ترجمة وتحرير: نون بوست
شهدت السياسة الخارجيّة التركية تغييرًا جذريًا خلال العقدين الماضيين من إدارة حزب العدالة والتنمية. ولكن في ظل التحديات الإقليمية والعالمية الحالية، تحتاج تركيا إلى تطوير استراتيجية متكاملة تجمع بين السياسات الخارجيّة والأمنيّة والدفاعيّة.
سياسة خارجية لمواجهة حالة عدم اليقين العالمي
تمثّل أزمة قيادة النظام العالمي أحد أبرز التحديات العالمية بعد أن فقدت المنظمات الدولية، التي كان من المتوقع أن تلعب دورًا نشطًا وفعالًا في حل المشكلات، تأثيرها إلى حد كبير. لقد كانت المنظمات الدولية في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، وخاصة الأمم المتحدة، عاجزة عن الأخذ بزمام المبادرة في حل الأزمات الحالية. ومن جهتها، تمرّ الأمم المتحدة الآن بأزمة شرعية تاريخية بسبب قصورها عن المساهمة في السلام العالمي بوجود هيكلها الحالي. كما أن الافتقار إلى قيادة قوية على المستوى الدولي أمر محسوس يومًا بعد يوم. وبدلاً من إعطاء الأولوية للسلام العالمي والإصلاح والعدالة، تعكس قرارات أغلب القادة إيلاءهم الأولوية لمصالحهم الخاصة.
أما التغيير الآخر الملحوظ في النظام الدولي هو التحوّل في توزيع القوى العالمية. بدأ التفوّق الاستراتيجي للغرب على المستويات الاقتصاديّة والدبلوماسيّة والعسكريّة يضعف تدريجيًا، وتحوّل مركز ثقل السياسة العالمية إلى آسيا واكتسبت الدول الفاعلة في المناطق غير الغربيّة نفوذًا أكبر في السياسة الدولية. ولا شك أن التطورات التكنولوجية السريعة طالت جميع مجالات الحياة الاجتماعية، وأججت المنافسة في مجال الفضاء للأغراض العسكرية حيث تريد جميع الجهات الفاعلة أن تصبح لاعبًا فعّالا في النظام العالمي من خلال زيادة قدراتها العسكرية.
يمثل تنوّع التحديات والأزمات العالمية مجالا آخر يؤثر بعمق على السياسة الدولية، من تغير المناخ، وأزمات الصحة العالمية، مرورًا بالأمن الغذائي، وانخفاض التنوع البيولوجي، وأزمة الطاقة، وصولا إلى نضوب الموارد الطبيعية بسبب تدهور المناخ، وفضلا عن الإرهاب والتطرف ومعاداة الإسلام والهجرة غير الشرعية.
نتج عن الصراعات المتزامنة في الدول المجاورة لتركيا تغييرات جذرية في البيئة الجيوسياسية، إذ تؤثر الحرب المستمرة في أوكرانيا سلبًا على أمن منطقة البحر الأسود واستقرارها، وتتسبب سياسات روسيا العدوانية في خلق ضغوط على الوضع الجيوسياسي الراهن الذي ظهر في المنطقة بعد الحرب الباردة. وفي بحر إيجه وشرق البحر المتوسط تعرض اليونان بخرقها القانون والاتفاقيات الدولية أمن تركيا للخطر، في ظل احتدام المنافسة الإقليمية الموجهة نحو الطاقة وممارسة أساليب استفزازية بدلاً من التعاون.
تعتبر البيئة السياسية والأمنية في جنوب القوقاز هشّة أيضًا نظرا لعدم التوصّل بعد إلى اتفاق شامل. ومع أن خارطة التوازنات في المنطقة تغيرت بعد أن حررت أذربيجان جزءًا كبيرًا من كاراباخ، فإن المصالح المتضاربة للجهات الفاعلة غير الإقليمية تؤدي إلى استمرار الصراع. يؤثر الاضطراب السياسي في العراق في السنوات الأخيرة بشكل مباشر على الأولويات الأمنية الأساسية لتركيا، ذلك أن حالة عدم اليقين وإمكانية تفاقم الأزمة توفر فرصًا جديدة للمنظمات الإرهابية. كما أن سياسة إيران في العراق وسوريا، وخاصة برنامجها النووي، يفرض مخاطر على منطقة الشرق الأوسط بأكملها. وحقيقة عدم التوصل إلى حل شامل في سوريا وتواصل نشاط حزب العمال الكردستاني/ ووحدات حماية الشعب الإرهابية على الحدود التركية يمثل تهديدًا لوحدة أراضي سوريا ويؤثر سلبًا على الأمن القومي لتركيا، وخاصة أمن الحدود.
