لا تزال أصداء زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية تخيم على الأجواء لما تمثله من أهمية كبرى في مسار العلاقات الصينية العربية، وما تحمله من رمزيات ودلالات بشأن مستقبل المنطقة وخريطة التحالفات، بجانب تداعياتها على موقع الولايات المتحدة وتموضعها الشرق أوسطي.
الزيارة التي تستمر لثلاثة أيام (7-9 ديسمبر/كانون الأول)، والمقرر أن تشهد ثلاث قمم (سعودية – خليجية – عربية) والمتوقع أن تسفر عن توقيع 30 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة 110 مليارات ريال، وتشمل مجالات الطاقة والكهرباء والمياه والبنية التحتية والصناعات الثقيلة والخفيفة والمتوسطة والتكنولوجيا والذكاء الصناعي، لا شك أنها ستحدث نقلة نوعية في النفوذ الصيني بالمنطقة العربية.
تراقب واشنطن عن كثب تلك الزيارة وما تبعث به من رسائل مباشرة وغير مباشرة، ربما تهدد مصالحها ليس في الشرق الأوسط فقط، لكن في مسارات التماس والتقاطع مع حلفاء واشنطن القدماء، خاصة دول الخليج النفطية، ممن كانوا في السابق حائط الصد الأبرز للدفاع عن المصالح الأمريكية وقت الأزمات، وأداتها الناجعة في مواجهة خصومها من المعسكر الشرقي.
في هذه المادة نطوف على جناح السرعة حول خريطة النفوذ الصيني في المنطقة العربية، وكيف تحول العرب إلى هدف صيني قومي، ليس في مواجهة الأمريكان فحسب، لكن بصفتهم ممول الطاقة الأول لبكين، وهو السلاح الذي يراهن عليه الصينيون في توسعة رقعة نفوذهم على حساب خصمهم التقليدي الذي يعاني خلال السنوات الأخيرة.
الصين.. من الأيديولوجية إلى البراغماتية
مرت العلاقات الصينية العربية بثلاث محطات أساسية تعكس التغير الواضح الذي شاب التوجهات السياسية لأنظمة الحكم المتعاقبة على حكم بكين، التي تباينت في أيديولوجياتها ومعتقداتها السياسية وتستمد جزءًا كبيرًا منها من نزعتها القومية المتأصلة التي كانت الوقود الأبرز للثورة الصينية والتحرر.
المحطة الأولى: “ماو تسي تونغ” (حكم الصين خلال الفترة 1949 – 1950)، حيث تبنى الزعيم الصيني ومفجر الثورة الأول سياسية أيديولوجية بحتة في تعامله مع الدول، تتحدد وفق العلاقات مع موسكو وواشنطن، كان باعثها الأول أن من كان من خصومنا فلن يكون معنا يومًا ما، حتى لو اضطر الأمر إلى غلق الباب أمام الجميع، لذا كانت بكين تدعم في ذلك الوقت حركات التحرر الوطني لمكافحة الاستعمار كما حدث في مصر والجزائر التي اعترفت الصين باستقلالها عام 1962 وكانت أول بلد غير عربي يعترف بذلك.
المحطة الثانية: “دنغ شياو بينغ” (حكم خلال الفترة من 1978 – 1992)، وجدت الصين في سياستها الأيديولوجية التقليدية معرقلا كبيرًا لنهضة البلاد وتطورها، كما أنها زادت من خصوماتها وعداءاتها مع الجميع، لذا رأي بينغ وهو الصديق المقرب لماو أنه من الأفضل الاهتمام بالبعد الاقتصادي في التعامل مع الدول وأن تُنحى السياسة جانبًا، فالدول التي لم تكن على وفاق مع بكين سياسيًا لا يتم غلق الباب معها بالكلية، ليكون الباب الاقتصادي هو البديل بما يخدم مصالح الصينيين، ورغم أن تلك النقطة كانت خلافية مع ماو لكن بينغ أصر على تنفيذها، وبالفعل نجحت الصين في تحقيق طفرة اقتصادية هائلة بسبب هذا التغير الواضح في التوجهات، وبدأت في تعزيز تعاونها مع الدول العربية على وجه الخصوص.
خلال تلك المرحلة بدأت الصين في إقامة علاقات دبلوماسية مع دول الخليج، البداية كانت مع قطر والبحرين عامي 1988 و1989 على الترتيب، ثم السعودية عام 1990، وبعد الثورة الصناعية الصينية والاحتياج الكبير للطاقة حتى أصبحت بكين إحدى الدول المستوردة للنفط رغم أنها من كبار منتجي العالم، كانت منطقة الخليج الملاذ الآمن للصينيين لتأمين تلك الاحتياجات.
