مرة أخرى، يعود “التطبيع الناعم” الذي تقوده الإمارات مع الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من سنتين إلى الواجهة، حيث تتخذ أبو ظبي نفسها دليلًا لتعريف العالم بـ “إسرائيل الدولة الصديقة” أكثر، تتبوأ هذا المكان طواعية منها، متجاهلةً خيانتها لدمٍ فلسطيني وعروبة ما عادت تذكر إلا في أمنيات الشعوب.
وليس من الصحيح القول هنا، إن الإمارات عادت لتطرق باب التطبيع بعد فترة ركود، فهي ما تركته يومًا لتعود إليه، بل إنها، وبينما حاربت الأصوات الرافضة للتطبيع داخليًا، كانت تتجول في البلدان العربية تستقطب مشاهير العرب لتمنحهم جنسياتها الذهبية، وتمرر من خلالهم مشاريعًا ترويجية للاحتلال.
آخر ما نظمته الإمارات، بتمويل من أكاديمية الإعلام الجديد “نيو ميديا” التي أنشأها حاكم إمارة دبي محمد بن راشد في يونيو/حزيران 2022، مؤتمر يضم نحو 3000 مشهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي من مختلف أنحاء العالم، نسبة كبيرة منهم مشاهير عرب، أطلقت عليه “مؤتمر المليار متابع” أو “ون بيليون 1B”.
بوابة التطبيع الناعم
من المعروف في العلوم الإنسانية أن الدهاء ليس أن توجه رسالتك بشكل مباشر، بل أن تمررها مبطنةً بما يريد أن يسمعه من يقابلك، أن تسمع أذنه وترى عيناه ما يريد، وتمرر لعقله ما تريد أنت، وهو ما يسمى “هندسة الجمهور” في الخطاب والإعلام. ولمّا كان المؤثر يعلم يقينًا أنه سيفقد رأس ماله – متابعيه – إذا صنع محتوى يتجاوز خطوطهم الحمراء، فكيف إذا كان متابعوه عربًا، وروج مباشرة للاحتلال الإسرائيلي أو حتى انتقص من حق الفلسطيني في المقاومة؟
من هنا، أدركت “إسرائيل” أن سياستها التطبيعية المباشرة مع حكام العرب لا تقنع الشعوب، ولا تفتح لها قلوبهم، بل هي بحاجة لتغلغل سلس، تدعي فيه المثالية والغياب عن المشهد الإجرامي، وأنها إن لم تستطع استقطاب العرب نحوها، فيمكنها على الأقل أن تزعزع إيمانهم بالقضية الفلسطينية، فأوجدت “التطبيع الناعم”، وكان مشاهير ومؤثرو العالم الرقمي البوابة لذلك.
لتحقيق ذلك، نظم الصندوق القومي اليهودي ووزارة خارجية الاحتلال حملةً دعائيةً يقودها مجموعة من نشطاء شبكات التواصل الإسرائيليين ممن أجروا جولات سياحية، تتركز مهمتهم في الرد على المنشورات المعادية لـ”إسرائيل”، وتخفيض العداء لها، في محاولة لاستقطاب مستخدمي المنصات الرقمية، وتحديدًا تطبيق تيك توك، وإقناعهم بالتطبيع.
ووفق تقرير موقع زمن العبري، فإن مجموعة من “المحاربين الرقميين” كما يصف الاحتلال، تتكون من 16 مؤثرًا إسرائيليًا لديهم متابعون بعدد إجمالي يصل إلى 32 مليونًا، سافروا في جولاتهم السياحية بتمويل من الصندوق القومي اليهودي – كاكال، ليروجوا لـ”إسرائيل” في الفضاء الرقمي، بعدما اهتزت صورتها إبان النجاح الهائل للرواية الرقمية الفلسطينية في أحداث مايو/أيار 2021.
فتح الاحتلال بعدها الباب لتدريب مزيدٍ من المؤثرين، وبحسب موقع والا العبري، فإن أحد شروط قبول هؤلاء المؤثرين، أن يكون لديهم بين 10 آلاف حتى 500 ألف متابع، وألا يتعاملوا مع القضايا السياسية أو الأمنية خلال نشاطهم عبر الشبكات الاجتماعية، وإنما إنتاج محتوى في مجالات الكوميديا والسياحة والرياضة والطعام والموسيقى الخاصة في “إسرائيل”.
نصير ياسين وحملاته الإعلامية المضللة
قبل أن يظهر التطبيع الإماراتي مع الاحتلال إلى العلن، بدأ الاهتمام الإماراتي بالفضاء الرقمي والمؤثرين فيه، وعليه روجت الإمارات نفسها كوجهة لكثير من صناع المحتوى، وسهلت وصولهم وإقامتهم، ومنحتهم امتيازات اقتصادية ورحلات مجانية، وسخرتهم لتنفيذ دعايات لشركاتها وحكومتها وسياستها.