في الأثناء، لا تزال التطورات التي تشهدها دول شمال إفريقيا تشكل تهديدًا لمصالح تركيا الإقليمية. هذا بالإضافة إلى الحرب الدائرة في اليمن، وسباق التسلح المستمر في المنطقة، وانتشار المجموعات المسلحة المتطرفة والمنظمات الإرهابية، وجمود مفواضات القضية الفلسطينية التي تمثل جميعها عقبات تحول دون إرساء نظام إقليمي مستقر.
يشهد النظام الدولي بداية تشكل بيئة متعددة الأقطاب، وخلال العقد المقبل ستصبح البيئة الجيوسياسية أكثر تنافسية وعدوانية. وهذه الطبيعة التنافسية للبيئة الدولية لا تهدد سياسة تركيا الخارجية وأولوياتها الأمنية فحسب، بل توفر أيضًا فرصًا كبيرة. ومن أجل مواجهة التحديات العالمية والإقليمية والتغلب على الأزمات، يتعين على تركيا تحديد أهم أهداف السياسة الخارجية للقرن المقبل لتصبح اللاعب الأكثر تأثيرًا في النظام العالمي من خلال تحويل المخاطر إلى فرص والاستفادة من موقعها ومكانتها.
إن أولوية تركيا في القرن الجديد تبني سياسة خارجيّة أمنيّة دفاعيّة متكاملة تركز على استقلالية الدولى وضمان أمنها وتعزيز قوتها العسكرية وتوسيع ازدهارها الاقتصادي. والهدف من ذلك ترسيخ المكاسب التي حققتها تركيا، والمساهمة في تشكيل نظام إقليمي مستدام من خلال المساهمة في استقرار المنطقة، وضمان حصول تركيا على المكانة الدولية التي تستحقها من خلال تقديم أقصى قدر من الدعم للسلام والاستقرار والأمن العالمي في ظل تحول النظام الدولي.
السياسة الخارجية الشاملة
ينبغي أن تكون سياسة تركيا الخارجية للعقد القادم قائمة على خمسة مبادئ أساسية من أجل ضمان تكامل السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية. أولها “الاستخدام الفعال للدبلوماسية متعددة الأطراف”، ثانيا مبدأ “الأمن” الذي يجب أن يكون أولوية تركيا لمنع تفاقم الأزمات الأمنية الإقليمية وحلّها من منظور أمني تعاوني. ويندرج أيضًا ضمن مبدأ الأمن تعزيز القوة العسكرية الرادعة لتركيا من خلال مواكبة التطورات التكنولوجية واللجوء إلى خيار استخدام القوة من جانب واحد عندما يتعرض أمنها القومي للتهديد.
يتمثل المبدأ الثالث في “احترام القانون الدولي” من خلال ضمان سلامة الأراضي والالتزام بالاتفاقيات الدولية. أما المبدأ الرابع ينطوي على إعطاء الأولوية القصوى “للتعاون الاقتصادي” مع المناطق القريبة والمجاورة والبعيدة، في حين يقوم المبدأ الخامس على “الدبلوماسية الإنسانية” من خلال التفاعل المتبادل مع مختلف الثقافات والجغرافيا الحضارية.
يتمثل الهدف الاستراتيجي لتركيا في جعلها مركز قوّة عالمي من خلال التكيّف مع النظام الدولي المتغير. ويمكن أن تحقق تركيا خلال العقد المقبل هذا الهدف بوضع خطط استراتيجية شاملة وبعيدة المدى بدلاً من الاستجابات الفورية المدفوعة بالتفاعل مع الأزمات، مع تبني سياسة خارجية مرنة وفعّالة.
سياسة خارجية متعددة المستويات
تقوم السياسة الخارجية لتركيا في القرن المقبل على التدرّج في التخطيط من المستوى الوطني إلى المستوى العالمي، والتعامل مع المشكلات من منظور شامل من خلال معالجتها بطريقة متكاملة مع الاستراتيجيات الأمنية والدفاعية والاقتصادية. وينبغي تخطيط السياسة الخارجية حسب خمس مستويات استراتيجية. على المستوى الوطني، يجب أن يكون المستوى الأول من خارطة الطريق المشتركة تركيز جميع مؤسسات الدولة على تحقيق نفس الهدف الاستراتيجي، أي أنها تحتاج إلى “استراتيجية كبرى”. والهدف من المستوى الأول من السياسة الخارجية بناء هيكل دولة فعال ودائم يضمن الأمن الداخلي المطلق، ويردع ويمنع التهديدات ضد حدودها، ويخلق رؤية فعالة ودائمة ومؤسسية تركز على السياسة الخارجية العالمية.
