قبل نحو شهر من الآن، أقرَّ رجل الأعمال المقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إيفغيني بريغوجين، بحصول “تدخُّل” روسي في الانتخابات الأمريكية، وهو الاعتراف الأول من شخصية روسية مقرّبة من الكرملين.
بريغوجين -المتّهم من قبل واشنطن بالتأثير في السياسة الأمريكية- أكّد أن هذا التدخل سيستمر، قائلًا في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي لشركته كونكورد لخدمات الضيافة على موقع “فكونتاكتي”، المكافئ الروسي لفيسبوك: “لقد تدخلنا، نقوم بذلك وسنواصل القيام بذلك. بحذر ودقة، بطريقة موضعية، بطريقة خاصة بنا”.
لئن كانت هذه المرة الأولى التي يقرّ فيها روسي بالتدخل في الانتخابات الأمريكية، إلا أن هذا التدخل لم يكن الأول، فقد شهدت واشنطن الشيء نفسه في عامَي 2016 و2020، كما مسَّ التدخل الروسي أيضًا عديد الدول الأوروبية على غرار بريطانيا وألمانيا التي شهدت مؤخرًا محاولة انقلابية فاشلة.
التدخل لصالح ترامب
في يناير/ كانون الثاني 2017، أكّد تقييم أجراه مكتب مدير الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة الأمريكية، حصول تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، وذكر التقرير أن القيادة الروسية كانت تفضّل المرشح الرئاسي دونالد ترامب على نظيرته هيلاري كلينتون.
أشار التقرير أيضًا إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد أمر شخصيًّا بـ”حملة تأثير” لإلحاق الضرر بفرص مرشحة الحزب الديمقراطي، كلينتون، الانتخابية، و”إضعاف” الرأي العام في العملية الديمقراطية الأميركية، وقبل ذلك ذكر مسؤولون أمريكيون أن واشنطن متأكدة تمامًا من أن الحكومة الروسية قد أدارت عمليات قرصنة للرسائل الإلكترونية بقصد التدخل في سير الانتخابات الأمريكية.
وأفادت تقارير أن المخابرات العسكرية الروسية (GRU) قد اخترقت خوادم اللجنة الوطنية الديمقراطية (DNC)، وحساب البريد الإلكتروني الشخصي لمدير حملة كلينتون، جون بوديستا، وإحالة محتوياتها إلى ويكيليكس، لإدارة عملية التلاعُب بتوجُّهات الرأي العام للناخبين.
في فبراير/ شباط 2018، اتّهم مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي 13 مواطنًا روسيًّا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي فاز فيها دونالد ترامب برئاسة البلاد، ووجّه الاتهامات المحقق الخاص روبرت مولر، المكلَّف بالتحقيق في مزاعم تدخل الروس في الانتخابات الأمريكية.
أوضح التحقيق أن مواطنين روسًا فتحوا حسابات مصرفية باسم أمريكيين وانتحلوا شخصياتهم، وأنفقوا آلاف الدولارات شهريًّا لشراء إعلانات سياسية، كما اشتروا فضاءات إلكترونية أمريكية لإخفاء هوياتهم، ونظّموا تجمُّعات سياسية في الولايات المتحدة ودعوا إليها، كما نشروا تعليقات سياسية على مواقع التواصل الاجتماعي بأسماء أمريكيين لتشويه هيلاري كلينتون.
في يوليو/ تموز 2019، أكّد المحقق الأمريكي الخاص، روبرت مولر، التدخل الروسي في انتخابات 2016، حيث أوضح مولر أمام الكونغرس الأمريكي أن روسيا تدخلت في الانتخابات بطريقة ممنهجة، وقال إن “محاولة روسيا التدخل بانتخابات الرئاسة كانت من أكبر التحديات الديمقراطية في بلادنا”.
تحدّث تقرير بريطاني بالتفصيل عن نطاق التجسُّس والتخريب الروسي ضد بريطانيا وحلفائها، كما تحدث عن التجسُّس بالطُّرق التقليدية.
تشير تقارير أمريكية إلى أن روسيا كررت الشيء نفسه في انتخابات عام 2020، وقادت حملة مناوئة للمرشح جو بايدن، وقال مسؤولون استخباراتيون أمريكيون إن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سمح على الأرجح بمحاولات للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية لصالح دونالد ترامب، حيث نشرت موسكو “مزاعم مضللة أو لا أساس لها” بشأن الفائز النهائي، جو بايدن.
