ما زالت التهديدات التركية قائمة بشنّ عملية عسكرية برّية ضد ميليشيات “قسد” الانفصالية، وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد تعهّد خلال خطاباته الأخيرة بـ”اجتثاث الإرهابيين” من مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب شمال سوريا التي تسيطر عليها ميليشيا “قسد”، وقال: “سننقضّ على الإرهابيين برًّا أيضًا في الوقت الذي نراه مناسبًا”، مؤكدًا أن “العمليات التي نفّذتها تركيا بالمقاتلات والمدفعيات والطائرات المسيّرة في إطار عملية “المخلب-السيف”، ما هي إلا بداية”.
ومنذ تفجير شارع الاستقلال في إسطنبول، لم تهدأ وتيرة التصريحات التركية التي تهدد بإطلاق عملية عسكرية لاجتثاث التنظيمات الكردية، وقد أوقع التفجير 6 قتلى مدنيين وعشرات الجرحى، واتّهمت أنقرة التنظيمات الكردية المتمركزة في شمال سوريا وشمال العراق بتنفيذه، وقال أردوغان: “لا أحد يستطيع منعنا من سحب الخط الأمني إلى حيث يجب أن يكون، في الأماكن التي تتواصل فيها الهجمات على حدودنا ومواطنينا”.
التحركات التركية قوبلت بمخاوف روسية وأمريكية على حد سواء، فانطلقت الدولتان تمارسان ضغطًا على أنقرة من أجل عدم القيام بالعملية، مقابل قيامهما بضمان صيغة من التفاهم التي ترضي أنقرة وتلبّي مصالحهما في المنطقة الشرقية من سوريا.
وبالطبع إن مجهودات موسكو وواشنطن لم تأتِ كموقف مشترك، إنما تقدّم المبادرات من كل دولة على حدة، وفيما يبدو أن روسيا لها ثقل أكبر في هذا الخصوص، كون علاقتها مع تركيا جيدة بالمقارنة مع العلاقة الشائكة حاليًّا بين أنقرة وواشنطن.
مبادرات روسية
نقلت قناة “الجزيرة” عن مصادر تركية أن روسيا في آخر مبادراتها لإيقاف الهجوم التركي على وحدات “قسد”، عرضت انسحاب قوات سوريا الديمقراطية من عين العرب كوباني ومنبج شمالي سوريا، جاء هذا الطرح خلال المشاورات الجارية في إسطنبول بين مسؤولين أتراك وروس بشأن بحث آفاق العملية العسكرية التركية المحتمَلة، وقالت المصادر التركية إن العرض الروسي يقترح الإبقاء على قوات حرس حدود الميليشيات الكردية، والتي تُدعى “الأسايش”، بعد دمجها في المؤسسة الأمنية للنظام السوري.
ووفقًا لموسكو، وافقت “قسد” على هذا المقترح بشرط عدم حصول اجتياح تركي للشمال السوري، لكن أنقرة ما زالت في طور دراسة المقترحات التي قدّمها الوفد الروسي، ويذكَر أن أنقرة بيّنت في أكثر من مرة موافقتها على انتشار قوات النظام السوري بدلًا من القوات الكردية، وفي تقرير سابق لـ”نون بوست” تساءلنا عمّا يمكن أن يحصل في حال انتشرت قوات النظام أو مؤسساته الأمنية على الحدود مع تركيا.
المحادثات الجارية في أنقرة بين الوفد الروسي والتركي، سبقها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بقوله إن بلاده ستعمل “بحزم لضمان منع أي اعتداءات على وحدة أراضي سوريا”، وأضاف لافروف أن روسيا مهتمة بعملية استئناف الحوار على أساس اتفاق أضنة بين تركيا وسوريا، معتبرًا أن المتطلبات الأساسية لهذه العملية نضجت الآن من أجل حلّ قضايا محددة لضمان الأمن على الحدود، مع الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا، والتي يعترف بها النظام السوري”.
