ترجمة وتحرير: نون بوست
كشف تقرير غير مسبوق حول الوفيات والأضرار الكارثية التي لحقت بالمدنيين بسبب الغارات الجوية الأمريكية لمكافحة الإرهاب في الصومال عن مجموعة مروعة من المعاناة – بما في ذلك عمليات القتل المزعوم التي طالت الأطفال – وطالب بوضع حد لممارسات الاستهداف الحالية التي تستخدمها القوات الأمريكية خارج مناطق الحرب التقليدية.
يركز التقرير الجديد الصادر عن منظمة “باكس” الهولندية غير الربحية بشكل خاص على إقليم جوبالاند الواقع أقصى جنوب الصومال، حيث ورد أن معظم الغارات الجوية الأمريكية حدثت بانتظام منذ الضربة الأمريكية الرسمية الأولى لمكافحة الإرهاب في الدولة الواقعة في شرق إفريقيا سنة 2007.
يغطي إقليم جوبالاند مساحة تعادل مساحة ولاية فيرجينيا تقريبًا، وهو الإقليم الوحيد من بين الأقاليم الست الصومالية الذي يضم منطقة تسيطر عليها بالكامل حركة الشباب الإسلامية المتشددة. تم التغاضي إلى حد كبير عن تأثير العمليات الأمريكية ضد الجماعة على المدنيين الأبرياء في جوبالاند في التقارير التي وردت عن الصومال حتى الآن.
مع سنوات من الضربات الأمريكية قد قتلت العديد من القادة البارزين في حركة الشباب، إلا أنها لم تضعف قبضة الجماعة المتشددة على الصومال أو توقف قدرتها على ارتكاب الفظائع. وفي الواقع، تشير الشهادات الواردة في تقرير “باكس” إلى أن الضربات الأمريكية كان لها نتائج عكسية – أبرزها اعتمادها كأداة دعائية لتجنيد المسلحين.
حركة الشباب مكروهة بين صفوف أولئك الذين يتعين عليهم العيش تحت حكمها، لكن المدنيين الصوماليين الذين تمت مقابلتهم من أجل التقرير يتساءلون عما إذا كانت الضربات الجوية الأمريكية تخدم بالفعل مصالح واشنطن الأمنية. وحسب ما قاله أحد المدنيين في التقرير، فإن تكلفة الغارات قد تكون “أكبر بكثير من قتل ثلاثة أو أربعة مسلحين من حركة الشباب. إن تكلفتها باهظة للغاية”.
في حين أن البيانات الرسمية من القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) تعترف بأن عملياتها في الصومال قتلت 5 مدنيين وأصابت 11 آخرين، فإن تقديرات مجموعات المراقبة المستقلة تشير إلى أن الخسائر الحقيقية أكبر بكثير. تقدر منظمة “إير وورز” البريطانية غير الربحية أن ما بين 78 و154 مدنياً صومالياً لقوا مصرعهم في غارات تم تأكيدها أو من المحتمل أن تكون نفذتها القوات الأمريكية.
لكن التقرير الجديد – الذي يستند إلى مقابلات مع مدنيين صوماليين تضرروا من الغارات الجوية ومسؤولين صوماليين ومنشقين عن حركة الشباب – يشير إلى أن وفيات المدنيين ليست سوى خيط واحد في نسيج واسع من الأضرار التي سببتها الضربات الأمريكية. كما تم الإبلاغ عن حالات نزوح وتدمير للممتلكات وفقدان سبل العيش وصدمات نفسية مستمرة كتبعات غير مقصودة للعمليات الأمريكية. ويستند تقرير “باكس” إلى ادعاءات مدنيين صوماليين، لكن المنظمة لم تتمكن من التحقق بشكل مستقل من مزاعمهم أو نسب الضربات الموصوفة للقوات الأمريكية بشكل قاطع. ويتعلق معظم التقرير بالضربات الجوية التي نُفذت في عهد إدارة دونالد ترامب.
