خلال جائحة كورونا، تعطلت مساحات واسعة من الإنتاج الفني في عامي 2020 و2021، أصبح العالم وقتها محكومًا بالعزلة وضرورة التوقف، لذلك تعطلت أعمال سينمائية ودرامية كثيرة، سواء كانت تجارية، تابعة لشركات إنتاجية ذات قدرة مالية عالية، أم كانت أفلامًا مستقلةً تقوم على أطراف دعم متعددة وشحيحة نسبيًا.
لم يكن التوقف منوط فقط بإصدار الأفلام الجديدة، بل طال المهرجانات العالمية، التي تكون عادة نقطة انطلاق مهمة لقطاع واسع من الأفلام، لذلك، يمكننا الوقوف عند عام 2022 واعتباره عام التصالح نسبيًا، ومؤقتًا، مع الطبيعة، وتحقيق انطلاقة جديدة كي تستعيد السينما عافيتها وحضورها مرة أخرى.
بالفعل، حققت 2022 عدة تطورات على مستويات مختلفة، ليس فقط على مستوى الأفلام الجديدة، لكن أيضًا على مستوى أسس الحراك الإنتاجي العالم لقطاعي الدراما والسينما، فتحولت منصات عالمية بعيدًا قليلًا عن المركزية والاحتكار، وباتت الفوارق بين الأنواع السينمائية – من حيث الإنتاج – أكثر حضورًا، وحتى أساليب التفاعل من المشاهدين اختلفت قليلًا، كأن العالم السينمائي برمته يحاول البدء من جديد.
النظر إلى الخلف والتطلع إلى البعيد
يمكننا أن نقسم مجمل أفلام 2022 إلى قسمين: الأول مرتبط بالأفلام الجماهيرية وسياقات العمل عليها، والثاني منوط أكثر بالأفلام الانتقائية، الأكثر جدية، التي حاولت استشراف المستقبل بعين الماضي والحاضر.
على المستوى العالمي، تجاريًا، اشتركت معظم الأفلام المعروضة في محاولة استعادة نسخ حديثة من أفلام سابقة أو استقطاب شخصيات لها حضور جماهيري مسبق لضمان هامش ربح آمن من عوائد الأفلام، يحيلنا ذلك التفكير في المضمون إلى التأمل في محاولات مؤسسات الإنتاج أن تستعيد حضورها الاستثماري، بعيدًا عن عامل الجودة، بعد عامين من التوقف المفاجئ والتعرض لوقوف كل أشكال التدفق الربحي أو حتى استمرارية العمل دون تحقيق أرباح.
عاد الممثل الجماهيري توم كروز بفيلم جديد “top gun: maverick”، نسخة جديدة وأكثر تطورًا من حيث التقنية من فيلمه الصادر عام 1986، كروز لا يزال على حاله، بطل من هوليوود الصاعدة في النصف الثاني من القرن السابق، مُفعم بالتطلع والحضور الاستثنائي، فنان مُتكامل جماهيريًا، رغم أنه على مستوى التمثيل أقل بكثير من فنان.
في نوع الفانتازيا وأفلام الأبطال الخارقين (super hero)، صدر فيلم doctor strange in the multiverse of” madness” ضمن أفلام مارفل، خاصة شخصية doctor strange، وما زالت البطولة الخالصة حاضرة في شخصيات الأفلام المأخوذة من كوميكس marvel أو dc، إذ يحاول دكتور سترينج أن ينقذ فتاةً قادرةً على السفر في الأكوان المتعددة.
إضافة إلى فيلم مارفل، صدر فيلم “the batman”، بأداء جديد للممثل روبرت باتينسون، ورأينا في الفيلم باتمان أقرب إلى عالمنا الواقعي، بعيدًا عن كماليات البطولة المطلقة، وفي سياق مقارب، صدرت نسخة جديدة من فيلم “avatar” الذي هز عالم السينمات بنسخته الأولى في 2009.
