل مجرد تعديلها، كما لم يطالب بالعودة لدستور الثورة بل اعتبر الدستور الحالي غير تشاركي.
هذه المناورة أو المخادعة والمخاتلة، كانت بمباركة ورسم من كبار قادة الاتحاد وشرعنة لكل خطوات قيس سعيّد، منذ إعلانه انقلابه الدستوري من باب “خذها ولا تخف”، عبر مشاركتهم في اللجنة الاستشارية لصياغة الدستور، والتفاوض على الإصلاحات الاقتصادية مع خبراء من صندوق النقد الدولي، وصولًا إلى مباركة الاتحاد للاتفاق مع الصندوق، والتزامه بعدم زيادة الأجور لـ 3 سنوات قادمة، لكن تنصُّله أخيرًا بحجّة الزيادة الأخيرة في الأسعار لن يشفع له، خاصة إذا لم تتحول مواقفه إلى التطبيق.
وحتى لا يتمادى البعض في أمانيه وطوباويته، بعد هذه “الاستفاقة المتأخرة”، والتي لا نراها عند الحاجة، لدليل على أن حبل الودّ لم ينقطع بين الاتحاد والرئيس، حتى في أسوأ الحالات بين الاتحاد وقصر قرطاج، متراوحًا بين المغازلة والمهادنة والتصعيد الكلامي المألوف، دون أن نسمع منه عن أي تحركات مؤثرة، أو بيانات عن الحريات التي هُدِّدت أكثر من مرة بشهادة منظمات وطنية ودولية، حتى يخرج نور الدين الطبوبي ويتوعّد بحمايتها وكأن الأمر جديد، علاوة عن كونها وعودًا لا تكاد تخرجه عن خطابات التسويف، ضمن ما يسمّيها البعض بـ”التخميرة”، أو النشوة والنزوة المؤقتة لاستعراض الخطاب.
يبقى أمر توجيه اتهامات من القاعدة الشعبية للاتحاد هذه المرة لحكومة رئيس الجمهورية بشأن التطبيع، من خلال رفع شعارات منددة بالتطبيع، أمرًا جديدًا، لكن بقاءه بين القواعد مؤشر آخر على عدم تراكمية العمل النقابي، وغياب بناء منهجي في النضال ضد الاستبداد، ليبقى أشبه بردّات فعل منعزلة ومرتجلة، وفق وصف كثيرين.
ربما ما يريده الاتحاد، في هذه المرحلة، هو إفشال المفاوضات مع الحكومة بالعودة للنقطة صفر، بهدف تحسين شروط التفاوض على قاعدة جديدة استباقًا لأي محاسبة، أو إرضاء من يسعى لإرضائهم.
وعمومًا لا يمكن التكهُّن بأي دور حقيقي للاتحاد من هنا فصاعدًا، طالما لم يَدعُ إلى تعبئة الشارع، أو إعلان طرق أخرى غير الإفصاح عن المشاعر والخطب الرنّانة، دون إبداء مواقف من بقية الطيف السياسي الواسع الرافض للمسار الانتخابي، أو حتى الإعلان عن جهود لتوفير أرضية جماعية مشتركة للحوار أو الالتقاء.
كل ذلك يعكس أنانية الطرح النقابي، ومن هنا كان الشعور بالخذلان، حتى من طرف الأحزاب الإقصائية مثل حزب عبير موسي.
برلمان صوري
لا يمكن التفاؤل بخصوص شكل البرلمان المرتقب إذا شاءت الأقدار وظهر للعلن من خلال بعض الوجوه المعروفة المترشحة في الجهات، إذ تغيب المنافسة والنزاهة اللتين احتكرتهما آلة الدولة العميقة، مستعيدة خبرتها في رسكلة النفايات، معتمدة على النواة القديمة لإعادة تركيب المشهد الذي لم تنجح الحكومات السابقة في تفكيكه، أو ربما تصالحت معه، وهذه إحدى المهالك في تقدير عدة مواقف.
المهم هو تعمُّد النظام الرئاسي الجديد لصعود شبكة علاقات جديدة إلى البرلمان، بعد إقصائه الأحزاب واعتماد نظام التصويت على الأفراد، في تصالح أو تحالف آخر بين من اصطلح على تسميتهم بشباب التنسيقيات التي أدارت الحملة الرئاسية لقيس سعيّد، ووجوه من التيار البائد المستهلك.
فضلًا عن صعود طفرة أخرى من المسايرين لـ”المسار التصحيحي” وإجراءاته الاستثنائية، من الموالين لحركة الشعب وشخصيات حزب الوطد، الذين تجمعهم نفس التوجهات الفكرية القومية في صورتها البراغماتية البحتة.
سيكون الموعد الانتخابي حسب المناهضين للانقلاب إخفاقًا جديدًا.
وعليه لا عجب أن يروا أنفسهم الحزب الأغلبي في البرلمان الجديد، بعد إقصاء الأحزاب الكبرى مثل حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة التي أفرزها الصندوق الحر، أحزابًا ومستقلين، لهذا تشجّع هذه الحزيبات الآن على عدم التصويت للأفراد لترسيخ قدمها بالبرلمان، بل تؤكّد تقدُّمها في عدد كبير من الدوائر للانتخابات التشريعية.
كل ذلك قد يكون مبررًا لدعوات المقاطعة الرسمية التي صدرت من كيانات كبرى، على رأسها جبهة الخلاص المكوّنة من حركة النهضة وقلب تونس وحزب أمل وحراك تونس الإرادة وحزب العمل والإنجاز ومواطنون ضد الانقلاب وتحالف برلمانيين، وأحزاب أخرى مثل أحزاب العمال والقطب والجمهوري والتيار الديمقراطي وحزب التكتل.
فضلًا عن الدعوات الافتراضية في وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها، خاصة من خلال التحشيد لمسيرة جديدة يوم 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري، تعبيرًا عن الرفض الشعبي للمسار الانتخابي والدستوري برمّته، وبالتالي سيكون الموعد الانتخابي حسب المناهضين للانقلاب إخفاقًا جديدًا، بعد فشل الاستشارة والاستفتاء والدستور في وضع مسار مشترَك يجمع ولا يفرّق.