تعتبر الدعاية النازية في كل مستوياتها، واحدة من أنجح وأقوى التيارات الدعائية على الإطلاق، خصوصًا في تعاطيها مع السينما كأداة توجيه لأفكارها، ويمكننا رصد النقلة النوعية التي أحدثتها السينما الألمانية في ذلك الوقت، من خلال جودة بعض المنتجات الفنية، خصوصًا في شقها التقني، حيث لا تتوقف عند المنظور الدعائي، بل تتخطاه في نزعة فنية للتجديد والابتكار السينمائي، تتآلف مع الصبغة الدعائية وتتناسب مع الظرف السياسي والاجتماعي، لكنها بطبيعتها المتجددة تتجاوز الزماني وظروفه، بيد أننا على أي حال يجب أن نضعها في سياقها الزماني لنتعرّف أكثر إلى المنهجية النازية الدعائية.
تختلف المنهجية النازية الدعائية عن منهجية لينين والبلاشفة، رغم اتفاقهما على الحيثيات اللوجستية والوسائل الدعائية، إلى جانب اهتمامهما الشديد بالسينما كأداة فعّالة لتنفيذ الخطة الدعائية، بيد أن النموذجَين يختلفان في تعريف النمط الفكري السائد الذي يأخذ سكًّا دعائيًّا، وبالتالي يختلفان في التعاطي مع الفئة المستهدفة.
تميل الدعاية النازية إلى صيغة أبسط وأشد مباشرة من الدعاية البلشفية التي تعتبَر بسيطة في الأساس، غير أن النازيين لم يهتموا بالمستوى الفكري قدر اكتراثهم بإيصال رسالة مباشرة وغير قابلة للتأويل، منظومة قيمية قاطعة ودعاية موجّهة وصريحة إلى منظومة فكرية واجتماعية معيّنة، فحرص هتلر وأعوانه تجنُّب النهج المتعدد في عرض الرؤى والأفكار، بحيث لا يحمل الكلام أكثر من معنى، أشبه بالإعلانات الترويجية للمنتجات التجارية، واضحة وموجَّهة.
عواطف الجماهير
أراد هتلر أن يوجّه خطابه لكافة الطبقات، فاعتمد على خطاب متدنٍّ فكريًّا خلال طرحه للأيديولوجيا الدعائية، فالمرتبة العلمية أو التعقيد الفكري لا يساهمان في نجاح الخطاب الدعائي من وجهة نظره، بل اللعب على عاطفة الجماهير يحفّز حضورهم.
اقتنع هتلر بقوة الجماهير وتدنّي ذكائهم على حد سواء، واعتقد أن قدرتهم الهائلة على النسيان تأتي من طبيعة أنثوية حيث تؤثر العاطفة على الإدراك العقلي المنطقي، وبناءً عليه فضّل تأسيس منهجيته الدعائية على المباشرة والوضوح ثم العاطفة الإنسانية، ففلسفة هتلر ذاتها وطريقة رؤيته للعالم تقومان على النموذج القيمي الكلاسيكي للخير والشر، الفضيلة والخطيئة، لذا كان من السهل تحديد مجموعة من الأخيار المختارين، ومجموعة من الأشرار الفاسدين بشكل مطلق، بحيث لا وجود للرمادي أو للحلول الوسطى.
قدّس هتلر الماضي الألماني، وحقّر من الحاضر المتدني، نظر إلى الماضي الأسطوري واستحضر روح العصور الوسطى التي حقق فيها الفولك (Volk) الألماني ذاته ووجوده، واهتمَّ بالعرق كمدخل ووسيلة لاستحضار الماضي واستعادة الأمجاد، فعلى مرّ السنين استبدل المجتمع الألماني القيم العرقية والاجتماعية الأصلية، حين كان يعيش الفرد الألماني النقي في انسجام مع الطبيعة، بيد أن المؤسسات والأنظمة وعمليات التحديث الاقتصادي والاجتماعي استبدلت الخصائص السائدة بقِيَم السوق.