يشمل المستوى الثاني من السياسة الخارجية دول الجوار. لابد أن تولي السياسة الخارجية لتركيا أولوية للاستقرار الإقليمي، وتضع الآليات الدبلوماسية الثنائية في مركز حل الأزمات، وتفعّل الآليات الدبلوماسية متعددة الأطراف لحل المشاكل متعددة الأبعاد. وينبغي أن تستمر تركيا في تنفيذ سياسة أمنية نشطة تعزز أمن الحدود وتحارب الإرهاب وتحافظ على حقوقها السيادية. في هذا السياق، هناك عدد قليل من ملفات السياسة الخارجية من بين القضايا ذات الأولوية على المدى القصير.
يجب على تركيا تبني سياسة تقوم بالدرجة الأولى على حماية وحدة أراضي سوريا والعراق، والقضاء على التنظيمات الإرهابية في هذين البلدين، وإرساء الاستقرار الشامل في العراق. ويجب على تركيا الاستمرار في إعطاء الأولوية لاستقرار المنطقة، ودعم عملية الاستقرار الجارية بعد الصراع في المناطق الآمنة (الشمال السوري)، ومنع ظهور حركات هجرة جديدة، وتنفيذ آليات أكثر فاعلية من شأنها تسهيل عودة طالبي اللجوء الخاضعين لوضع الحماية المؤقتة في تركيا، إلى أن يتم التوصل إلى حل شامل في سوريا. ينبغي متابعة السياسات التي تضمن مستقبل المناطق الآمنة وتقوي البنية التحتية الإدارية والسياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية. على تركيا أيضًا مواصلة تعاونها مع إيران في العديد من المجالات، لا سيما العلاقات الاقتصادية، دون التغاضي عن حقيقة كون إيران منافسا إقليميًا محتملا.
لا شك أن الخطوات الأخيرة لليونان، بما في ذلك مسألة بحر إيجة، ستُلقي بظلالها على الحقبة الجديدة. لذلك، يجب أن تكون تركيا منفتحة على جميع أنواع المفاوضات الدبلوماسية على المستوى الثنائي فيما يتعلق بحل المشاكل الإقليمية الناشئة من بحر إيجه والجرف القاري وتسليح الجزر والمجال الجوي وما إلى ذلك. لابد أن يكون السلام خيار تركيا وليس الصراع مع أخذ الحيطة والاستعداد لاتخاذ أي خطوات مضادة إذا استمرت اليونان في تعريض أمن تركيا للخطر. وتظل الأولوية الرئيسية لتركيا حماية حقوقها السيادية وتعزيز أمنها.
في الآونة الأخيرة، أصبحت المنافسة على الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط من بين القضايا ذات الأولوية في المستوى الثاني من السياسة الخارجية لتركيا. تقف تركيا ضد أي خطوة تنتهك حقوقها وحقوق جمهورية شمال قبرص التركيّة بشأن موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وعلى تركيا دعم جميع أنواع الأسس الدبلوماسيّة والسياسيّة والاقتصاديّة القائمة على نظام مستقر ومشاركة عادلة وشراكة متعددة الأطراف في شرق البحر الأبيض المتوسط.
تعتبر تركيا الحرب الدائرة في أوكرانيا أحد أكبر المخاطر الي تهدد الاستقرار الإقليمي والعالمي. قبل الحرب، ساهمت تركيا بنشاط في تنفيذ حل دبلوماسي من خلال بذل قصارى جهدها في الآليات الثنائية والمتعددة الأطراف لمنع الحرب. بعد اندلاع الحرب، كانت تركيا الدولة الوسيطة الوحيدة التي أنتجت حلاً فعالاً جمع طرفي النزاع، ومهد لتنفيذ اتفاقية ممر الحبوب واتفاقية تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا. ينبغي أن تكون أولوية تركيا التوسط لإيقاف الحرب في أسرع وقت ممكن، والضغط على روسيا للانسحاب من الأراضي الأوكرانية المحتلة، ثم إبرام اتفاق شامل على أساس دبلوماسي، مع الاستعداد لأي سيناريو يتعلق بحرب أوكرانيا.
يندرج استقرار جنوب القوقاز في قلب السياسة الخارجية والأمنية لتركيا، تمامًا كما هو الحال في المناطق الأخرى. على تركيا أن تواصل دعم تحرير أذربيجان لأراضيها المحتلة وتوطيد السلام من خلال اتفاق شامل. ويجب أن تلعب دورًا نشطًا في بناء السلام والازدهار الإقليمي من خلال توطيد علاقاتها مع دول الجوار وتسريع عملية التطبيع الجارية مع أرمينيا.
