ترجمة وتحرير: نون بوست
بينما احتفل الأمريكيون في عيد الشكر مجتمعين حول موائد العشاء قبل أسبوعين، أفادت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بأن العائلات في أفغانستان تبيع بناتها القاصرات للزواج من أجل دفع ثمن الطعام وتلقم أطفالها المهدئات ومضادات الاكتئاب لأنها أرخص من الخبز.
وفقًا لموقع تولو نيوز، بلغ معدل البطالة في أفغانستان 40 بالمائة في تشرين الأول/ أكتوبر. وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة غالوب مؤخرًا من داخل البلاد أنه في الوقت الذي يواجه فيه الأفغان شتاءهم الثاني منذ عودة طالبان إلى السلطة في آب/ أغسطس 2021، يقول 86 في المائة منهم إنهم يواجهون صعوبة في الحصول على ما يكفي من قوت يومهم.
تركز الحكومات الغربية على سجل طالبان فيما يتعلق بالحريات السياسية والفصل العنصري بين الجنسين، في حين أن الحصول على الغذاء هو أيضًا حقّ إنساني دولي تلتزم الحكومات الوطنية بتوفيره لمواطنيها. مع ذلك، يعتمد لوم أفغانستان على عجزها عن الحصول على الغذاء الكافي لمواطنيها يعتمد على الجهة التي تطلب منها المساعدة.
تقول طالبان – وعدد ليس قليل من المعلقين – إن نقص الغذاء في أفغانستان هو خطأ الغرب الذي قطع المساعدات الثنائية وجمد احتياطيات أفغانستان من العملات الأجنبية. وتشير الدول الغربية إلى أنها ستخفف القيود المفروضة على المساعدات إذا سمحت طالبان للفتيات بالعودة إلى المدارس وقطعت علاقاتها مع القاعدة وكفت عن السياسات التقييدية الأخرى التي تنتهك حقوق الإنسان الأساسية. في المقابل، يقول بعض المراقبين إنه إذا كان هناك أي شيء يمكن القيام به، فإن الجهود الحالية لعزل طالبان ليست كافية.
مع ذلك، ما يمكن أن يتفق عليه المراقبون هو أن هذه الكارثة مصطنعة وأسبابها متعددة ومترابطة ومدفوعة بسياسات، وقد تفاقمت بسبب الجفاف وجائحة كورونا والحرب في أوكرانيا. في النهاية، لا تضيف لعبة اللوم سوى طبقة سياسية إلى المشكلة ما يجعل حلها أصعب.
عندما سيطرت طالبان على البلاد السنة الماضية، لجأت على الفور إلى نظام حكم شديد القسوة يعرض حياة الأقليات للخطر ويقيد حرية الصحافة وحقوق الإنسان الأساسية الأخرى إلى جانب طرد النساء والفتيات من معظم الوظائف والمدارس وإقصائهم عن الحياة العامة. رداً على ذلك، اتخذت الدول الغربية خطوتين ساهمتا بدورهما بشكل مباشر في انعدام الأمن الغذائي في أفغانستان.
أولاً، جمّدت الولايات المتحدة الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي الأفغاني البالغة 9 مليارات دولار. تعمل الاحتياطيات الأجنبية للبلد كصندوق احتياطي لأيام الحاجة يمكن استخدامه لتمويل الواردات ودعم العملة المحلية وبدونه يتجه معدل التضخم إلى الارتفاع وبالتالي تتكرر عمليات التهافت على البنوك لسحب الودائع. وهذا هو السبب في أن محافظ البنك المركزي الأفغاني السابق، في أحد قراراته الأخيرة قبل فراره من البلاد قبل استيلاء طالبان على السلطة، فرض حدًا أقصى لسحب الأموال. عزز هذا القرار ونفذه قسراً خليفته من حركة طالبان.
لا يمكن للأفغان الآن سحب ما يزيد عن 400 دولار في الأسبوع من البنك، ويقفون في طابور لمدة تصل إلى ثلاثة أيام لسحب أموالهم. لا تستطيع طالبان طباعة الأفغاني (العملة الوطنية) بسهولة لأنهم في الماضي كانوا يستوردون الأوراق النقدية والعملات المعدنية من دول ثالثة.