يثير التقرير أيضًا أسئلة حول ممارسات الاستهداف والإبلاغ التي يتبعها الجيش الأمريكي والقواعد المعمول بها التي تسمح بالضربات الجوية في الصومال. تقول أماندا سبيربر، وهي باحثة ومراسلة كتبت تقرير “باكس”، إن خصوصيات الوضع في جوبالاند – حيث تمثل حركة الشباب الشكل الوحيد للحكومة – تخلق وضعًا خطيرًا بشكل خاص للمدنيين.
قالت سبيربر لصحيفة “دايلي بيست” إنه “بموجب تعريف أفريكوم لـ “المقاتل”، سيكون من الصعب معرفة من ليس هدفًا شرعيًا، نظرًا لحقيقة أن حركة الشباب قد فرضت نفسها على المجتمع الصومالي وتدير حكومة ظل ونظام ضرائب في المناطق التي لا تسيطر عليها بشكل كامل”.
وبالنظر إلى أن هذا التنظيم أصبح جزءًا لا يتجزأ من المنطقة، فإن أعضاء حركة الشباب ذوي الرتب الأدنى انضموا إليه بدافع الضرورة لكسب الرزق ولا يزال آخرون مجبرين على الانضمام تحت التهديد بالتعذيب. حتى في هذه الحالة، قد يقوم أعضاء الحركة بمهام غير قتالية مثل تحصيل الضرائب أو رعاية ماشية التنظيم – لكنهم لا يزالون يعيشون في خوف من استهدافهم من قبل الضربات الجوية الأمريكية.
في حين أن الأساس حول من يمكن استهدافه من خلال الضربات الأمريكية المضادة للإرهاب في أماكن مثل الصومال لا يزال غامضًا، فإن الآثار التي يمكن أن تحدثها الضربات على المدنيين المتضررين لا لبس فيها.
حاولت التقارير السابقة تسليط الضوء على كيفية منح الولايات المتحدة الإذن بشن غارات جوية لمكافحة الإرهاب في المناطق التي تعتبر خارج مناطق الحرب التقليدية. في عهد إدارة ترامب، تم تخفيف القواعد المتعلقة بمن يمكن استهدافه بـ “الإجراء المباشر” – أي القوة المميتة – في هذه المناطق لدرجة أن الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية وصفها بأنها “رخصة مطلقة للقتل”.
في تشرين الأول/ أكتوبر، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن الرئيس بايدن وقّع على سياسة سرية – يشار إليها باسم مذكرة السياسة الرئاسية – لتحل محل تعليمات ترامب رسميًا والتي تم تعليقها مؤقتًا بسبب القيود المؤقتة التي تم فرضها يوم تنصيب بايدن. حيال هذا الشأن، تقول سبيربر: “حقيقة أن هذا الأمر يتطلب نوعًا من المراجعة دليل على أنها مشكلة في البداية”.
وفي حين أن الأساس حول من يمكن استهدافه من خلال الضربات الأمريكية المضادة للإرهاب في أماكن مثل الصومال لا يزال غامضًا، فإن الآثار التي يمكن أن تحدثها الضربات على المدنيين المتضررين لا لبس فيها.
تضمنت معظم حالات إصابات المدنيين في جوبالاند التي تمت مراجعتها من أجل تقرير “باكس” إصابة أشخاص بشظايا ومخلفات من الضربات الصاروخية أسفرت عن وفيات وإعاقات، ومن بين القتلى أو الجرحى ستة أطفال. قال أحد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أثناء إعداد التقرير إن غارة في الساعة 2 صباحًا خارج مستوطنة برهاني أودت بحياة أم وطفل، بينما تحدثت إحدى النساء عن تسوية منزل جيرانها بالأرض بفعل غارة جوية أسفرت عن مقتل صبيان داخل البناء بحسب ما ورد.