تشكل المناطق الجغرافية المجاورة المستوى الثالث من سياسة تركيا الخارجية. يجب أن يكون هدف تركيا في هذه المناطق تعميق نشاطها الدبلوماسي وتعزيز مكاسبها والمساهمة في إقامة نظام مستقر على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية. إن هدف تركيا في المناطق الجغرافية المجاورة في المقام الأول هو بناء هيكل أمني إقليمي على أسس متينة لضمان الاستقرار الإقليمي وزيادة التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني. لذلك، تنظر تركيا إلى علاقاتها مع أوروبا باعتبارها قضية استراتيجية يترتب عنها مواصلة المشاركة في العمليات الاقتصادية الثنائية ومتعددة الأطراف في سياق تعميق العلاقات الاقتصادية. وعلى هذا النحو، يجب أن يكون هدف تركيا أن تصبح لاعباً اقتصادياً فعالاً من خلال تعزيز مكانتها الاقتصادية في أوروبا.
ستظل تركيا جزءًا قويًا وفعالًا من هيكل الأمن والدفاع الأوروبي، لا سيما في سياق التصور الجديد للمخاطر والتهديدات الذي ظهر مع الحرب الروسية الأوكرانية. لا يمكن ضمان الأمن والاستقرار في أوروبا دون مشاركة كاملة من تركيا، التي ينبغي أن تستمر في تقديم جميع أنواع الدعم لإقامة سلام شامل ومستدام في المنطقة باستخدام الآليات الدبلوماسية متعددة الأطراف التي اعتمدتها حتى الآن بشكل أكثر فعالية لضمان الاستقرار في البلقان والقضاء على الأسباب المحتملة للصراع.
بإنشاء منظمة الدول التركية، توطّدت العلاقات التاريخية والثقافية لتركيا مع منطقة آسيا الوسطى على المستويين الدبلوماسي والاقتصادي، واكتسبت طابعًا مؤسسيًا. وفي فترة المنافسة الاقتصادية المتزايدة، ستنفذ تركيا جميع أنواع الآليات التي من شأنها تنويع الأدوات السياسية والعسكرية لتعزيز عمقها الجيوسياسي في آسيا الوسطى. لذلك، يجب على تركيا أن تستمر في تقاسم المكاسب والقدرات في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية مع دول المنطقة.
تغطي المنطقة التي تشكل المستوى الرابع من سياسة تركيا الخارجية مساحة أوسع. يعد المستوى الاستراتيجي الرابع، الذي يشمل مناطق مثل إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، من بين الأولويات الدبلوماسية والاقتصادية لتركيا لجعلها جهة فاعلة عالمية. هدف تركيا في إفريقيا هو مساعدتها على التغلب على التحديات التي تواجهها من خلال توسيع شبكتها الدبلوماسية وتقوية أسس الشراكة مع الدول الأفريقية على محور التعاون الإقليمي في سياق استراتيجية ”الربح للجانبين”، مما يعزز مكانتها الرائدة في مجال المساعدات الإنسانية.
أما المستوى الخامس الذي يجب أن تركز عليه رؤية السياسة الخارجية المستقبلية لتركيا، فهو النظام العالمي المكون من جهات فاعلة ومؤسسات عالمية. تبذل تركيا جهودًا مكثفة لإصلاح النظام العالمي لسنوات عديدة. ولن يكون حلّ العديد من المشاكل العالمية ممكنًا إلا من خلال إنشاء هيكل حوكمة عالمي سليم وشفاف وفعال وخاضع للمساءلة ومتعدد الأطراف. يجب أن تستمر تركيا في التعبير عن اقتراحها لإصلاح الأمم المتحدة في جميع البيئات الدولية، وتصر على تحقيق توافق جديد في الآراء بشأن إصلاح الأمم المتحدة وتنفيذ حزمة إصلاح جريئة.
حتى تصل تركيا إلى مكانة القوة العظمى في القرن الجديد للجمهورية، عليها أن تجعل ضمن أولوياتها تطوير خارطة طريق شاملة في سياستها الخارجية والاستثمار في عناصر القوة المادية التي من شأنها تعميق استقلاليتها وتخطيط جميع السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية بما يتماشى مع هذا الهدف. بمثل هذا التخطيط سيكون بناء تركيا كقوة عظمى في القرن المقبل ممكنًا.
المصدر: كريتر