رغم هذا التقارير، عرضت الخارجية الأمريكية في يوليو/ تموز الماضي مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات عن وكالة أبحاث الإنترنت ويفجيني فيكتوروفيتش بريغوزين (مؤسّس الوكالة)، والكيانات والشركاء الروس ذوي الصلة لمشاركتهم في التدخل في الانتخابات الأمريكية.
كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أفراد وكيانات مرتبطة بمؤسّس ومموّل وكالة أبحاث الإنترنت الروسية، وهي شركة مقرّها سان بطرسبرغ يقول مسؤولو المخابرات الأمريكية إنها كانت تقوم بدور أساسي في الجهود الروسية، للتأثير على الانتخابات الرئاسية لعام 2016.
التدخُّل في الانتخابات البريطانية
لم يقتصر التدخل الروسي على الولايات المتحدة الأمريكية فقط، إنما وصل بريطانيا أيضًا، وكان ذلك خلال استفتائي انفصال اسكتلندا عام 2014 والخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، والانتخابات البرلمانية عام 2019 التي فاز فيها المحافظون.
وأكّدت لندن في يوليو/ تموز 2020 الأمر، إذ قالت إن روسيا سعت للتدخل في الانتخابات العامة عام 2019، بعد أن حصلت بشكل غير قانوني على وثائق حسّاسة تتعلق باتفاق مزمع للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وتسريب هذه الوثائق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وخلص تحقيق حكومي إلى أن روسيا حاولت مرارًا التدخل في الانتخابات التي أُجريت في ديسمبر/ كانون الأول 2019، وفاز بها حزب المحافظين لكن لم يُكشَف بعد عن الهدف النهائي، وفق وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب.
وقال راب: “أصبح في حكم المؤكد تقريبًا أن عناصر روسية سعت للتدخل في الانتخابات العامة لعام 2019، من خلال استخدام الإنترنت لتضخيم مغزى وثائق حكومية تمَّ الحصول عليها بشكل غير مشروع وتسريبها”.
تابع قائلًا: “تمَّ الحصول بشكل غير قانوني على وثائق حكومية حساسة تتعلق باتفاق للتجارة الحرة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، قبل الانتخابات العامة لعام 2019، ونشرها على الإنترنت عبر منصة وسائل التواصل الاجتماعي ريديت”.
في السياق نفسه، أصدرت لجنة برلمانية في بريطانيا تقريرًا يوضّح بالتفصيل كيفية تدخل روسيا في السياسة البريطانية، وقال أعضاء لجنة الاستخبارات والأمن في البرلمان إن بريطانيا كانت أحد الأهداف الرئيسية في الغرب للاستخبارات الروسية، وأن روسيا تمثّل تهديدًا شاملًا يغذّيه جنون الشكّ، وهي تسعى إلى بثّ الشقاق ونشر معلومات مضلّلة.
تحدّث التقرير البريطاني بالتفصيل عن نطاق التجسُّس والتخريب الروسي ضد بريطانيا وحلفائها، كما تحدّث عن التجسُّس بالطُّرق التقليدية، والتجسُّس الإلكتروني، واستعداد روسيا لملاحقة أعدائها في الخارج، حتى إن كان ذلك بقتلهم، على غرار ما حصل مع الجاسوس السابق سيرغي سكريبال، الذي تمَّ تسميمه بغاز للأعصاب في مدينة سالزبري البريطانية عام 2018.
الإليزيه تحت أنظار الروس
بلغ التدخل الروسي فرنسا أيضًا، إذ أكّد رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي، ريتشارد بور، في مارس/ آذار 2017، أن موسكو حاضرة بشدة في المشهد السياسي الفرنسي، وهو التحذير نفسه الذي أطلقه عديد المسؤولين الفرنسيين.
كما تحدّث جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية عن وجود تدخُّل روسي بالانتخابات الرئاسية في شكل قرصنة معلوماتية ضخمة، وبدأت المحاولات الروسية، وفق صحف فرنسية، مع محاولات قرصنة موقع المرشح المستقل إيمانويل ماكرون، زعيم حركة “إلى الأمام”، الذي فاز على حساب مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان.