وضع هتلر اليهود في مركزية خطته، كمسؤولين -من وجهة نظره- عن انهيار المنظومة القيمية والمجتمع السائد، حيث قاموا بهدم التقاليد الألمانية الأصلية، وبالنسبة إلى الفولكيش (Volkisch) كان اليهود نقيضًا للفولك -الأفراد- الألمان، كان الفولك مستقرّين فيما تجوّل اليهود دون جذور، ينزع الفولك إلى الروحانية بينما كان اليهود ماديين، انتمى الفولك إلى الريف وحياة الطبيعة فيما انحطَّ اليهود بانحطاط المدينة، تغلغل اليهود بشكل هائل وعميق داخل المجتمع الألماني، وهو بالنسبة إلى هتلر ما أضعفَ الشعب الألماني.
لم يكن هناك سبيل بالنسبة إليه سوى إبادتهم داخليًّا ثم مواجهتهم خارجيًّا، لقد شيطنَ هتلر اليهود، وضعهم في خانة الأعداء المتطرفين، ولا يوجد حلّ وسط سوى التخلُّص منهم، واقتلاعهم من جذور الشجرة كما كان يُقال، وساد المفهوم الراديكالي ألمانيا كدستور وعُرف، ليتحوّل إقصاء اليهود إلى المرادف للعودة واستعادة القوة والمجد القديم.
إلى جانب ذلك، كانت ألمانيا فايمار بالنسبة إليه تمثل النقيض التام للقيم الألمانية الحقيقية، لذا كان عليه الإطاحة بها للبدء بتطبيق منهجيته بشكل جدّي، بالإضافة إلى اليهود الخارجيين الذين شكّلوا خطرًا خارجيًّا، بمناصبهم البنكية والاقتصادية المتحكّمة في الاقتصاد العالمي، ما يشكّل خطرًا اقتصاديًّا، إلى جانب البلاشفة الذين يشكّلون خطرًا عسكريًّا رادعًا.
أقحم هتلر اليهود داخل كل البنى الممكنة كمخرّبين وشياطين، وضع أفكاره المتطرفة في قوالب دعائية مباشرة، بيد أنه نجح مع صديقه المخلص بول يوزف غوبلز -وزير الدعاية في ألمانيا النازية- في التحايل على هذه الأفكار ودمجها بهموم وإشكالات معاصرة لدى الشعب الألماني بكافة طبقاته.
استثمرا في غضب واستياء الطبقة العاملة من السلطة وتراكم ثروات الطبقة التجارية والأرستقراطية وأصحاب المصانع خلال النظام الرأسمالي، بادّعاء أن الإشكالية لا تنبع من المصرفيين والمموّلين والمستثمرين المحليين في البلد، بل من المؤامرة العالمية التي يدبّرها اليهود من المصرفيين والمستثمرين.
كما استغلّا القلق السائد في قلب الطبقة الوسطى خوفًا من صعود الاشتراكيين، بادّعاء أن المشكلة ليست في الاشتراكيين بل في الماركسية اليهودية العالمية، وزعم أن اليهود من تسبّبوا في الكساد، وغيرها من الادّعاءات التي تغذّي تيارًا ووجهة معيّنَين، حاول هتلر من خلال إعادة هيكلة القيم الألمانية تحويل الشعب إلى أمّة مقاتلة، وهذا ما كان يتطلبه الأمر.
محطات
قدّمت السينما الألمانية فرصة رائعة للنظام النازي، خصوصًا مع تدرُّجها الطبيعي في فترة الحرب العالمية الأولى وما قبلها نحو نماذج أفضل على المستوى المحلي، ومع اضطراب حركة التجارة العالمية، وانتعاش السوق السينمائي المحلي، وإنتاج عدد أكبر من الأفلام التي وُزّعت داخليًّا، لتساهم الحالة الداخلية وميل النظام إلى استغلال السينما كوسيلة دعائية لتأسيس كيان إنتاجي شديد الأهمية خلال الحقبة النازية، هو شركة يونيفيرسال فيلم (Universum Film AG (UFA)) في نهاية عام 1917، لتبدأ بعدها المنظومة النازية في فرض أنساق وإنتاج أعمال تروّج لأفكارها في مخطط أكثر حيوية وشمولًا.