قالت أمبورو (اسم مستعار) التي تعيش الآن في مخيم للنازحين في عاصمة جوبالاند كيسمايو بعد أن تعرض منزلها في قرية بالقرب من برهاني لغارة قبل حوالي خمس سنوات إنها سمعت صوت طائرة تحلق فوقها بينما كانت تغسل ملابسها عندما وقع الانفجار. أصيب أبناؤها – أحدهم يبلغ من العمر عامين فقط والآخر أصغر منه ولا يزالان يرضعان – بجروح قاتلة جراء الشظايا بينما أصيبت هي في إحدى عينيها بالعمى الدائم.
أصيبت امرأة أخرى – يشار إليها باسم جميلة (اسم مستعار) في التقرير – في غارة جوية حدثت في سنة 2018 في منطقة هوسينغو في جوبا السفلى لم يتضح ما إذا كانت الولايات المتحدة أو جهة فاعلة أخرى مثل الجيش الكيني هي التي نفذتها؛ لكنها لا تزال تعاني من مشاكل في الحركة نتيجة بعض الشظايا التي لا تزال عالقة في ظهرها وفخذيها وذراعيها.
تعيش جميلة الآن أيضًا في مخيم للنازحين مع ابنها البكر الذي تقول إنه تأثر نفسيًا بسبب الغارة الجوية، حيث يُقيد الآن لفترات طويلة بحسب قولها؛ حيث يُعرف أن الأشخاص المصابين بأمراض عقلية في الصومال يتم تقييدهم بالسلاسل لتجنب إيذاء أنفسهم أو الآخرين.
إلى جانب الأذى الجسدي والعقلي، تزعم منظمة “باكس” أن الضربات الجوية الأمريكية في جوبالاند تسببت في أضرار أخرى للمدنيين أيضًا. أفاد الأشخاص الذين أُجريت مقابلات معهم بأنهم فقدوا الماشية والمحاصيل في الانفجارات التي دمرت سبل عيشهم. ويقول الضحايا إنهم واجهوا أيضًا ضائقات اقتصادية بسبب الفواتير الطبية بعد الغارات، فضلاً عن الاشتباه في كونهم أعضاء في حركة الشباب – حتى عندما يصرون على أنهم ليسوا كذلك – إذ يعتقد الجيران أنهم مستهدفون لسبب ما. والأسوأ من ذلك أن ضحايا الغارات يقولون إنهم كانوا هدفًا لجهود التجنيد التي تقوم بها حركة الشباب في أعقاب الهجمات، حيث تأمل الجماعة في الاستفادة من استياء الأهالي تجاه الولايات المتحدة.
أخبر محمد عثمان عبدي لصحيفة دايلي بيست بأن “أي غارة جوية تقتل أو تجرح أو تتسبب في وقوع إصابات في صفوف المدنيين ستساعد حركة الشباب؛ التي ستستخدم هذا الأمر كأداة دعائية بالطبع”. يعرف عبدي جيدًا كيف يمكن أن تؤدي عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية في الصومال إلى نتائج كارثية، فقد قتلت غارة جوية أمريكية وقعت في شباط/ فبراير 2020 في جيليب ابنة أخته نورتو كوسو عمر أبو بكر، التي كانت تبلغ من العمر 18 سنةً في ذلك الوقت، كما أدى الهجوم إلى إصابة حماته خديجة محمد جدو، وإصابة اثنتين من بنات أخيه الأخريات، فطومة كوسو عمر وآدي كوسو عمراند.
بعد تحقيق أجرته “هيومن رايتس ووتش”، أقرت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا بمسؤوليتها عن قتل ابنة أخت عبدي وإصابة أقاربه الآخرين، الذين قال الأمريكيون إنهم كانوا “غير مرئيين” أثناء هجوم على “فرد مستهدف”.