على مستوى الأفلام التي عُرضت في المهرجانات العالمية في 2022، مثل كان وفينيسيا وغيرهم، هناك حالة مشتركة من تتبع مآلات اندفاع العالم نحو هاوية الفردية، ووضع الأقليات المنثورة هنا وهناك في أطراف العالم وفي قلبه، صدر فيلم “Athena” للمخرج الروماني رومين جافراس، الذي يُناقش اضطراب وضع الأقليات في فرنسا، وكيف يكتسب هؤلاء تعريفًا خاصًا وأصيلًا، يعنيهم وحدهم، تجاه كونهم “مواطنين” ضمن تداخلات المؤسسة.
في نفس سياق الأقليات وتماثلات العنصرية، صدر الفيلم الروماني “r.m.n”، وهو فيلم يعرض حالات العنصرية التي تُمارسها أوروبا الشرقية (المعرضة لعنصرية واستعلاء طويل المدى من القطاع الغربي الأوروبي) تجاه مجموعة عمال قادمين من دول آسيوية فقيرة، يتبين من خلال الفيلم مدى بؤس العالم المعاصر، مجموعة من الناس في قرية بدولة أوروبية شرقية لها باع طويل مع القمع السياسي والدونية في تراتبية الانتقاء الأوروبي، تقوم هذه المجموعة بنقل امتدادات العنصرية إلى آخرين، ويتداعى الفيلم على نفسه في الأخير، من خلال البطل، إذ نعود إلى إشارات مباشرة بنذير كارثي وخطير، ينظر إلى مآلات ذلك العداء العالمي بين الجماعات وبعضها.
بعيدًا عن الأقليات، قريبًا من أيقونات السينما في سنوات المجد الهوليودي، عرض فيلم “blonde”، سيرة خيالية ومحاولة خلاقة لقراءة حياة الممثلة مارلين مونرو من خلال المجاز، لم يستطع الفيلم أن يأخذ موقفًا من أي شيء، لم يُصنع بمعايير جماهيرية، وأيضًا لم يتجاهلها، ولم يكن الخيال مبررًا كافيًا لحكاية مهترئة ومُفتتة، منزوعة الرؤية النافذة إلى ما وراء واقع مارلين مونرو.
السينما العربية والطريق إلى الخليج
رغم أن نُظم إنتاج ونوعية الأفلام العربية لم تتغير، خاصة المصرية، فثمة نقلة جديدة ومحورية حدثت للأفلام المصرية في 2022. لا تزال الأفلام الجماهيرية سيئة الكتابة وشحيحة الجودة الفنية حاضرة بنفس قدرتها الجماهيرية على النجاح بفعل ممثليها القادرين على وضع الجودة الفنية جانبًا حينما توضع أسماؤهم على بوسترات الأفلام.
اتجهت الأفلام المصرية في العام الحاليّ إلى منطقة الخليج العربي، خاصة المملكة العربية السعودية، إذ تحاول المملكة الانفتاح على العالم حاليًّا من خلال خطة تغيير شاملة، أفلام مثل “كيرة والجن – بحبك – تسليم أهالي – فضل ونعمة) حققت إيراداتها الكبيرة من خلال عروضها في السعودية، بينما إيرادات الأفلام في مصر شكلت هامشًا صغيرًا من مستوى الربح.
اعتمدت الأفلام المصرية المذكورة على استغلال المواسم السنوية (الأعياد والإجازات الصيفية) وتم عرضها خلال ذلك الوقت في السعودية، بينما تقدير ذلك محليًا لم يكن محط اهتمام.
على مستوى عربي، حضرت مجموعة أفلام جيدة وطموح لتثبت نفسها، رغم أن معظمها تشكل من منح إنتاجية من خلال أكثر من مهرجان عالمي، لكن السينما السودانية مثلًا، شكلت خطوة جديدة في تطورها المثمر عقب فيلمي “ستموت في العشرين” و”الحديث عن الأشجار”.
عُرض فيلم “السد” في مهرجان كان نسخة العام الحاليّ وفي مهرجان القاهرة، يتعرض الفيلم، بدلالات رمزية متجاوزة للمباشرة، حالة الغضب السياسي عند المجتمع السوداني والخيبة العامة من فقر نتائج الحراك الثوري الحديث الذي خاضوه.