على الرغم من أن المساعدات الإنسانية قد تبقي الناس على قيد الحياة، إلا أن مساعدات التنمية هي التي تغذي الاقتصادات وتوفر النمو الاقتصادي والبنية التحتية طويلة الأجل
لا تزال نصف الاحتياطيات الأجنبية لأفغانستان مجمدة في انتظار الفصل في الدعاوى القضائية المحلية في الولايات المتحدة، لكن النصف الآخر موجود الآن في صندوق ائتماني سويسري ظاهريًا “لمنفعة الشعب الأفغاني”. لكن ما يعنيه هذا عمليًا لا يزال غير واضح. فرغم إنشاء الصندوق الاستئماني في أيلول/ سبتمبر، التقى الأمناء لأول مرة منذ أسبوعين فقط ولديهم الكثير من العمل الذي يتعين عليهم القيام به لمعرفة كيفية الاستفادة من هذه الأموال.
لمّح الأمر التنفيذي الأولي الذي أصدره الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن هذه القضية إلى أن الأموال ستُستخدم في تمويل المساعدات الإنسانية، لكن هذا يعني أنها ستُستخدم لحل مجموعة خاطئة من المشاكل. يُقصد بالمساعدات الإنسانية أن تكون شكلاً من أشكال التبرعات الخيرية التي يقدمها المانحون الدوليون، وليست شيئًا يدفعه الأفغان من أموالهم الخاصة المحتفظين بها للأيام العصيبة.
وفقًا لرويترز، ينص النظام الأساسي للصندوق على أن الأموال ستستخدم بشكل أنسب “لأغراض دعم الاقتصاد الكلي، مثل سعر الصرف الأجنبي واستقرار الأسعار”. ومع ذلك، هناك أهداف أخرى غير نقدية مطروحة على الطاولة، ويخشى البعض أن يكون لها آثار جانبية معاكسة. فعلى سبيل المثال، إذا استُخدمت الأموال لدفع تكاليف واردات الكهرباء، فقد يسمح ذلك لطالبان بمواصلة فرض رسوم على الكهرباء بالنسبة للأفغان العاديين واستخدام أموالهم لأغراض أخرى. كما أن استبدال الخدمات للشعب الأفغاني الذي لن تضطر طالبان إلى تقديمها بعد ذلك يؤدي أيضًا، بشكل غير مقصود، إلى مخاطر تعزيز شرعية طالبان.
إن ما يجعل أزمة الغذاء في أفغانستان مستعصية هو أيضًا ما يجعل حل مشكلة الجوع أمرًا صعبًا للغاية: الطبيعة متعددة الأوجه للمشكلة، والافتقار إلى توافق في الآراء بشأن من تقع عليه المسؤولية وما يجب فعله.
إذا اقتصر استخدام الاحتياطيات على السياسة النقدية فقط، فإن استقرار الأسعار بحد ذاته قد يكون له تأثير هائل ومفيد على الأفغان. لقد كان أداء طالبان أفضل مما كان متوقعًا في تحصيل الضرائب ورسوم الاستيراد، ولكن بدون احتياطياتها الأجنبية لا يمكن للبنك المركزي أن يحقق استقرار العملة أو محاربة التضخم الذي يبلغ الآن 15 في المائة.
من المفترض وضع هذه الأموال لتعمل كصندوق احتياطي للأيام العصيبة بدلاً من بقائها معلقة أو إنفاقها على دفع الفواتير الوطنية، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يساهم في المساعدة. إذا حرر القاضي النصف الآخر من الاحتياطيات الأجنبية التي لم تدخل في الصندوق الاستئماني – بدلاً من منحها لعائلات ضحايا هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، كما نص الأمر التنفيذي لبايدن – فهذا أفضل كثيرًا بالنسبة للأفغان الذين قد تحركوا للدفاع ضد الاستيلاء على الاحتياطيات لهذا الغرض.
لكن إلغاء تجميد الاحتياطيات وحده لن يحل أزمة الغذاء في أفغانستان، لأنه ليس سوى سبب واحد من أسباب انهيار الاقتصاد الأفغاني. القضية الأوسع نطاقًا هي أنه بعد استيلاء طالبان على السلطة، أوقف الغرب تدفق أموال مساعدات التنمية التي دفعت رواتب الأفغان وغذت اقتصادهم. وهذا يعني أن ما يقارب 8 مليارات دولار من المساعدات التنموية وتقريبًا نفس القدر من المساعدات العسكرية تبخرت بين عشية وضحاها في بلد يعتمد بشكل شبه كامل على هذه الأموال.
