بدأت الأصوات ترتفع في تونس منادية بضرورة التجميع ضد الانقلاب، فقد انعقدت يوم السبت (3 ديسمبر/ كانون الأول) ندوة سياسية تكلّم فيها الأستاذ عياض بن عاشور وآخرون، وكانت كلمة السر فيها التجميع ضد الانقلاب قبل أن يهلك البلد.
كما تنادت المعارضة بشقَّيها إلى التظاهر يوم السبت (10 ديسمبر/ كانون الأول) تحت شعارات تجميع المعارضة، وهذه علامات وعي بأن الانقلاب باقٍ يهلك الحرث والنسل إن لم يحشد الجميع ضده، وهو وعي ينبني على فشل ما سبق من تحركات المعارضة وانكشاف عجزها. غير أننا وإن أكبرنا هذا الوعي، واعون أن هناك خطابًا يتغطى بحذلقات لغوية تتهرّب من حقيقة فاجعة، وهي أن هذه المصالحة مغشوشة. نحاول وصف وتحليل ما نرى ونسمع.
حديث المراجعات
نذكر أن خطاب مساندة الانقلاب قبل حدوثه وبعده انطلق من سردية (صنعها ورسّخها إعلام معادٍ للثورة وللديمقراطية) أن السنوات العشر قبله كانت خرابًا وفشلًا مطلقَين (هذه المقدمة)، وأن الفشل العام سببه وجود حزب النهضة في الحكم (هذا الجوهر)، وأن الخروج من الفشل يبدأ باستبعاد حزب النهضة ومحاسبته (هذه الخاتمة).
وفي بداية تحول المساندين إلى المعارضة، صار الخطاب يدور حول إجبار النهضة على تقديم نقد ذاتي واعتذار وتحمُّل مسؤولية الفشل، دون بقية من شارك في السلطة طيلة العشرية، مع حتمية عدم مشاركتها في أي عمل سياسي مستقبلًا، ولم يقُلْ أي من المساندين بضرورة أن يقدّم الجميع نقده الذاتي أو أن يعتذر.
هذا الخطاب لا ينتبه إلى تناقضه الداخلي، إذ ما جدوى اعتذار النهضة إن كان احتمال العمل معها ملغى مسبقًا؟ ماذا سيبنى على مثل هذا الاعتذار؟
بعد الاستفتاء (صيف 2022)، وبعد أن يقن جميع الطيف السياسي والنقابي المساند أو نصف المعارض أن الانقلاب لن يمكّنهم ممّا يطلبون، ارتفعت الأصوات أكثر بالمعارضة دون التخلي عن السردية التي يدان فيها حزب النهضة، وتوسّعت الإدانة إلى مكونات جبهة الخلاص التي تتحالف مع النهضة.
وما سمعناه في ندوة السبت وما نتابعه من دعوات للتظاهر لا تزال تراوح في مكانها (على حزب النهضة وحده أن يعتذر)، ولا يمكن التظاهر معه في الشارع نفسه، لكن رغم ذلك يعلو الحديث عن التجميع ضد الانقلاب؟ من هنا بدأ الغش والتلبيس السياسي، ومن هنا نقول إن حديث التجميع كاذب ومنافق ولن ينتج أي أثر على الانقلاب.
وَهْم المصالحات المغشوشة أخطر من الانقلاب
لقد بحثتُ طويلًا عن توصيف الخطأ الذي على حزب النهضة أن يعتذر عنه، فتوصّلت إلى أن على الحزب أن يعتذر من هؤلاء المعارضين عن وجوده على سطح الأرض. ومن عجيب ما قرأت أن الكثير من السياسيين ينكرون على الحزب خضوعه للابتزاز النقابي، ولكنهم في الوقت ذاته واقفون مع النقابة وينسّقون معها ويعتبرون كل ما فعلته من إضرابات وتخريب وابتزاز عملًا نضاليًّا.
وقد روّج آخرون، خاصة حزب عائلة عبو، أن النهضة سرقت تونس وأفلستها، لكنْ لا الحزب ولا محاموه ولا أي من الطيف السياسي الذي يروّج التهمة قدّم أي ملف للقضاء، وقد خرج النهضويون من كل الملفات أنقى ممّا دخلوا، لكن خطاب عبو (الذي يرشح نفسه لقيادة المعارضة بعد أن قاد المساندة) لم يتغير.