لقد خلقت الشركة محاكاة لأنظمة الاستوديوهات الأمريكية، وجمعت عددًا من شركات الإنتاج والتوزيع والمعارض لتحقيق تكامل رأسي غير مسبوق في المنطقة الأوروبية، تزامنًا مع ضخّ رؤوس أموال عامة وخاصة لدعم الصناعة، استثمرت الشركة جزءًا كبيرًا من رأس المال الجديد في بناء استوديوهات جديدة في نيوبابيلسبيرغ.
لم تكن تلك الاستوديوهات مؤثرة في النسق الدعائي الخاص بالحرب العالمية الأولى، لكنها وضعت السينما الألمانية في موقف قوي ومميز في فترة ما بعد الحرب، مقارنة بالدول المجاورة التي تعاني من الأضرار في البنية التحتية، ما يحتّم خلق صناعة جديدة، وفي فترة ما بعد الحرب هيمنت شركة UFA على صناعة السينما الألمانية، لتسيطر بعدها بوقت قصير على صناعة السينما الأوروبية ككل.
والحقيقة أن ريادة السينما الألمانية وجودتها وتفرُّدها لا ينبع من الآلية الإنتاجية أو البنية التحتية، بقدر ما يرجع إلى رؤية صانعي السينما الألمان، وقدرتهم المدهشة على الإبداع، بداية من دراما الأزياء التاريخية الضخمة “آنا بولين” عام 1920 للمخرج إرنست لوبيتش، مرورًا بصناعة وخلق علامات التعبيرية الألمانية السينمائية، أبرزها فيلم الرعب “كابينة الدكتور كاليغاري” عام 1920 للمخرج روبرت فيين.
في ذلك الوقت حظت السينما الألمانية بقدرة مذهلة في الحفاظ على قدرتها الإنتاجية وحالتها الاقتصادية كصناعة، دون الانهيار الفني في معايير الجودة الإبداعية، لدرجة وصلت إلى بيع منتجاتها الإبداعية خارج البلاد، لتضمن عوائد مادية مرتفعة داخليًّا وخارجيًّا.
قدّمت السينما الألمانية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى عام 1924، نموذجًا مدهشًا على مستوى حركة وحجم وجودة الإنتاج، يضاهي في قوته نموذج الإنتاج في هوليوود، ويتجاوزه من حيث الجودة والمعايير الفنية، بيد أن الأمور لم تَسِرْ على ما يرام بعد ذلك، حيث اختال المنتجين بأنفسهم، وأدّت ثقتهم في مشاريعهم إلى حصر أنفسهم في إنتاجات شديدة الضخامة وقتها، في نزعة طموحة لتحطيم كل شيء معهود، ويقول نيكولاس ريفز حول هذه النقطة في كتابه “قوة الدعاية السينمائية، الحقيقة والخيال”:
فيلم “كابينة الدكتور كاليغاري” عام 1920 للمخرج روبرت فيين
“ثقة المنتجين وإلزام أنفسهم بمشاريع أكثر طموحًا وتكلفة إنتاجية ولّدت مشكلات جزئية، بيد أن جوهر الوضع المتغير هو انعكاس للوضع الاقتصادي السابق. استقرار العملة الألمانية الجديد أدّى إلى إزالة المزايا الخاصة التي كانت تتمتّع بها الصناعات القائمة على التصدير، وفي التفاوض على خطة دوز (خطة في عام 1924 لحلّ قضية تعويضات الحرب العالمية الأولى التي كانت مطلوبة من ألمانيا) التي أعادت تحديد مستوى التعويضات الألمانية بعد الحرب وساعدت في دعم الاستقرار الاقتصادي الجديد، أصرّت القوى الغربية (خصوصًا الأمريكيين) على خفض كبير في صادرات ألمانيا وانفتاح أكبر للسوق الألمانية على الواردات الأجنبية”.