حضر عبدي، الذي يعمل كصحفي في وكالة الأنباء الوطنية الصومالية، مؤتمرًا في اليوم التالي للغارة حول رسائل مكافحة الإرهاب تحدث فيه إلى مسؤول القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا. يقول عبدي: “أخبرتهم بما حدث – أنني ضحية تلك الضربة الجوية “. وزعم أن المسؤول أخبره أن القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا تحاول دائمًا “تجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين”. وبعد منشور له عن الغارة الجوية على وسائل التواصل الاجتماعي، قال عبدي إن مسؤولي الحكومة الصومالية اتصلوا به وضغطوا عليه للبقاء صامتًا.
عندما نصحه أصدقاؤه وأقاربه بالتوقف عن التحدث علانية، كان عبدي: “هذا ما حدث لعائلتي، دعوهم يقتلونني حتى، سأقول الحقيقة وأشرح ما حدث، سأشرح لكل من يسعى للتحدث معي”.
يقول عبدي إن ابنة أخته فطومة، التي كانت في الرابعة عشرة من عمرها وقت الضربة، تعاني جراء إصاباتها حتى يومنا هذا: “إنها تشعر بالألم عندما تطلب منها رفع أو إحضار خمسة أو أربعة لترات من الماء من مكان لآخر”، مضيفًا: “أحيانًا يكون لديها بعض المشاكل الذهنية”. عانت ابنة أخته الأصغر آدي، التي كانت في العاشرة من عمرها وقت الضربة، من الكوابيس حيث يقول عبدي: “كانت تستيقظ في منتصف الليل وهي تبكي أو تصرخ بسبب ما حدث في تلك الليلة، كانت هذه مشكلتها في الغالب، وقد قدمنا لها العلاج”. كما احتاجت حماته، البالغة من العمر الآن حوالي 80 سنةً، إلى العلاج من إصابات عينيها وساقها: “عينيها الآن بخير، لكنها ما زالت تشعر بألم في ساقها”.
يؤكد عبدي أنه لم يتلق أي اعتذار رسمي أو تعويض عن الرعب الذي أصاب عائلته خلال العامين التاليين للهجوم، قائلا: “إنه أمر مروع للغاية، لأكون صريحًا، شعرت بالحزن الشديد لتجربة ورؤية رد فعل مروع من القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا التي كانت وراء هذا الهجوم المروع ضد المدنيين الأبرياء الذين لا ينتمون لحركة الشباب أو أي جماعة”.
في ظل الضرر الناجم عن الضربات على المدنيين الصوماليين، دعا تقرير منظمة “باكس” القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا إلى النظر في وقف الضربات الجوية في الصومال بشكل مؤقت، وإجراء مراجعة مستقلة لقدرتها على التمييز بين مقاتلي حركة الشباب والمدنيين، وتقديم تعديلات على شكل المدفوعات لأولئك المدنيين الذين تضرروا من الغارات. كما يوصي التقرير بأن تعلق وزارة الدفاع عملياتها في البلاد – لا سيما في ضوء التقارير التي تفيد بأن حركة الشباب تستخدمهم كأداة تجنيد – ويدعو الحكومة الأمريكية إلى أن تكون أكثر شفافية بشأن مذكرة السياسة الرئاسية الأخيرة لبايدن التي توجه استخدام ضربات الطائرات بدون طيار لمكافحة الإرهاب خارج مناطق الحرب التقليدية.
حيال هذا الشأن، تقول سبيربر: “الصوماليون لا يحبون حركة الشباب ويسعدهم الحصول على الدعم. أعتقد أن القضية هي فقط [في ضوء الضرر اللاحق بالمدنيين]، هل هذه هي أفضل استراتيجية للقيام بذلك؟”، علما بأنها أجرت البحث الذي قدمه تقرير “باكس” كمستشارة، لكنها لم تشارك في توصيات السياسية الخاصة به. وقد اتصلت صحيفة “دايلي بيست” بوزارة الدفاع والقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا للتعليق.
المصدر: دايلي بيست