لا تزال المساعدات الإنسانية الطارئة تتدفق من الجهات المانحة من خلال العقود متعددة الأطراف للمنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة. قدمت الولايات المتحدة نفسها أكثر من مليار دولار اعتبارًا من أيلول/ سبتمبر 2022. لكن هذا لا يؤدي إلا إلى خلق حلقة أعمق من الارتهان، فالأفغان الذين كانوا يعملون في السابق يعتمدون الآن على المساعدات النقدية أو العينية. وعلى الرغم من أن المساعدات الإنسانية قد تبقي الناس على قيد الحياة، إلا أن مساعدات التنمية هي التي تغذي الاقتصادات وتوفر النمو الاقتصادي والبنية التحتية طويلة الأجل.
بينما تستمر المواجهة السياسية بين الغرب وطالبان، فإن الأفغان إما يعانون من الجوع أو في كثير من الحالات يلجأون إلى أفعال يائسة للحد من معاناتهم
يقودنا هذا إلى السؤال الأخلاقي الأكبر: هل أن العقوبات الاقتصادية والمساعدة الشرطية هي الأدوات الصحيحة لتعزيز الحقوق السياسية عندما تلحق الضرر بشكل عام بالأشخاص الذين تحاول مساعدتهم؟ أم أن الخطوات المتخذة لتقليل تأثير العقوبات على هؤلاء الأشخاص المستضعفين فقط تشجع على انتهاكات حقوق الإنسان؟ على أي حال، لا يملك المجتمع الدولي سوى القليل من الأدوات الأخرى لمعالجة هذا النوع من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها حركة طالبان ضد شعبها، والتي وصفتها الأمم المتحدة مؤخرًا بأنها “جرائم ضد الإنسانية”.
يختلف الأفغان أنفسهم حول ما إذا كان ينبغي استمرار أو رفع شروط المعونة عن بلدهم. وقد أظهر استطلاع هذا الربيع أجراه مختبر الأمن البشري، الذي أديره في أفغانستان، أن ما يقارب ثلث 3750 من مستخدمي الإنترنت الأفغان الذين شملهم الاستطلاع العشوائي حول هذا السؤال يريدون إبقاء الضغط الاقتصادي على طالبان، بينما عارض ثلث آخر هذا الرأي، وبقي الثلث الآخير بدون قرار. وتجدر الإشارة إلى أن النساء في الاستطلاع كنّ أقل بنسبة 5 نقاط مئوية من الرجال في النقاش بأن الدعم الغذائي الدولي يجب أن يكون مشروطًا بحقوق الإنسان.
في الوقت نفسه، تُظهر أبحاث العلوم السياسية أن العقوبات الاقتصادية تؤدي بشكل عام إلى تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان مثل القتل أو التعذيب أو الاعتقال التعسفي بدلاً من الحد منها. وحتى إذا كانت العقوبات فعالة على المدى الطويل في تحسين أوضاع حقوق الإنسان أو تحقيق أهداف أخرى مثل منع الإرهاب، فهناك أسئلة أخلاقية حول ما إذا كانت الغايات تبرر الوسائل.
في نهاية المطاف، إن ما يجعل أزمة الغذاء في أفغانستان مستعصية هو أيضًا ما يجعل الجوع مشكلة اجتماعية عالمية يصعب حلها: فالطبيعة متعددة الأوجه للمشكلة والافتقار إلى توافق في الآراء بشأن على من تقع المسؤولية وما يجب فعله يؤدي إلى عدم الإكتراث. تظهر عالمة السياسة ميشيل جوركوفيتش في كتابها “إطعام الجياع” أن هذه المشكلة لا تقتصر على الظروف الحالية في أفغانستان، وإنما متفشية في التأييد العالمي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام – وهو ما يشير إليه خبراء الأمن البشري على أنه أجندة “التحرر من الفاقة”.
ووفقًا لجوركوفيتش، فإن السياسة الاجتماعية العالمية بشأن ضمان الحق في الغذاء تعيقها الخلافات بين المنظمات المناهضة للجوع حول من يجب أن يتحرك لإصلاح المشكلات التي تساهم في انعدام الأمن الغذائي. وحتى الآن، يبدو أن كل إصلاح في منطقة ما سيؤدي بالتأكيد إلى حدوث مشكلات في منطقة أخرى. تعتبر حالة أفغانستان حاليًا وبشكل مأساوي مثالاً يوضح هذه القاعدة الأوسع. ولكن بينما تستمر المواجهة السياسية بين الغرب وطالبان، فإن الأفغان إما يعانون من الجوع أو في كثير من الحالات يلجأون إلى أفعال يائسة للحد من معاناتهم.
المصدر: وورلد بوليتكس ريفيو