تكاد لا توجد أمّتان يتشابك تاريخهما وتتلاقى ثقافتهما كما هو الحال بالنسبة إلى العرب والأتراك، ورغم ذلك يتعلم الأطفال العرب في المدارس أن العثمانيين كانوا محتلين ظالمين، ويتعلم أطفال الأتراك أن العرب خانوا الإمبراطورية العثمانية وتعاونوا مع الإنكليز ضد الأتراك، لكن شواهد التاريخ تحكي غير هذا.
فأجساد الشهداء من مواليد حلب وإدلب موجودة في أقصى غرب تركيا شاهدة على تضحياتهم في حرب الاستقلال، وآثار العثمانيين ومآثرهم في مدن الشرق تحكي قصة دولة عظمى جمعت عشرات المُلَل والأعراق تحت راية واحدة، وأن دمشق لم تكن مدينة محتلة بل كانت “شامًا شريفًا”.
يمكن القول إن العلاقات الاستراتيجية بين العرب والأتراك بدأت في معركة طلاس عام 751م، حين تعاون العباسيون مع القبائل التركية ضد التوسُّع الصيني، ثم تسلّم الأتراك مناصب عالية في الدولة العباسية، وتعلموا اللغة العربية، كما قدّموا بالمقابل إسهامات فكرية وثقافية وعسكرية للحضارة الإسلامية.
بعد ذلك، ومع ظهور الدولة العثمانية واستلامها زمام الأمور، سيطر الأتراك على الشام ومصر والعراق وصولًا إلى الجزيرة العربية عام 1510، وكانت الدولة العثمانية تمثّل الخلافة الإسلامية ولم تكن النزعات القومية قد ظهرت بعد.
الوجود العربي في تركيا
وجدَ عرب تركيا أنفسهم تحت حكم الجمهورية التركية بعد معاهدة لوزان، حيث أدّت اتفاقية ترسيم الحدود إلى شطر القبائل العربية إلى نصفَين، أحدهما يقع داخل حدود تركيا والآخر ضمن أراضي الدولة السورية.
وفي عام 1939 ضمّت تركيا لواء إسكندون إلى أراضيها أيام الاحتلال الفرنسي لسوريا، وسُمّيت “محافظة هاتاي” التي تضم عدة أعراق، هم العرب والأتراك والشركس والأكراد مع أقلية من الأرمن.
يبلغ عدد العرب أكثر من 7 ملايين إنسان، وبذلك يشكّلون العرقية الثالثة في تركيا من حيث العدد، ويتركزون في المناطق الشرقية والجنوبية من تركيا مثل أضنة وماردين وغازي عنتاب وباطمان وسرت وعثمانية وموش وبيتليس وكلس، إضافة إلى وجودهم في مدن رئيسية مثل إسطنبول وأنقرة ومرسين لتأثُّرهم بالهجرات الداخلية مثل بقية الأتراك.
يتبع أغلب العرب الموجودين في تركيا الدين الإسلامي والمذهب السنّي في أغلب المناطق، أما في إقليم هاتاي فأغلب العرب من الطائفة العلوية.
العرب في مرحلة ما بعد الجمهورية
تعرّضت الثقافة واللغة العربية للتهميش، شأنهما شأن بقية الثقافات واللغات التي كانت موجودة في فترة الحزب الواحد في تركيا، ولم يحظَ أبناء العرب بتعليم أبنائهم اللغة في المدارس بل تعلموا التركية فقط بدلًا منها، وكانت الطريقة الوحيدة لتعلم اللغة العربية في تركيا هي الدراسة في أقسام اللغة العربية وآدابها.
كان للعرب واللغة العربية خصوصية في العهد العثماني، لاعتبارات دينية ولارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم والعلوم الإسلامية، بينما عملت سلطة أتاتورك على فصل الإسلام (ديانة الأتراك) عن العرب بتغيير الحروف التركية من العربية إلى اللاتينية، حتى كلمات الأذان أصبحت باللغة التركية.
على مدى سنوات طويلة من الحكم القومي، كان عرب تركيا الضحية الأولى لخطاب الكراهية الذي دعمته وغذّته مؤسسات الدولة، وانتشرت صورة قاتمة لـ”العرب” في المجتمع التركي مليئة بالجهل والخيانة والتخلُّف، ونشأت أجيال مثقلة بشعور الضحية.
أصوات العرب الانتخابية
رغم عددهم الكبير، إلا أن عرب تركيا غير ممثلين بما يتناسب مع حجمهم في تركيا، وأدّى وجودهم في المناطق الشرقية، حيث يغلب الطابع الكردي، إلى إضعاف تمثيلهم وتأثيرهم.
بحسب مقال لمحمد الخان، نائب سابق عن حزب العدالة والتنمية – هاتاي، هناك 3 اتجاهات للسلوك الانتخابي لعرب تركيا، القائم عمومًا على تصويت العرب السنّة لتحالف الشعب والخط القومي، وتصويت العلويين العرب لحزب الشعب الجمهوري واليسار بشكل عامّ:
1- الاتجاه السياسي العام للعرب الذين يعيشون في مناطق ذات أغلبية كردية هو التقرُّب من أطروحة الدولة ضد الهيمنة الكردية.