مؤتمر المليار متابع الذي رعته الإمارات وأكاديمية “نيو ميديا” مؤخرًا، جاء بدعوةٍ من ناس ديلي ونصير ياسين (عراب تطبيع المؤثرين مع “إسرائيل”) الذي يحاول من خلال محتواه تصوير الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي صراعًا متكافئ القوة، وأن المعضلة الكبرى انتهت بعد النكبة الفلسطينية، وحان وقت التعايش والسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويذهب لأبعد من ذلك، في تحميل الفلسطيني الملامة لمعاناته أنه – أي الفلسطيني – ما رضي السلام وأصر على المقاومة.
بالتزامن مع توقيع اتفاقيات أبراهام التطبيعية بين البحرين والإمارات و”إسرائيل” برعاية أمريكية في سبتمبر/أيلول 2020، بدأت الأنظار تتجه إلى نصير ياسين وبرنامجه “ناس ديلي”، الذي أعلن عن انطلاق برنامج تدريبي يهدف إلى تدريب 80 صانع محتوى عربي من خلال “أكاديمية ناس” التي تضم إسرائيليين ضمن طاقم الإشراف والتدريب الذي يرأسه الإسرائيلي جوناثان بيليك، وبتمويلٍ من أكاديمية “نيو ميديا”.
حينها، دعت “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” المعروفة عالميًا بـBDS، صانعي المحتوى الرقمي والمؤثرين في المنطقة العربية إلى مقاطعة برنامج “ناس ديلي المقبل” The Next Nas Daily، مشيرة إلى أنه يهدف إلى توريطهم في التطبيع مع الاحتلال والتغطية على جرائمه، داعية المشاركين في أكاديميته إلى الانسحاب.
توضح حركة المقاطعة بوضوح السياسة الإماراتية الإسرائيلية في قضية المؤثرين، بقولها: “في الوقت الذي تهرول فيه الأنظمة العربية الاستبدادية، مثل الإمارات والبحرين، لعقد اتفاقيات التطبيع الخيانية مع العدو الإسرائيلي، يحاول الأخير اختراق وعي الشعوب العربية المؤمنة بأن تحررها وتقدمها ونضالاتها من أجل العدالة مرتبطة بحرية الشعب الفلسطيني وعودة لاجئيه إلى ديارهم، فإسرائيل تنفق مبالغ هائلة على حملات إعلامية تطبيعية مضللة من خلال نشر محتوى (غير سياسي) يُظهر إسرائيل كأنها دولة طبيعية متطورة يمكنها مساعدة (جيرانها) العرب بعيدًا عن كل جرائمها ضد الشعب الفلسطيني والأمة العربية والعداء التاريخي معها كنظام استعماري وعنصري”.
وبشكلٍ مؤسف، وبينما كان الأمل في المؤثرين العرب، وبعض الفلسطينيين منهم تحديدًا، أن يكونوا بمقدار من الوعي لاستدراك خطورة ما يحاك لهم، ونوايا الاستثمار في حساباتهم ومتابعيهم على حساب جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحقهم كعرب وفلسطينيين، إلا أن نسبةً منهم هرولت إلى مؤتمر المليار متابع، لتشارك فيه وقد تلقوا دعوة من نصير ياسين، وإن كان أكثرهم قد بصموا سابقًا على السير حذو الإمارات، فإن المؤتمر تساقطت به أقنعة جديدة وقعوا عن قصدٍ أو غير قصد في مصيدة التطبيع.
التبرير الذي ساقه البعض، بأن المشاركة كانت لإيصال رواية فلسطين، يدينهم ولا يبرئهم، فهم ذاتهم الذين احتفلوا سابقًا برفض أحرارٍ من العالم التطبيع الرياضي والثقافي مع الاحتلال، وانسحابهم من الفعاليات التي حضر فيها إسرائيليون. والمراهنة في سياق التبريرات، أننا بحاجة لنُسمِع صوتنا للمجتمع الدولي، قد سقط، بعدما سكت المجتمع الدولي أجمع عن حجم الجرائم الإسرائيلية، وبعدما سمح بالأساس باحتلال إسرائيلي لفلسطين.
والحضور في هذه اللقاءات ترويجًا لـ”إسرائيل” أو بمشاركة معها، تعطي الحجة الجاهزة للعالم و”إسرائيل” أن الفلسطينيين والاحتلال بإمكانهم العيش بسلام، والأكيد أن مساعي الإمارات في استنساخ إماراتٍ صغيرة في فلسطين، مطبعة ترضى بالاحتلال، لن تفلح، لا رقميًا ولا واقعيًا.