مكملًا: “رأت هوليوود على الفور فرصة لشلّ منافسها الأساسي، وغمرت الأفلام الأمريكية السوق الألمانية. أفلست العديد من شركات الإنتاج الألمانية الصغيرة، حتى مؤسّسة UFA كانت على وشك الانهيار بحلول نهاية عام 1925. إلا أن اثنين من الاستوديوهات الأمريكية (باراماونت ومترو غولدن ماير) تدخّلا بعد أن وافقا على دعمها في الديون مقابل الاستفادة من الاستوديوهات ودور السينما والموظفين الخاصين بها، وخدمت الصفقة الشركات الأمريكية بقوة وضخّت عددًا كبيرًا من صانعي الأفلام الألمان للعمل في هوليوود. أظهرت صفقة باروفاميت (Parufamet) (اسم شركة التوزيع الألمانية التي تمَّ تأسيسها بين استوديوهات الأفلام الأمريكية والألمانية) بعبارات لا لبس فيها، مدى هيمنة هوليوود على السينما العالمية، بعدما قضت على منافسها الرئيسي”.
لكن الصفقة لم تَنشُلْ شركة UFA من الضياع، واستمرت في الانحدار مع ارتفاع الديون، كان يجب الحصول على مصدر دعم جديد يضخّ أموالًا كافية، ما تحقق في رجل الأعمال ألفريد هوغنبرغ، الذي امتلك بالفعل إمبراطورية وميلًا واضحًا إلى الدعاية والإعلام والسينما، ليمنح الشركة قرضًا ثم يبتاع حصة الاستوديوهات الأمريكية بعد ذلك ليصبح رئيس الشركة عام 1927، ويتحول بعدها بعام إلى قيادة حزب الشعب الوطني الألماني.
وفي لحظة تحولت شركة الإنتاج الألمانية الأقوى إلى وحدة مكرّسة لأجندة قومية متطرفة، استفاد النازيون من تلك النقطة، وحقّقوا شهرة وانتشارًا عن طريق الأفلام الإخبارية (Newsreels)، إلى جانب ضمان النازيين وجود العديد من صنّاع السينما إلى جانبهم عند الانقلاب.
تطوّرت السينما الألمانية في ظل ظروف وأنساق اجتماعية وسياسية وتطورات تاريخية وعسكرية معقّدة، ورغم وجود عدد قليل من المخرجين المعارضين لسياسة النازيين القومية المتطرفة، فقد عيّنت الشركة الكثير من المخرجين الذين تقبّلوا تلك السياسة، حتى لو على مضض، وبحلول عام 1933 كان العديد من صانعي الأفلام الألمان بالفعل متعاطفين على نطاق واسع مع الأيديولوجيا النازية، يصف المؤلف نيكولاس ريفز تلك الفترة في كتابه:
“وصل النازيون إلى السلطة في ظروف كانت أكثر ملاءمة من ذلك، لأنه بحلول عام 1933 سقطت الصناعة في أزمة كبرى، جعلت من السهل على النظام الجديد إقامة علاقة ناجحة مع الصناعة. نتجت الأزمة عن الكساد والتكلفة العالية لإدخال تكنولوجيا الصوت الجديدة داخل السينما، وبين عامَي 1928 و1932 انخفض عدد إجمالي الأفلام الصادرة من 224 إلى 132؛ وهبط العائد المادي من 274.9 مليون مارك إلى 176.4 مليون مارك؛ وانحدر الجمهور السنوي من 352 مليونًا إلى 238 مليونًا”.
مردفًا: “كان الوضع خطيرًا عام 1932 لدرجة أن شركة UFA وحدها من حققت ربحًا إجماليًّا، فيما أفلس ما لا يقلّ عن 59 شركة أفلام أخرى. في مثل هذه الحالة، إن الحكومة التي اتخذت خطوات إيجابية لاستعادة هذه الصناعة التي كانت ناجحة في وقت ما، ستحصل بالتأكيد على دعم حماسي”.