2- الاتجاه العام بين العرب في تركيا هو التقرُّب من الحركة القومية من أجل منع الإقصاء والحرمان من “الهوية التركية”.
3- التقرُّب من الاتجاهات السياسية العلمانية الكمالية واليسارية ضد البنية السنّية بين العرب العلويين.
تقرير عن “عرب صاصون”
عرب تركيا واللاجئون السوريون
بعد الأحداث المأساوية التي أعقبت الثورة السورية عام 2011، لجأ ملايين السوريين إلى تركيا، وبدأت موجات الهجرة بعائلات قطعت الحدود لتصل إلى برّ الأمان عند أقاربهم في الطرف الآخر.
وجد السوريون في المحافظات الحدودية حياة وطبيعة تشبهان ما تركوه وراءهم في سوريا، وقيل إن غازي عنتاب هي توأم مدينة حلب، إضافة إلى معرفة غالب السكان باللغة العربية كلهجة محكية على الأقل.
لكن الصراع الطائفي في سوريا انعكس أيضًا على علاقة اللاجئين بعرب تركيا، فبينما كان اللاجئون موضع ترحيب من العرب السنّة بصفتهم الإنسانية وعلاقات القربى والنسب، كان موقف العلويين سلبيًّا واتخذ طابعًا طائفيًّا، إذ ينظر فريق منهم إلى النظام السوري كمخلّص ومنقذ للطائفة.
مثّل وصول ملايين السوريين إلى تركيا، مع الانفتاح الذي أظهرته الحكومة التركية تجاه الأقليات والتعددية الثقافية في تركيا، إضافة إلى نهج الدولة التركية الجديد في إحياء العلاقات مع العالم العربي والانفتاح على الشعوب العربية وثقافتها؛ فرصةً ثمينة لتصحيح المفاهيم بين الأتراك والعرب، ورأب الصدع وإعادة الاتصال الثقافي والتاريخي بين الأمّتَين.
لكنْ بعد أكثر من 10 سنوات على الهجرة السورية والتماسّ الجديد بين العرب والأتراك، يبدو أن المجتمع التركي شديد الانقسام في نظرته تجاه العرب، وذلك لتأثير الواقع الاقتصادي المضطرب واستغلال قضية اللاجئين في الصراع السياسي، إضافة إلى تناقض الرواية العثمانية والأتاتوركية تجاه العرب.
حصل عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين على الجنسية التركية، قسم كبير منهم يقيم في المحافظات الجنوبية وخاصة في إقليم هاتاي، واتُّهمت الحكومة التركية بالتغيير الديموغرافي في تلك المنطقة، إذ كان أغلب المجنّسين المقيمين في هاتاي من العرب السنّة.
وبينما يقول عرب تركيا إنهم أتراك من أصول عربية، يعرّف اللاجئون أنفسهم كسوريين حاملين للجنسية التركية، ويبدو من المبكّر الحكم على مدى اندماجهم معًا وتشكيل مجتمع متجانس بهوية مشترَكة.
Lübnan’da yaşayan Mardinlilerin hikayesini anlattığımız “Beyrut Rüyası” belgeselimizi huzurlarınıza sunuyoruz. Benim de biraz kendimi ve ailemi anlattığım bir belgesel oldu. Elden ele yayalım. https://t.co/IOtrEXiyb9
— Mehmet Algan م (@alganmehmett) September 14, 2018
-فيلم وثائقي عن عرب ماردين “حلم بيروت”-
الثقافة العربية
أثّرت الهجرة العربية والاهتمام العربي بتركيا مؤخرًا بشكل إيجابي على إحياء الثقافة العربية، خاصة في مدن الجنوب التركي التي أصبحت هدفًا للمؤسسات الثقافية والأدبية، وقصدَها العديد من الشعراء والأدباء العرب.
وكانت الحكومة التركية قد افتتحت جامعة ماردين أرتوقلو عام 2007، وتتميز بوجود عدد من الاختصاصات التي تدرَّس فيها باللغة العربية بشكل كامل.
يظهر تأثير المطبخ العربي بشكل واضح على المدن ذات الحضور العربي، في كثرة استخدام البهارات والفلفل الحار، وفي صنع المخللات وتحضير مونة الشتاء، مثل تجفيف البازلاء والباذنجان وصنع صلصة الفليفلة الحمراء.
أيضًا يظهر في تفضيل استخدام لحم الضأن والأغنام على سواها من اللحوم، وفي الواقع إن أي زائر لتركيا سيجد تشابهًا كبيرًا في أسماء الحلويات والطعام بين الأتراك والعرب، لكن ما سبق ذكره هو بعض ما يميّز طعام المدن الجنوبية.
بالمحصلة، مثّل وجود العرق العربي في المناطق الحدودية مع تركيا بلسانهم العربي الثقيل عامل “أمان” لللاجئين السوريين وسهل عليهم القيام بشؤون حياتهم اليومية والحصول على عمل متجاوزين عائق اللغة، لكن هل سيتمكن المجنسون الجدد من الاندماج الصحي مع المجتمع الجديد ويكونوا جزءًا من “العرق العربي” في تركيا؟