المحطة الثالثة: “شي جين بينغ” (يحكم منذ 2013 وحتى اليوم)، منذ تولي بينغ السلطة وهو يسعى لترسيخ أقدام بلاده في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، تارة عبر بوابة السياسة المستترة من خلال نوافذ جانبية كروسيا وإيران، وتارة أخرى عن طريق الاقتصاد الذي تحول إلى الطريق الأسرع والأنجز لتعزيز التعاون الصيني العربي.
وحرصت بكين في عهد بينغ – وبمنطق براغماتي بحت – على تجنب المسارات الصدامية مع الأنظمة العربية، فجنبت الملفين السياسي والحقوقي من خريطة علاقاتها مع بلدان المنطقة، ووضعت الاقتصاد أرضية مشتركة للالتقاء بما يخدم مصالح الجميع، وهي الإستراتيجية التي فشلت فيها الولايات المتحدة، فيما وجد العرب في الصين ضالتهم المنشودة، وعليه فتحوا أسواقهم للاستثمارات الصينية الهائلة التي وجدت أرضية مهيأة للنمو والتعاظم في غضون سنوات معدودة.
خريطة الاستثمارات عربيًا
منذ عام 2012 دخلت الصين عصر الشراكات الإستراتيجية مع الدول العربية، البداية كانت مع الإمارات ثم قطر والجزائر ومصر في 2014، تلاها العراق والأردن في 2015، ومن بعدهم المغرب والسعودية في 2016 وهو العام ذاته الذي أبرمت فيه شراكة إستراتيجية مع إيران.
قفزت العلاقات الاقتصادية الصينية الخليجية بصورة هائلة خلال السنوات الأخيرة، خاصة السعودية التي أصبحت الصين شريكها التجاري الأول بمعدل تجارة بينية وصل إلى أكثر من 65 مليار دولار عام 2020 بزيادة سنوية قدرها 15%، وهو أكثر من 3 أضعاف حجم تجارة المملكة مع الولايات المتحدة والبالغ 20 مليار دولار عن العام ذاته وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي.
تعاظمت حجم الاستثمارات الصينية على المسار ذاته في الخليج بصورة كبيرة خلال السنوات الخمسة الأخيرة، فلم تعد محصورة في مجال الطاقة فحسب، لكنها تداخلت في الكثير من مجالات البنية التحتية والتكنولوجيا، إذ بلغ إجمالي تلك الاستثمارات في السعودية 43.4 مليار دولار، وفي الإمارات 36.1 مليار دولار، وفي الكويت 11.7 مليار دولار، وفي قطر 7.8 مليار دولار، وفي عُمان 6.6 مليار دولار وفي البحرين 1.4 مليار دولار، كما أن هناك دولًا عربية أخرى حاذت نصيب الأسد من الاستثمارات الصينية من غير الخليج على رأسها العراق بإجمالي بلغ 30.05 مليار دولار.
وفي 2017 منحت الهيئة السعودية العامة للاستثمار تراخيص استثمار لأربع شركات صينية لتتصدر الصين المرتبة الأولى من بين الدول المرخص لها بالاستثمار في المملكة، وفي العام التالي مباشرة أطلق البلدان مشاريع بقيمة 225 مليار ريال سعودي تشمل البنى التحتية وقطاع المعلومات، وتهدف أن تكون السعودية محطّة رئيسة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وفق رؤية السعودية 2030.
في يوليو/تموز 2018، خلال زيارته للإمارات، وقع الرئيس الصيني على 13 اتفاقية تعاون بين البلدين في مجالات الطاقة والتجارة الإلكترونية والزراعة والثروة الحيوانية والسمكية، إضافة للتعاون الاقتصادي في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وقبيل ذلك كانت “موانئ دبي العالمية” قد وقعت ومجموعة “تشجيانج تشاينا كوموديتيز سيتي جروب” الصينية اتفاقًا لإقامة أضخم سوق للتجارة الحرّة على مساحة ثلاثة كيلومترات مربعة في المنطقة الحرّة لجبل علي في دبي.
استحوذت بكين أيضًا على أكبر مشروع في العالم للطاقة الشمسية المركزة بالإمارات، بالشراكة مع السعودية، من خلال الاتفاق الموقع لإنجاز “مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية”، أكبر مشروع للطاقة الشمسية في العالم، بين الشركة الصينية “شنجهاي إلكتريك” المقاول الرئيسي للمشروع، وشركة “أكوا باور” السعودية مع هيئة كهرباء ومياه دبي.
خلال نصف العقد المنقضي ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين والإمارات ليقترب من 55 مليار دولار، تشكل الصادرات الصينية قرابة 90% منها، فيما يوجد عشرات الشركات الصينية العاملة بالإمارات مخولة بتدشين مشروعات بنى تحتية وخدمية في المجالات كافة.