كانت الشركات الكبيرة هي المستفيد الأساسي من السياسة النازية، وفي المقابل تعاونت في تحقيق رؤية غوبلز للسينما في الرايخ الثالث.
في ذلك الوقت، وعلى مستوى الصناعة، حدثت انقسامات داخلية، بسبب تكوّن جبهتَين من المفترض أن تديرا الصناعة، هما مؤسّستان مختلفتان على كل المستويات، في توجهاتهما السياسية وأهدافهما الاقتصادية والأنظمة الإنتاجية التي تعملان عليها، الأولى هي Spitzenorganisation der Deutschen Filmindustrie (SPIO) المملوكة من قبل شركة UFA، والثانية هي جمعية مالكي السينما الألمانية، التي تمثل عددًا هائلًا من دور السينما الصغيرة والمتوسطة التي تعاني من الإفلاس والتدهور الاقتصادي، لذا كلا المؤسستَين تمثلان جبهة ذات خصوصية وتخدم طبقة اجتماعية مختلفة على كل المستويات.
هيمنت SPIO على أذرع الصناعة، لكن لا يمكن لجبهة أن تعمل وتنجح دون الأخرى، ومن الانفصال وتضارب المصالح تدهورت العلاقة، لدرجة استبعاد ممثلي الجمعية SPIO، وعندما وضعت هيئة SPIO مخططًا لإعادة صناعة السينما ألقت اللوم على مالكي السينما كجزء كبير من الأزمة الحالية للصناعة.
وفي مخطّطها ذكرت أن السبيل للخروج من المأزق، هو تخفيض عدد دور السينما بمقدار 2/5، مع دمج الجمعية وSPIO في بيروقراطية واحدة، وطبعًا كل هذه الشروط أغضبت جمعية مالكي السينما، ما جعلهم يميلون إلى الاشتراكيين الوطنين، بيد أنه خلال سنة واحدة، في مارس/ آذار عام 1933، استحوذ فصيل نازي بقيادة أدولف إنجل أخيرًا على المنظمة، وأصبح غوبلز بين خيارَين كلاهما صعب، كيف ينمو بالصناعة: هل يموّل الشركات الضخمة التي تهيمن بالفعل على الصناعة، أم يموّل السينمات الصغيرة والمتوسطة؟
عندما خاطب غوبلز ممثلي صناعة السينما، حرص بشدة على إبداء صورة معاكسة عن السائد، فالجميع كان قلقًا من كون النازيين على وشك الشروع في برنامج جذري لإعادة هيكلة صناعة السينما، والحقيقة أنه يمكن تفسير الخطاب ببساطة على أنه تصريح مطمئن في ظلّ صناعة تتصارع بقلق مع أزمة اقتصادية خطيرة، لكن إذا دققنا النظر، سنلاحظ أن الخطاب مبطن بقبول مبدئي من غوبلز للتحالف مع SPIO والمؤسسات الكبرى.
في الأشهر القليلة التالية، حلَّ غوبلز النقابة العمالية الصناعية ((DACHO) The industry’s trade union)، وتبنّى أحد مقترحات SPIO المتعلقة بإنشاء بنك خاص بالأفلام (Film Credit Bank) لتوفير رأس مال متجدد لتمويل الأفلام، وبعدها خفّض ضريبة الترفيه على متوسط أرباح الأفلام من 11.5% إلى 8%، ثم أنشأ غرفة أفلام الرايخ (Reichsfilmkammer – Reich Chamber of Film)، وهي مؤسسة تعمل تحت إشراف وزارة التنوير العام والدعاية، ذات عضوية إلزامية لكل شخص في الرايخ الألماني يريد العمل على الأفلام بأي صفة.