يذكَر أن موسكو مستمرة بمحاولاتها للتقريب بين أنقرة ونظام الأسد، خاصة في تلك المبادرات التي تطرحها لإيقاف العملية العسكرية التركية على الحدود، وقد أعلنت موسكو سابقًا أن “التنسيق بين أنقرة ودمشق يضمن أمن الحدود السورية التركية”، مضيفةً أنها “تبذل جهودًا لتشجيع الحوار بين ممثّلي الإدارة الذاتية وحكومة النظام السوري لإعادة منطقة الفرات إلى سيطرة النظام”، وأن “العقبة الرئيسية لا تزال تتمثل في الوجود العسكري الأميركي غير الشرعي”.
ومنذ أيام قال موقع “ميدل إيست آي” إن تركيا وروسيا تتفاوضان بشأن عملية عسكرية محدودة في شمال سوريا، وبيّن الموقع أن منطقة تل رفعت تُعتبر مهمة بسبب موقعها الاستراتيجي المحصور بين القوات الحكومية التركية وميليشيا أسد، وقد أصبحت في بعض الأحيان نقطة إحباط لأنقرة بسبب الهجمات القاتلة المتكررة على مواقعها من قبل ميليشيا “قسد” في المنطقة.
ورغم هذا الطرح، إلا أن موسكو ما زالت تحاول إيقاف الهجوم التركي، لكن في حال وقع الهجوم تريد أن يكون ضمن إطار المسموح بالنسبة إليها وإلى مناطق نفوذها، في الوقت الذي تريد تسخيره ليكون في مصلحة النظام السوري وتحسين العلاقات بين الطرفَين.
يشار إلى أن روسيا وتركيا عقدتا منذ سنوات أكثر من اتفاقية بخصوص مناطق الشمال السوري، وفي حال استطاعت روسيا الآن تحصيل قبول تركي على طروحاتها، ستكون أضافت إلى سجلّها واحدة من الاتفاقيات والتفاهمات المجراة بشأن هذه المنطقة المشتعلة، وعلى سبيل الحصر عقدت تركيا وروسيا وإيران اتفاقية لإنشاء مناطق لخفض التصعيد شملت مناطق عديدة من الشمال السوري عام 2017.
على إثر ذلك الاتفاق، أتمّت تركيا نشر نقاط المراقبة الـ 12 في منطقة خفض التصعيد الرابعة الممتدة على محافظة إدلب ومحيطها في الشمال السوري، ضمن اتفاقية خفض التصعيد التي تمَّ خرقها كثيرًا من قبل النظام وروسيا.
وفي عام 2018 توصّل الرئيسان الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، رجب طيب أردوغان، إلى اتفاق يقضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح في محافظة إدلب، ويتضمّن الاتفاق سحب الأسلحة الثقيلة والدبابات ونظم الصواريخ من فصائل المعارضة، وانسحاب المسلحين من المنطقة التي يتراوح عرضها بين 15 و20 كيلومترًا.
وفي حالة مشابهة لما عليه الحالة اليوم، عقدت روسيا وتركيا اتفاقًا عام 2019 بعدما بدأت تركيا عملية عسكرية برّية أطلقت عليها تسمية “نبع السلام” لطرد الميليشيات الكردية من الشريط الحدودي، لكن روسيا تدخلت وأقنعت تركيا بإيقاف العملية عبر اتفاقية كان من أهم بنودها أن روسيا ستعمل على تسهيل إخراج عناصر “ي ب ك” وأسلحتهم حتى عمق 30 كيلومترًا من الحدود السورية التركية، وينبغي الانتهاء من ذلك خلال 150 ساعة، بالإضافة إلى البدء بتسيير دوريات تركية وروسية مشتركة غرب وشرق منطقة عملية “نبع السلام” بعمق 10 كيلومترات، باستثناء مدينة القامشلي.