ومن الخليج إلى شمال إفريقيا، حيث نجحت الصين في تعزيز حضورها الاقتصادي في مصر من خلال عشرات المشروعات التي تقوم بها شركات صينية لا سيما في العاصمة الإدارية الجديدة ومشروعات الكهرباء والطاقة والطرق والعقارات، فيما ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 19.98 مليار دولار أمريكي في العام 2021، بزيادة 37.3% على أساس سنوي.
وفي المغرب العربي، فقد منحت الحكومة الجزائرية الشركات الصينية إنجاز مشروع ميناء شرشال الأكبر في البلاد بقيمة 3 مليارات دولار، الذي سيُموَل في إطار قرض صيني على المدى الطويل، وسط توجه عام من البلدين بتعزيز فرص التعاون المكثف في شتى المجالات، الوضع كذلك في المملكة المغربية حيث وقعت الحكومة هناك مع مجموعة “هيتي” الصينية اتفاقًا لإنجاز مشروع المدينة الصناعية الصينية بمدينة طنجة المغربية أكبر مدينة صناعية في إفريقيا، هذا المشروع الذي من المقرر أن يحتضن نحو 200 شركة صينية، ويوفر 100 ألف وظيفة جديدة، وهو المشروع الذي يضع أقدام الصين في قلب أوروبا في أسرع وقت وأقصر طريق.
قلق أمريكي.. وترقب أيضًا
رغم أن حجم تجارة الصين مع كافة البلدان العربية والبالغ 330 مليار دولار بمعدل سنوي وصل إلى 37% لا يساوي ربع حجم تجارة الصين مع أمريكا ودول أوروبا (يبلغ مع دول الاتحاد الأوروبي 709 مليار دولار ومع الولايات المتحدة 615 مليار دولار وفق إحصائيات 2020) فإن هناك حالة قلق أمريكي من التقارب الاقتصادي بين بكين والعواصم العربية خاصة الخليج.
يعود هذا القلق الأمريكي إلى قدرة الصينيين على كسر حلقات الحصار التي نجحت واشنطن في فرضها عليهم خلال العقود الماضية من خلال كماشة “اليابان وأستراليا والفلبين” بجانب استثارة غصتها بين الحين والآخر بالورقة التايوانية، فقد نجحت بكين في تبني إستراتيجية مغايرة تمامًا، إستراتيجية التمدد للهروب من فخ الحصار، ومنازلة أمريكا في مناطق نفوذها، وكانت أسيا الوسطى نقطة الانطلاق، ثم العبور إلى أدغال إفريقيا وأواسط اوروبا، مرورًا بمنطقة الشرق الأوسط التي تحولت مع مرور الوقت – بجانب أنها مورد الطاقة الأكبر – إلى أحد الأسواق الأهم للصينيين اليوم.
ربما يهدد تعاظم النفوذ الصيني في المنطقة مصالح الولايات المتحدة لكنها تتجنب قدر الإمكان اتخاذ ردود فعل قاسية تخسرها حلفاءها في المنطقة، ولذلك حرصت على عدم التصعيد مع السعودية بعد رفض ضغوط زيادة الإنتاج النفطي اليومي لتعويض نقص الإمدادات الروسية منذ الحرب التي أحدثت هزًة عنيفة في سوق الطاقة العالمي.
تبدي واشنطن في المقابل امتعاضها بين الحين والآخر، ملوحةً بأوراق الضغط التي لديها لعدم بلوغ هذا التعاون مع الصين للمساحات المهددة بشكل مباشر للمصالح الأمريكية، كما حدث مع الإمارات، إذ جمدت صفقة بيع طائرات إف 35 بسبب رفض أبو ظبي منع العملاق الصيني “هواوي” من المشاركة في بناء شبكة الجيل الخامس من الهاتف الخلوي، الأمر كذلك مع “إسرائيل” التي منحت إحدى الشركات الصينية عقد تشغيل في ميناء حيفا لمدة 25 عامًا.
في ضوء ما سبق، تعلم واشنطن أن الزيارة الحالية للرئيس الصيني والاستقبال الخليجي الحافل والقمم الثلاثة المتوقعة ومخرجاتها الاقتصادية تأتي في سياق المناورة الخليجية وكارت أصفر تشهره الدول النفطية في وجه حليفها الذي رفع عنها غطاء الدعم قليلا خلال الأونة الأخيرة لحسابات خاصة، وهنا تجد الإدارة الأمريكية نفسها بين أمرين، إما إعادة النظر في إستراتيجياتها في التعامل مع دول المنطقة، أو الاضطرار لاستخدام ما لديها من أوراق ضغط لكنها غير مضمونة العواقب في ظل السيولة السياسية التي تشهدها خريطة التحالفات الدولية مؤخرًا.