وقد أوجدَ هذا مساحةً لتواجُد الجميع دون مشكلات، ليتم التخلُّص بحركة واحدة من المعارضة، ووضع الجميع تحت إشراف مؤسّسي نازي، وفي الوقت نفسه تكتسب جمعية مالكي السينمات إلى جانبها، بيد أن غوبلز قصد بهذه التنازلات والصلاحيات -بشكل غير مباشر- خدمة المؤسسات الكبيرة والنظام النازي.
قبل عام 1933، مثّلت الشركات الصغيرة والمتوسطة حوالي 60% من الأفلام المعروضة في السوق، بحلول عام 1934-1935 انخفض هذا الرقم إلى النصف، حوالي أقل من 30%، وبحلول عام 1935-1936 انخفض إلى أقل من 20%.
بحلول ذلك الوقت، سيطرت 4 شركات فقط على السوق (UFA وTobis وBavaria وTerra)، حيث سيطرت شركتا UFA وTobis وحدهما على ما لا يقلّ عن 60% من إجمالي إنتاج الأفلام الألمانية، وكانت الشركات الكبيرة هي المستفيد الأساسي من السياسة النازية، وفي المقابل تعاونت في تحقيق رؤية غوبلز للسينما في الرايخ الثالث.
تجلّت الدعاية السينمائية كتمظهرات لأبعاد وخواص أيديولوجية في حقبة الرايخ الثالث، كثّفت النشرات المرئية اهتمامها على صورة هتلر على المستوى البصري والنفسي.
في ذلك الوقت، بدأت الأيديولوجيا في إحكام قبضتها بشكل كامل على الصناعة، وممارسات عملية إقصاء ممنهَجة وشديدة التطرف لليهود وغيرهم من مخالفي المعايير داخل الصناعة، قائمة على عدة إحصاءات مزيّفة بالغت في رصد عدد اليهود العاملين في السينما لإقناع وتطويع جبهة وضمير الجمهور لوجهة معيّنة.
لقد فرض غوبلز نظامًا رقابيًّا نازيًّا داخل الصناعة، وأعلن صانعو الأفلام البارزون علنًا التزامهم بالاشتراكية القومية، وشجّعوا تبليغ النظام عن أي شخص أصوله العرقية “مشبوهة”، حتى النجوم المرموقين لم يكونوا محصّنين من التحقيقات.
في حين أن كل هذا يمثل بداية مهمة غوبلز، إلا أن طموحاته كانت تتطلب اتخاذ المزيد من الإجراءات، وجاء قانون Reich Cinema الصادر في فبراير/ شباط 1934، والذي فرض رقابة أكثر صرامة على كل مرحلة من مراحل عملية الإنتاج، حيث تمَّ دمج مكتبَي الرقابة المستقلَّين في فايمار في مكتب واحد، داخل مؤسسة غرفة الأفلام النازية، وأصبحت كل الأفلام تخضع للرقابة، وأضحت الصناعة تسير وفق معايير وسياق معيّنَين، ويرصد الكتاب هذه النقطة:
“قواعد فايمار حالت دون حظر فيلم للاتجاهات السياسية أو الاجتماعية أو الدينية أو الأخلاقية أو الأيديولوجية، بل تمارَس الرقابة فقط عندما يكون الفيلم يهدد النظام والأمن العامَّين…أو يعرّض صورة ألمانيا أو علاقتها بالدول الأجنبية للخطر، بموجب قانون السينما لعام 1934 يمكن حظر فيلم إذا: قد يعرّض مصالح الدولة أو النظام العام أو الأمن للخطر، أو يسيء إلى الروح القومية الاشتراكية أو الدينية أو الأخلاقية أو الفنية، أو أن يكون له تأثير وحشي أو غير أخلاقي، أو يعرّض مكانة ألمانيا وعلاقاتها للخطر مع دول أجنبية”.
