أكثر ما كان يخشاه المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، من تصاعد حدة الاحتجاجات الحالية في إيران، أن يواجه أصواتًا رافضة لحكمه من داخل الدائرة الضيقة لنظامه، إلا أنه كان على ما يبدو متفائلًا بعض الشيء، خصوصًا أن الانتقادات جاءت من داخل عائلته هذه المرة، ما شكّل بدوره تهديدًا حقيقيًّا لمدى قدرة خامنئي على ضبط إيقاع المفاجآت الأخرى التي قد تأتي في المرحلة المقبلة، فبعد الانتقادات الشديدة التي وجّهتها فائزة هاشمي رفسنجاني، ابنة الرئيس الإيراني الأسبق، والتي حمّلت خامنئي والحرس الثوري مسؤولية سوء الأوضاع في إيران، جاءت تصريحات شقيقة خامنئي لتزيد من جراحات المرشد، وهو يسابق الزمن لإنهاء الاحتجاجات.
انتقدت بدري حسيني خامنئي، المقيمة في إيران، المؤسسة الدينية منذ عهد الخميني مؤسّس الجمهورية الإسلامية حتى حكم شقيقها، وكتبت في الرسالة التي نشرها نجلها محمود مرادخاني على حسابه في تويتر: “أعتقد أنه من المناسب الآن أن أعلن أنني أعارض تصرفات أخي، وأعبّر عن تعاطفي مع كل الأمهات اللاتي يبكين بسبب جرائم الجمهورية الإسلامية، منذ عهد الخميني إلى عصر الخلافة الاستبدادية الحالي”. وأضافت أن على الحرس الثوري والمرتزقة التابعين لعلي خامنئي، إلقاء أسلحتهم في أسرع وقت ممكن، والانضمام إلى الشعب قبل فوات الأوان.
بدأت الفجوة بين خامنئي وشقيقته بالتصاعد منذ الأسبوع الماضي، بعد أن تمَّ إلقاء القبض على ابنة شقيقته إثر استدعائها من قبل مدّعي عام الثورة في طهران، على خلفية نشرها مقطع فيديو على موقعها في تويتر، تطالب فيه المجتمع الدولي قطع العلاقات مع النظام الإيراني، وإدانة ما يرتكبه من جرائم ضد المحتجين.
تحولات خطيرة
يجدُ النظام الإيراني نفسه في نهاية عام 2022 في مواجهة تحدٍّ مصيري، في ظل استمرار احتجاجات غير مسبوقة في مدتها ومضمونها منذ نحو 3 أشهر، كسرت محرّمات وزعزعت ركائز الجمهورية الإسلامية العقائدية، ورغم أن إيران شهدت احتجاجات في السابق، لكنّ الحركة الحالية غير مسبوقة لناحية مدّتها واتّساع نطاقها على صعيد محافظات البلاد، والطبقات الاجتماعية والمجموعات الإثنية، كما المطالبة العلنية بوضع حدّ للنظام الديني، فقد أُحرقت صور لخامنئي، وسارت نساء في الشوارع من دون غطاء على رؤوسهن، كما سُجّلت صدامات بين متظاهرين وقوات الأمن.
وليس هذا فحسب، بل أخذت العديد من الشخصيات البارزة في البلاد، والتي التزمت الصمت منذ بدأ الاحتجاجات، تعلن مؤخرًا عن موقفها الداعم لها، والرافضة لسلوكيات النظام، وتحديدًا عندما تأتي من شخصيات ذات ثقل كبير داخل النظام، إذ أعرب الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي البالغ 79 عامًا، عن تأييده الحركة الاحتجاجية، ووصف شعار “امرأة… حياة… حرية” (أبرز هتاف يردّده المحتجون) بأنه “رسالة رائعة تعكس التحرّك باتجاه مستقبل أفضل”، وقال في بيان له عشية إحياء مناسبة “يوم الطالب”: “يجب ألا يتمّ وضع الحرية والأمن كل في مواجهة الآخر”، وأضاف: “يجب ألا يُداس على الحرية من أجل المحافظة على الأمن… وينبغي عدم تجاهل الأمن باسم الحرية”.