كما نصت الاتفاقية على إخراج جميع عناصر “ي ب ك” وأسلحتهم من منبج وتل رفعت، لكن تركيا بعد أعوام من الاتفاقية ترى أنه لم يتم تنفيذ الاتفاقية وشروطها، ولم يتم الوفاء بما تمَّ التعهُّد به من الجانب الروسي، وقد اتهم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الجانب الروسي بعدم تنفيذ التزاماته بـ”تطهير” المناطق السورية من الجماعات المسلحة الكردية بموجب اتفاق عام 2019.
إلى جانب هذه التفاهمات بين روسيا وتركيا، يعمل البلدان على الشق السياسي للتوصُّل إلى حلّ في سوريا عبر الدفع بعجلة اللجنة الدستورية السورية، التي لم تخرج بنتيجة إلى الآن.
موقف “قسد”
قبل الإعلان عن المبادرة الروسية القاضية بانتشار قوات حرس الحدود الأكراد وخرطهم بالمؤسسات الأمنية للنظام، رفضت قوات “قسد” عروضًا روسية سابقة لوقف العملية العسكرية التركية شمالي سوريا، وقال مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، حول طلبات سحب قواته السلاح الثقيل والجنود واستبدالهم بقوات النظام السوري، إن قواته غير موجودة في هذه المناطق بشكل رسمي، وأن من يوجد على الحدود، أي القوات الموجودة حاليًّا، هي قوات النظام، وهي تنتشر على كامل الحدود.
وأضاف عبدي في تصريحات لصحيفة “الشرق الأوسط”: “تركيا لديها ملاحظات علينا، منها أننا نهدد الأمن القومي. ونحن من جانبنا نلتزم، حتى لو كانت هناك خروقات فردية كردّ فعل باتفاقات 2019. نحن رسميًّا غير موجودين على الحدود حتى يُطلب منا أن ننسحب إلى عمق 30 كيلومترًا”.
وتابع: “قوات أمن الداخل (الأسايش) موجودة، ولكن هؤلاء خارج الاتفاقية، الأسايش سيتواجدون في كل الأماكن، فهم ليسوا مشمولين بمسألة الانسحاب وجدول الانسحاب، والناس تحرس بيوتها، وقوات الحماية المجتمعية هي قوات مدنية. قوات “قسد” ملتزمة من الأساس بالاتفاقيات”.
وحول العرض الروسي بانسحاب “قسد” من كوباني ومنبج، مقابل أن تنتشر قوات النظام عوضًا عنها، قال عبدي: “بالأساس، قوات النظام الموجودة في هذه المناطق أكثر من قواتنا (نحو ضِعف عدد قواتنا)”، مضيفًا أن قوات النظام موجودة في كوباني ومنبج وتل رفعت، والنظام له وجود كافٍ في تلك المناطق.
وأشار إلى أنه “إذا حصل هجوم (تركي) على كوباني ومنبج، فإن ذلك سيكون مشكلة للنظام أكثر من أن يكون مشكلة بالنسبة لنا، فقوات النظام موجودة على الحدود، وهي التي ستكون مستهدَفة. وعندها على النظام أن يتخذ قرارًا إما بالانسحاب وعدم القتال وترك تلك المناطق للجيش التركي، فهم موجودون هناك مع دباباتهم ومدافعهم وأسلحتهم الثقيلة. وإذا قارنا وجودهم هناك بقواتنا، فهم القوات الأساسية”.
قلق أمريكي من المبادرة الروسية
المباحثات وتبادل الشروط من جانب تركيا وروسيا سبقته ببضعة أيام زيارة المبعوث الأمريكي السابق بشأن سوريا، جيمس جيفري، إلى أنقرة لإجراء مباحثات متعلقة بسوريا، وقال جيفري إن لدى أمريكا آمال كبيرة في أن تستمرَّ اللجنة الدستورية في السير على المسار السياسي، مشيدًا بموقف تركيا في دعم المسار السياسي، وأضاف أن المرحلة العسكرية من “الصراع السوري” يجب أن تنتهي، إذ لم يعد هناك أي منبر يمكن أن يفوز به النظام السوري.