الزعيم الأوحد
حاول النظام النازي تمرير منهجيته الدعائية للجمهور في أكثر من طبقة ومرحلة، أولًا خلق تمثيلات تتماهى مع أدولف هتلر باعتباره الإله والقائد الأعلى؛ ثانيًا محاولة إرساء طبقة من معاداة السامية والتطرف ضدها بين الجمهور، الأمر الذي من شأنه أن يدعم ويحثّ على وجود أنشطة سياسية معادية للسامية؛ ثالثًا محاولة تغيير الموقف السائد تجاه ما أطلق عليه النازيون برنامج “القتل الرحيم”، الذي هو عملية قتل إجباري واسعة في ألمانيا النازية استهدفت المرضى النهائيين وذوي الإعاقات والاحتياجات الخاصة من بين السكان الألمان؛ وأخيرًا محاولة خلق وإعداد تمثيلات خاصة للحرب، قبل الحرب وأثنائها.
حاول النازيون زرع مفاهيم جديدة داخل المجتمع، وإمحاء الذاكرة الجمعية بحيث يصبح الحالي هو السائد، كان الشعب ينظر إلى الفوهرر (كلمة ألمانية تعني القائد) بطبيعة بريئة وثقة ساذجة وطفولية، لقد تغلغلت الدعاية إلى أعمق طبقات النفس، في كل شيء حولهم، نمت شعبية هتلر بسرعة مرعبة، وأضحى الشعب يثق في حكمة هتلر حتى لو قادهم إلى الجحيم، وظلت هكذا حتى تغيّرت الأمور بعد الحرب، خصوصًا بعد هزيمة ستالينغراد في فبراير/ شباط 1943.
تجلت الدعاية السينمائية كتمظهرات لأبعاد وخواص أيدلويوجية في حقبة الرايخ الثالث، كثّفت النشرات المرئية اهتمامها على صورة هتلر على المستوى البصري والنفسي، لدرجة أن شريطًا للأخبار يخلو من صورة الفوهرر لم ينظر إليه، لأنه يخترق المعايير السائدة.
إلى جانب الإصدارات المرئية الدورية، لعبت عدة أفلام سينمائية دورًا مهمًّا في نشر الأيديولوجيا بشكل أشد حدّة وأكثر اشتباكًا من الناحية البصرية وتأثيرًا من الناحية النفسية، وتعتبر المخرجة ليني ريفنستال من أهم مروّجي الايديولوجيا النازية من خلال صنع أفلام دعائية ذات جودة ومنهج ونسق بصري يتفوق على نظائرها من ناحية البروباغندا.
ففيلمها “انتصار الإرادة (Triumph of the Will)” عام 1935، خلق نسقًا دعائيًّا مكثفًا يصدّر النازيين الألمان كشعب ومؤسسة لا يقهران، ومن الصورة يمكن أن نلتقط العاطفة التي تودّ تصديرها المخرجة، عاطفة التجدُّد ومشاعر الوحدة ومنطق القوة؛ إلى جانب فيلمها الأقدم “انتصار الإيمان (The Victory of Faith)” عام 1933، الذي يحتفي بالقيادة والنهج الهتلري، بالإضافة إلى بعض الأفلام الروائية التي غذّت الرؤية النازية وزعامة هتلر بشكل غير مباشر، مثل فيلم The Ruler عام 1937 من إخراج فايت هارلان، الذي يحمل أوجه تشابه كثيرة مع التوجُّه السائد، ليعزز فكرة تجسيد هتلر للتقاليد التاريخية الألمانية.
كانت أغلب الأفلام تتمحور حول فكرة الزعيم الأوحد العظيم الذي يتجاوز الصعاب ويتحدى الخصوم وينتصر عليهم، أفلام حول أوتو فون بسمارك مثل Die Entlassung عام 1940، وفيلم “الملك العظيم (The Great King)” عام 1942 عن فريدريك العظيم، حتى في آخر شهور الحرب أصدر غوبلز فيلمًا دعائيًّا جديدًا من شأنه رفع معنويات الشعب الألماني بعد الانحدار والهزيمة، وهو Kolberg عام 1945 من إخراج فايت هارلان، الذي شارك بأفلامه في نسبة كبيرة من الخطة الدعائية غير المباشرة.