يبني هذا الطيف السياسي محتكر الديمقراطية والتقدمية سرديته حتى الآن على أن وجود الحزب هو الخطيئة، وهم لا يراجعون هذا الموقف، لذلك حديث التجميع والمصالحات حديث مغشوش يهدف إلى نقل فشل المعارضة على النهضة ليس أكثر. إنه تنصُّل من مسؤولية مساندة الانقلاب ومن مسؤولية بقائه.
سيعلنون قريبًا الفصل الثاني من السردية بعد مظاهرة 10 ديسمبر/ كانون الأول، وهو أن النهضة التي لا تريد أن تسير وراءنا وتخضع لشروطنا بتحمل مسؤولية كل ما سبق الانقلاب، وحدها هي المسؤولة عن بقاء الانقلاب وعن الأزمات التي يخلقها لأنها لم تقدّم نقدها الذاتي لمرحلة ما قبل الانقلاب، لتتم معارضة الانقلاب بوجوهنا وبجمهورها الصامت من خلفنا. لذلك نقول إن هذا الخطاب غير جدّي ولا يمكن البناء عليه ولا التعاون مع من يردده، وهو في العمق يسخر من التونسيين ويحتقر ذكاءهم، ويواصل دعم الانقلاب فعلًا تحت غطاء التظاهر ضده.
لو كنت ناصحًا للمعارضة الصادقة..
إن النصيحة الوحيدة التي أوجّهها لمن يعارض الانقلاب جادًّا غير هازل ولا منافق، ألّا يضع يده في يد الطيف الذي يسمّي نفسه ديمقراطيًّا، وفي مقدمته حزب التيار. إن خطاب التجميع خطاب طيب لكنه خطاب غبي، وأرجّح أنه خطاب شرير ومنافق أيضًا ما لم ينهِ بصوت صريح كل حذلقة استئصالية.
نرجّح أن لن يحصل تجميع إلا بعقل استئصالي، أي أن نعود إلى مربع ما كان قبل الانقلاب، حيث حزب النهضة وجمهوره مطالَبان بملء الشارع (أو ملء الصندوق الانتخابي) ثم تسليم السلطة لمن لا يمكنه أن يجمع 10 أشخاص حول طاولة مقهى. جمهور طيب عندما يصوّت لنا وهو جمهور سيّئ عندما يصوّت لنفسه أو يملأ الشارع مطالبًا بحقه في المشاركة. لكن ماذا سينتج عن تشتُّت المعارضة؟
ستكون هناك معارضة صادقة قادرة على البقاء، لأن موقفها الأخلاقي والسياسي من الانقلاب كان صوابًا منذ الساعات الأولى، وأخرى كاذبة استئصالية وضعيفة تتلاشى بسرعة، بحيث سيحملها الانقلاب معه عندما يسقط ونرجّح أنها ستندثر قبله.
هذه النصيحة مبنية على ملاحظة مهمة. خطاب التجميع ينطلق من شعور بالخطر الوجودي. فالمعارضة أو الحزيبات انتبهت أخيرًا أنها تموت، فجمهورها القليل انفضَّ من حولها وخبا بريقها الذي صنعه إعلام معادٍ للثورة وللديمقراطية.
لم يعد لهذه الأحزاب جدوى، وفي المقابل حزب النهضة لم يتلاشَ ولم يتّسخ بأية جريمة ممّا نُسب إليه، وهو الحزب الوحيد الباقي في مشهد ما بعد الانقلاب ولو دام الانقلاب سنوات أخرى. باختصار، هذه الحزيبات تموت بسرعة وغريمها النهضوي باقٍ وقد يتمدد.
أختصر بأن أي تعاون سياسي مع هذه الحزيبات (الميتة فعلًا) بمنطق التجميع هو مد يد الإنقاذ لها لتعاود سيرتها الاستئصالية الأولى، وهو عملية غش للديمقراطية في المستقبل. ونكتب الآن بوعي أن أكبر حماقة سياسية قد يرتكبها حزب النهضة (صاحب الجمهور الفعّال) هي أن يتعاون مع هذا الطيف الفاشل. إن التجميع ضد الانقلاب دون استصدار موقف غير استئصالي هو خيانة للمستقبل.