الأخطر من كل ما تقدم يتمثل في أنه بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية البقاء يتفوق على الأيديولوجيا، إذ أشارت قضية حلّ شرطة الأخلاق مؤخرًا إلى فجوة كبيرة تعانيها مؤسسات النظام، إذ لا يملك المشرّعون الشجاعة لتغيير قانون الحجاب، لكن النظام توقف عن تطبيقه لبعض الوقت، بسبب الاحتكاك غير العادي الذي سبّبه بين الدولة والمجتمع، وذلك ما يفسر أيضًا تحديد الحرس الثوري وحلفاؤه السياسيون أن شرطة الأخلاق هي سبب الاحتجاجات المستمرة، ودعوا إلى تفكيكها.
كانت هذه الخطوة بمثابة أول محاولة علنية للحرس الثوري لإبعاد نفسه عن رجال الدين الشيعة الذين لا يحظون بشعبية، إذ يحاول الحرس الثوري شراء نفسه لمدة 10 سنوات على الأقل في السلطة، إذا تمكّن من مزج الإسلام السياسي بالقومية، ورفع الغطاء عن بعض رجال الدين الشيعة، وتطهير البقية من السياسة، وتزويد الطبقة الوسطى بالحريات الشخصية (وإن لم تكن الحريات السياسية).
وفي حين أن ديكتاتورية الحرس الثوري تسمح بتجارة المخدرات وموسيقى الروك، ومن المرجّح أن ترضى غالبية الإيرانيين على الخطوة الأخيرة، إلا أن أقلية من المحتجين ستظل مصرة على تحقيق نجاحات أخرى على صعيد الحريات السياسية التي لن يسمح بها الحرس الثوري على الأغلب.
تساؤلات مهمة
إن التساؤل المهم الذي يُطرَح اليوم داخل أروقة النظام الإيراني، يتمحور حول الكيفية التي سيتعامل بها خامنئي مع الأصوات القادمة من داخل النظام، في مشهد يتكرر مرة أخرى بعد 42 عامًا من عمر الجمهورية الإسلامية.
في السنوات الأولى لقيام الجمهورية ومن ثم اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، تعالت الأصوات حول جدوى استمرار الحرب مع العراق، ما اضطر بالخميني إلى سجن ونفي البعض، وفرض الإقامة الجبرية على البعض الآخر، العديد منهم شخصيات بارزة في النظام والدائرة المحيطة به، في مقدّمتهم الرئيس الإيراني الأسبق أبو الحسن بني الصدر الذي هرب إلى فرنسا، ونائب القائد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله حسين علي منتظري، الذي فُرضت الإقامة الجبرية عليه حتى وفاته.
ورغم أن خامنئي قد مارس هذا السلوك أيضًا مع بعض أقطاب النظام، ومنهم مير حسين موسوي رئيس الوزراء السابق، ومهدي كروبي أحد أقطاب التيار الإصلاحي، إلا أن هذا لا يمنع من أن يكرر هذا السلوك مرة أخرى، خصوصًا أنه سيكون مضطرًّا لاحتواء خطورة انتشار الأصوات المنتقدة لنظام حكمه، خشية أن يؤدي ذلك إلى تفكُّك نظامه من الداخل، في الوقت الذي ما زالت فيه الاحتجاجات متواصلة.
والأكثر من ذلك، يشير هذا الواقع إلى أن مرحلة ما بعد خامنئي ستكون حافلة بالتحديات الداخلية، إذ تدل تصريحات شقيقته وموقف خاتمي وسلوك الحرس الثوري، على أن الفرضية التي تتحدث عن رغبته بتوريث الحكم لابنه مجتبى خامنئي لن تمرّ بسهولة، أو على الأقل كما يخطّط له، بل ستثير حفيظة الأصوات الأخرى التي ما زالت صامتة داخل النظام، والتي قد يؤدي وفاة خامنئي إلى تعالي مواقفها الرافضة، بل إلى مزيد من التآكُل داخل نظام بدأ يواجه اليوم تحديات من داخله، أخطر من تلك القادمة من خارجه.