حذّرت رئيسة المخابرات العسكرية بألمانيا، مارتينا روزنبرغ، من تزايُد نشاط أجهزة استخباراتية معادية داخل ألمانيا، خصوصًا الروسية منها.
في الإطار نفسه، اتّهم فرنسوا هولاند موسكو بالسعي “للتأثير على الرأي العام” مستخدمة حتى أساليب تعود إلى الحقبة السوفيتية، وأمر هولاند، الذي كان رئيسًا لفرنسا حينها، بتعبئة كل إمكانات الدولة للتصدي للهجمات الرقمية والقرصنة.
وتُتَّهم روسيا بدعم مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، حيث تمَّ دعمها ماديًّا بإسنادها قرض لتمويل حملتها الانتخابية، وإطلاق حملة دعم لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما مكّنها من منافسة إيمانويل ماكرون بقوة.
حتى الألمان لم يَسلَمُوا
في مايو/ أيار 2017، أكّدت المستشارة الألمانية حينها، أنجيلا ميركل، أنها لا تخاف من أن تتدخل روسيا في المعركة الانتخابية بألمانيا، وقالت خلال مؤتمر صحفي مشترَك مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية، إنها على ثقة بقدرتهم على إجراء الانتخابات بينهم هم الألمان.
كلام ميركل جاء بناءً على مخاوف ألمانية من أن قراصنة من روسيا أو عمليات تضليل إعلامي مصدرها موسكو، يمكن أن تحاول التأثير على الانتخابات التشريعية الألمانية عام 2017، وقد تأكدت هذه المخاوف مؤخرًا.
لم يكن التدخل في الانتخابات، إنما في شيء أخطر من ذلك، فقبل يومَين أعلنت برلين عن إحباط محاولة انقلابية تورّط فيها أفراد ينتمون إلى حركة “مواطني الرايخ” (رايخسبرغر)، كانوا يقومون باستعدادات ملموسة لاقتحام البرلمان الألماني بعنف مع مجموعة صغيرة مسلحة.
وأعلن الادّعاء الألماني عن اعتقال 25 شخصًا من المنتمين للجماعة اليمينية المتطرفة بينهم 3 أجانب، قيل إنهم كانوا يخططون للانقلاب على مؤسّسات الدولة في مقدمتها البرلمان، وأشار الادّعاء إلى أنه من بين المقبوض عليها مواطنة روسية تُدعى فيتاليا ب، اتُّهمت بأنها عملت على تسهيل محاولات للاتصال بين شخص كان سيصبح زعيم مجموعة ومسؤولين روس للحصول على الدعم.
اتصلت المجموعة التي تمَّ القبض عليها، وفق الادّعاء الألماني، بدبلوماسيين روس في ألمانيا لمناقشة آرائهم بشأن مخطط محاولة الانقلاب، ما يعني اتهامًا ضمنيًّا ألمانيًّا بتورُّط روسيا في هذه المحاولة الانقلابية، وهو ما نفته موسكو.
تقول السلطات الألمانية أن المتهمين أسّسوا نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 تنظيمًا إرهابيًّا لمحاربة مؤسسات الدولة وممثليها، كما أسّسوا ذراعًا عسكرية بعض أعضائها خدموا في الجيش الألماني، وهدفها القضاء على دولة القانون الديمقراطية على مستوى البلديات والمقاطعات.
من شأن هذه المحاولة الانقلابية، إن تمّت، أن تضع حدًّا للديمقراطية الألمانية وترجع بهذه الدولة الأوروبية سنوات إلى الوراء، فأفكار اليمين المتطرف وحلفائه منافية تمامًا لكل مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن وإن فشلت وتمَّ التصدي لها في الوقت المناسب، فإنها تنذر بوجود أطراف داخلية وخارجية تستعدّ للانقضاض على الحكم في ألمانيا، وغيرها من الدول الغربية، بطرق غير سلمية كما يحصل في عديد الدول الأفريقية.
وقبل نحو شهر من الآن، أقالت وزارة الداخلية الألمانية رئيس المكتب الاتحادي لأمن تكنولوجيا المعلومات “بي إس آي (BSI)”، آرنه شونبوم، على خلفية تقارير عن علاقات محتملة تربطه بالمخابرات الروسية.