موقع AXIOS الصحفي الأمريكي، نشر معلومات نقلها عن مصدرَين لم يسمّهما أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية حذّرت تركيا من أن الضربات في سوريا تعرّض القوات الأمريكية للخطر، وبحسب الموقع فقد وجّه مدير وكالة المخابرات المركزية، بيل بيرنز، لنظيره التركي “رسالة شديدة اللهجة”، يعارض فيها القصف التركي شمالي سوريا.
وكشفت صحيفة تركية تفاصيل عرض أمريكي لتركيا من أجل العدول عن شنّ عملية عسكرية يقضي بسحب ميليشيا “قسد” لقواتها مسافة 30 كيلومترًا عن الحدود السورية التركية. العرض الأمريكي المقدَّم يدعو إلى فتح حوار بين تركيا و”قسد”، بما يشمل إبعاد الشخصيات القيادية في حزب العمال الكردستاني من مناطق الإدارة الذاتية، بالتوازي مع إطلاق محادثات تقود إلى تطبيع العلاقة بين المعارضة و”قسد”، تمهيدًا لتشكيل جبهة موحّدة معارضة للنظام في الشمال.
أضافت المصادر أن واشنطن ترغب ببناء الثقة بين جناحَي شرق الفرات وغربه، من خلال فتح المعابر بين المنطقتَين، وتوحيد السوق الاقتصادية فيهما، مع منح أنقرة كل الامتيازات الاقتصادية في المنطقة، ويذكَر أن اتفاقًا جرى بين تركيا وأمريكا حول مدينة منبج نصَّ على إعادة هيكلة “قسد” وتشكيل إدارة جديدة لها تبعد العناصر المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، لكن واشنطن لم تنفّذ الاتفاق، ما يجعل أنقرة تشكّك بخطوات واشنطن.
تحاول واشنطن الحفاظ على قوات “قسد” حليفها الأبرز في سوريا في وجه أية معركة تركية، على عكس موسكو التي تريد عدم انطلاق المعركة من أجل عدم ضياع مكتساباتها التي حصّلتها هي والنظام السوري في مناطق انتشار المسلحين الأكراد في الأعوام الماضية، وتجد واشنطن أن القوات الكردية هي القوة الأفضل في مواجهة “داعش”، وتحفظ لها مصالحها في سوريا خاصة في المنطقة النفطية.
الاهتمام التركي بقوات “قسد” تبيّن من خلال التصريحات الأمريكية التي لم تهدأ برفض أي عملية عسكرية تركية ومحاولات الضغط على الأتراك، وقد قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، إنه “من دواعي قلقنا الآن أن العمليات التركية في شمال سوريا يمكن أن يكون لها تأثير على قوات سوريا الديمقراطية، ويمكن أن تؤثر على قواتنا والقدرة على البقاء في شراكة معهم على أساس يومي”.
وأعرب كيربي عن تخوُّف بلاده من التحركات الروسية للوساطة بين أنقرة و”قسد”، مشيرًا إلى أن “الروس يحاولون الاستفادة من الانقسامات الداخلية في أي عدد من الجهات الفاعلة لدعم الدولة السورية”، منوّهًا إلى أن “هذه الانقسامات ظهرت بشكلٍ خاص في الأسابيع الأخيرة.
بالمحصلة؛ تحاول موسكو ما أمكن إقناع أنقرة بالعدول عن عمليتها العسكرية المحتمَلة، وذلك من أجل الحفاظ على مصالحها، إضافة إلى طرح شروطها التي تناسب أنقرة بالتعاون مع النظام السوري عن قرب، وبهذا الأمر تكون موسكو استطاعت التقريب بين جيشَي النظام وتركيا، ما يمهّد لتطبيع لاحق بين البلدَين.
إضافة إلى ذلك، تحاول موسكو من خلال مبادراتها نزع البساط من تحت واشنطن وتقريب خطوات إخراجها من سوريا، لكن هذا الأمر يصطدم بالتواجد القوي للجيش الأمريكي وحلفائه هناك، ويتبقّى على أنقرة الاختيار بين مبادرات واشنطن وموسكو أو الجمع بينهما كما حصل عام 2019.