من سوريا، جاءنا فيلم “السباحتان” الذي أتاحته نتفيلكس حديثًا للمشاهدة، يتناول قصة صعود السباحة الأوليمبية “يسرى مارديني”، مع تطعيمات عمومية وتسليط ضوء على بؤس اللاجئين في العالم الحديث، ومدى العقبات والمفارقات التي يتعرضون لها، التي تصل إلى الوقوف على خط رفيع يفصل بين الحياة والموت.
كان النصيب الأكبر، من حيث الجدل، لفيلم “أصحاب ولا أعز” المقتبس من النسخة الإيطالية لفيلم “perfect stranger”، تعرض الفيلم لحملات انتقاد واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، بسبب هامش حريته الواسعة، لكنه على المستوى الفني كان مادة فقيرة جمعت كوكبة من ممثلي الوطن العربي، دون تحقيق توليفة تنتج أي إيجابية على مستوى سينمائي.
البحث عن مراكز أخرى
يظل صعود منصات العرض الإلكترونية منوط بريادة “Netflix” التي تقع في واجهة ذلك النوع من المنصات، إذ لم تتوقف نتلفيكس عن الانتشار في العرض فقط، بل تطرقت إلى الشراكات الإنتاجية، ومؤخرًا ظهرت هذه الخطوة على مستويات واسعة، مع مخرجين كبار مثل أليخاندرو جونزاليس إيناريتو، إضافة إلى شراء حقوق عرض حصرية لمسلسلات سابقة لها جماهيرية ضخمة.
بعد الفرصة الذهبية لمنصات العرض خلال أزمة كورونا، تغيرت معطيات السوق العالمي، وأصبحت مركزية نتفليكس مسألة محل نقاش، يمكننا الحديث مثلًا عن العمل الدرامي الأكثر انتشارًا في 2022 رغم عرضه في أواخر العام، مسلسل “house of the dragon” القائم على نفس معطيات مسلسل game of thrones، رغم أن مُعدل إنتاج نتفليكس في نفس العام، يصل إلى عدة أضعاف منصة hbo التي عملت على إنتاج منزل التنانين.
بسبب المنافسة القوية وإزاحة نتفليكس نسبيًا عن مركزية مشهد المنصات، ووجود منصات أخرى تنافس بقوة وبأعمال جيدة ومؤثرة جماهيريًا، نلاحظ التوجه الجديد لنتفلكيس في المنطقة العربية، خاصة الدراما المصرية، فمنذ عام 2020 وحتى الآن، أنتجت نتفليكس مسلسلات مثل “ما وراء الطبيعة”، واشترت حقوق عرض كثير من الأفلام التي حصلت على حفاوة جماهيرية خلال المواسم الرمضانية.
حتى الانفراد بالصورة بالنسبة لنتفليكس لم يدم طويلًا في مساحات الإنتاج والعرض العربية، إذ دخلت منصة “شاهد الأصلية” التابعة لقنوات mbc في سباق العرض والإنتاج، وبشكل ملحوظ وقفت بشكل مقابل لنشاط نتفليكس، في العام الحاليّ مثلًا، صدر أكثر من عمل درامي ضمن إنتاجات شاهد يشمل مجموعة ممثلين عرب، بالإضافة إلى استمرار المشاركة في السباق الرمضاني السنوي بمسلسل واحد على الأقل من إنتاجات شاهد، بالإضافة لكثير من المسلسلات المعروضة.
لم تعد نتفليكس وحدها في أي قطاع جغرافي تحاول الانفراد به، فالمنطقة العربية حاليًّا بها طموحات إنتاجية مستقلة، خاصة مع إعادة توجيه الاستثمارات الخليجية تجاه الفن، وبشكل عالمي، لدينا كثير من المنصات الأخرى، أكثرها تأثيرًا hbo وapple series، تحاول جميعها الدخول في السباق.