من أبرز أنشطة الاستخبارات الروسية في الغرب التدخل في العمليات الانتخابية، ومحاولة التأثير على صناعة القرار السياسي، والإشراف على عمليات اغتيال المعارضين.
كما حذّرت رئيسة المخابرات العسكرية بألمانيا، مارتينا روزنبرغ، من تزايُد نشاط أجهزة استخباراتية معادية داخل ألمانيا، خصوصًا الروسية منها، وأوضحت روزنبرغ قائلةً: “الأجهزة الاستخباراتية التي تديرها حكومات تستخدم كل الوسائل المتوافرة لديها من أجل الوصول لمعلومات ولممارسة نفوذ، وكذلك لمتابعة مصالح بلادها”.
وأضافت المسؤولة الألمانية أن الاستخبارات العسكرية تسجّل “كثيرًا من الأشياء اللافتة للنظر، وكذلك محاولات تجسُّس”. ويذكَر أنه لوحظ مؤخرًا عمليات متكررة بطائرات من دون طيار فوق مواقع عسكرية تابعة للجيش الألماني ومراكز تدريب للجنود الأوكرانيين، دون استجلاء خلفيات ذلك.
نشاط الاستخبارات الروسية في الغرب
تؤكّد كل هذه الحقائق التي تناولناها تنامي نشاط الاستخبارات الروسية في الدول الغربية، ودائمًا ما يتمّ طرد مسؤولين روس من سفارات موسكو في العديد من الدول الغربية بتهم تتعلق بالتجسُّس وتهديد الأمن العام والاستقرار، وتحاول العديد من الدول مواكبة نشاط موسكو السرّي على أراضيها.
رغم عمليات الطرد المتتالية ومحاولات السيطرة على جواسيس روسيا المنتشرين في العديد من الدول الغربية، إلا أن العشرات من العملاء الروس ما زالوا نشطين، خاصة في النمسا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا والتشيك وقبرص واليونان، دون أن نتحدث عن دول أوروبا الشرقية فهي من تحصيل الحاصل.
وفق المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، يوجد 3 أنواع من العملاء الروس يعملون في أوروبا، وهم عملاء “مُعلنون” وغالبًا ما يشغلون أدوارًا مثل الملحق الدفاعي في البعثات الدبلوماسية، والعملاء “غير المصرّح بهم” الذين قد يتنكّرون من قبل الاستخبارات الروسية الخارجية (SVR) كجزء من وفد تجاري، والعملاء “غير القانونيين” وهم عملاء نائمون يعملون بشكل خفي.
من أبرز أنشطة الاستخبارات الروسية في الغرب التدخل في العمليات الانتخابية، ومحاولة التأثير على صناعة القرار السياسي، والإشراف على عمليات اغتيال المعارضين، ومنها محاولة اغتيال المعارض الروسي ليكسي نافالني، حيث تتهم ألمانيا الحكومة الروسية بالمسؤولية عنها.
كما تشمل عمليات الاستخبارات الروسية في الدولة الغربية المجال الاقتصادي أيضًا، فالتجسُّس موجّه كذلك ضد المكاتب الإدارية المختلفة والشركات المبتكرة والمؤسسات البحثية الاقتصادية، وقد تمَّ كشف العديد من الجواسيس الروس في إدارات مختلفة في عدة دول.
نشاط الاستخبارات الروسية يمتدُّ كذلك إلى الجانب العسكري، إذ نشرت روسيا جواسيسها في جيوش العديد من الدول الغربية، قصد الاطّلاع على التدريبات العسكرية والأسلحة والمعلومات الأمنية وكل ما هو متعلق بالجانب العسكري، وتدعّم هذا الأمر بعد الحرب ضد أوكرانيا.
خوف الأوروبيين من تنامي نشاط الاستخبارات الروسية فوق أراضيهم، دفع البعض منهم إلى وقف تزويد أجهزة أمنية في دولة أوروبية مهمّة بالمعلومات بسبب خوفها من تسرُّبها للروس، ووقف التعاون العسكري والأمني مع بعض الدول.
استطاعت روسيا أن تتدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية وعديد الدول الأوروبية، وهو ما يثبت أن الدول الغربية غير محصّنة ضد الاختراق عالي المستوى، ما يجعلها في خطر دائم، خاصة أن علاقاتها مع روسيا تأزّمت بدرجة كبيرة.