الدراما عربيًا وعالميًا
على مستوى عالمي، شهد عام 2022 عدة تطورات فارقة في الأعمال الدرامية، صدر العمل المُنتظر house of the dragon بموسم واحد من مجمل أربعة مواسم سيتم عرضهم في السنوات القادمة، افتتح المسلسل عالم صراع العروش مرة أخرى.
صدر أيضًا مسلسل rings of power المقتبس من روايات مملكة الخواتم، تم تحويلها إلى فيلم سينمائي من ثلاثة أجزاء، أسس بها المخرج بيتر جاكسون عالم جديد، يقيم فيه الخيال صراعات وحياة كاملة موازية، كذلك أصدر فريق صناعة مسلسل dark عمل درامي جديد، معروض على نتفليكس من فترة قريبة، مسلسل “1889” الذي يتناول مجموعة مهاجرين عالقين على متن باخرة منتقلة من لندن إلى نيويورك، يجدوا في طريقهم سفينة ثانية في عرض البحر.
على مستوى عربي، يتحكم الموسم الرمضاني السنوي في معظم الإنتاجات الدرامية عربيًا، ففي مصر، شهد الموسم الماضي كوكبة من المحاولات التي ظفر أفضلها بجودة درامية متوسطة، ففي مسلسل “مين قال؟” نتعرض لحوار الآباء والأبناء وجدل استقلال الأبناء بحياتهم وأفكارهم ومعطيات التبادل بيننا كأجيال مُختلفة، بينما مسلسل “فاتن أمل حربي” يشهد محاولة جديدة فاشلة لكتابات إبراهيم عيسى السينمائية أو الدرامية، إذ يعرض الفيلم حيثيات الطلاق والعنف الحاصل للمطلقات في القانون المصري، ولأي مدى يجور على حقوقهم، غير أن المسلسل لم يكن أكثر من تفريغ خطابي لكتابات إبراهيم عيسى الصحفية أو أحاديثه التليفزيونية.
في مسلسل “بطلوع الروح” حاولت المخرجة كاملة أبو ذكري تتبع مساحة لم تُتناول في الدراما المصرية والعربية كثيرًا، وهي دواخل تجنيد الأفراد لصالح “داعش” في سوريا، والمفردات اليومية لعيش هؤلاء الناس.
شهد عام 2022 أيضًا المساهمة الأولى دراميًا للمخرج يُسري نصر الله، الذي يحمل تاريخه السينمائي عدة أفلام قوية ومميزة مثل (باب الشمس – المدينة – مرسيدس)، في مسلسله الجديد “منورة بأهلها” خلق نصر الله عالمًا يُناسب صخب القاهرة، ممتلئًا بالعنف والفساد الأخلاقي والشخصيات الغريبة، التي أتت جميعها من ظروف استثنائية، لذلك بدت جميعها أيضًا بردود فعل استثنائية ونادرة، من حيث مدى قدرتها على ملاحقة الفساد الداخلي للإنسان.
بينما نودع العام الحاليّ، ننظر إلى مجمل الأعمال السينمائية والدرامية الصادرة عربيًا أو عالميًا، ونلاحظ الوقوف الحائر بين استدعاء قوالب جاهزة لها حضور جماهيري كبير في أذهان المشاهدين، ومحاولات التجريب الخلاق لقراءة كثير من مفردات العالم المعاصر، على مستوى أكثر نفاذًا إلى دواخل هذه الأشياء، إضافة إلى مآلات الانقطاع المؤقت في العامين الماضيين بسبب وباء كورونا، وكيف ظهرت لنا جهات إنتاجية ومنصات عرض بانتشار أوسع، بحثًا عن إلغاء مركزية منصات أخرى.
تظل الإجابات المتتبعة التي يتم محاولة عرضها في قراءة شاملة للحصاد السينمائي والدرامي في 2022، هي إجابات مفخخة بمزيد من الأسئلة، ربما ستلاحقنا بأفلام جديدة في العام المقبل، وكذلك بأعمال درامية، وربما أيضًا بتغيرات أكثر جذرية في سياقات ونظم الإنتاج السينمائي والدرامي.
ربما أيضًا نحاول وقتها، ملاحقة ذلك بحصاد جديد.