ترجمة وتحرير: نون بوست
تبدأ رحلتي إلى مدرسة الجاسوسية في ضوء الفجر الخافت في مدينة تبدأ بالاستيقاظ؛ لا أعرف إلى أين أنا ذاهبة، فقط تلقيت تعليمات بأن أقابل جهة الاتصال الخاصة بي عند أحد معالم وسط لندن. سافرنا بالسيارة والقارب والقطار إلى مكان حيث يأتي من يريد تعلم مهنة ضباط جهاز الاستخبارات البريطاني، أو وكالة التجسس الخارجية المعروفة باسم “إس آي إس”. لا يُسمح لي بوصف المكان لك، لكن يمكنني أن أخبرك أنه عملاق ومتقشف والرياح الجافة تجعل عيني تدمع.
عند الباب؛ قابلتني امرأة مرحة صغيرة الحجم ذات شعر أشقر قصير مموج، يتعارض ترحيبها المبهج مع الغرابة العقيمة لهذا المكان. اسمها كاثي وهي المسؤولة عن جميع العمليات الاستخباراتية التي تضم ضباط جهاز الاستخبارات البريطاني وعملائهم في جميع أنحاء العالم، وتشير إلى باتجاه صف من الكراسي بذراعين بجوار نافذة كبيرة تطل على مشهد مرصوف.
تمزح قائلة إنه عندما عُرض عليها العمل لأول مرة في الوكالة، المعروفة أيضًا باسم “إم آي 6” أو “الاستخبارات العسكرية، القسم السادس”، سألتها والدتها عما إذا كانت تريد حقًأ أن تلتزم بشيء “غريب وغير مألوف”، فيما قال والدي ببساطة “فلتفعلي ذلك”. وتضيف هذه المرأة المتبسطة القادمة من شمال لندن إنها “لا تتميز بالشجاعة تحديدًا” لكنها واحدة من أقوى الجواسيس في بريطانيا.
كاثي هي واحدة من أربعة مديرين عامين في جهاز الاستخبارات البريطاني، كل منهم مسؤول أمام الرئيس المعروف باسم “سي”. ولأول مرة ثلاثة من المدراء من النساء، وهن يعملن في أهم مجالات التجسس وأسرعها تطورًا. كاثي هي مديرة العمليات، وريبيكا تشغل منصب نائبة الرئيس وتشرف على الإستراتيجيات، أما وظيفة جهاز الاستخبارات الأكثر شهرة تعود إلى آدا رئيسة التكنولوجيا، التي تعرف باسم “كيو” تيمنًا بالعقل المدبر الذي يمد جيمس بوند بالأدوات. لقد أمضيت ستة أشهر في إجراء مقابلات معهن حول كيفية وصولهم إلى القمة في مهنة يسيطر عليها الرجال ومحاولة فهم كيف تبدو حياة الجاسوسة حقًا.
ونظرًا لأن رئيس جهاز الاستخبارات هو العضو الوحيد في الوكالة الذي يعرف باسمه أو يسمح له بالتحدث علنًا، ولأنهم كانوا عادة من الرجال، فهذه هي المرة الأولى التي تتحدث فيها ضابطات مكتب الاستخبارات البريطاني بشكل رسمي. اتفقت على تغيير أسمائهن وحذف تفاصيل معينة لحمايتهن وحماية المصادر التي يعملن معها، ولقد وافقن على التحدث معي لتشجيع المتقدمات وتصحيح تصور مجال الجاسوسية بأنها لعبة الرجال.
يتماشى عدم إبراز هؤلاء الثلاثة اللاتي يشغلن أكبر المناصب مع تاريخ النساء في المخابرات البريطانية. في الماضي كان يتم التغاضي عن النساء أو إقصاؤهن إلى وظائف السكرتارية، أو توزيعهن كـ “مصائد” لإيقاع الأعداء أو ابتزازهم قبل حقبة جهاز الاستخبارات البريطانية، وعندما شارك فيرنون كيل في تأسيس بدايات جهاز الاستخبارات في عام 1909، حدد تصوره للمجند المثالي من الرجال بأنه “من يستطيع تدوين الملاحظات على كم القميص أثناء ركوب الخيل”، وكانت آرائه حول النساء أقل شهرة، ويقال إنه علق ذات مرة: “أحب أن تتمتع فتياتي بسيقان جميلة”. وعلى الرغم من إثبات النساء لقدراتهن بمهارة وشجاعة كبيرتين خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كافحن للتقدم في جهاز الاستخبارات البريطاني والوكالة الشقيقة “إم آي 5” المعروفة بالمكتب الخامس، ولم يجندن بانتظام كضباط استخبارات حتى أواخر السبعينيات.
وتكررت هذه العنصرية ضد النساء وتمت المبالغة فيها في الروايات الرائجة التي كتبها جواسيس سابقون مثل إيان فليمنغ وجون لو كاريه، فضابط الاستخبارات الخيالي جيمس بوند يداعب سكرتيرته ويضيف الإثارة على عملياته بعلاقات مسرفة ويصادف القليل من الجواسيس الإناث، وأشهرهن ضابطة مكافحة التجسس الروسية المتهورة روزا كليب. واشتهرت النسخ السينمائية لكتب فليمينغ بنوع كامل من “فتيات بوند” لا يتم تصويرهن أكثر من مواضيع إغواء. وكذلك لو كاريه الذي اشتهر بسجلات الجاسوسية للحرب الباردة من بطولة ضابط المخابرات القزم جورج سمايلي، وقد عبر عن وجهة نظر ثنائية الأبعاد مماثلة، فشخصياته من النساء عبارة عن فاتنات يملكن سيطرة جنسية قوية على أبطال الرواية الذكور ولكن لا يملكن الكثير من التعبير عن الذات، فيما كانت الاستثناء الوحيد هي كوني ساكس “مراقبة موسكو”، والتي كانت شخصية كاريكاتورية في الاتجاه المعاكس، وتتميز بغرابة الأطوار وذاكرة موسوعية وقد استسلمت لإدمان الكحول بعد إقصائها عن الوظيفة التي تتفوق فيها.
ولا تكاد التصورات المتحيزة جنسيًّا تقتصر على أفلام التجسس، لكنها شديدة الأهمية في المهنة التي يشجَّع فيها على الغموض وتصنيف الواقع، وكما في العديد من جوانب إرث بوند، تصبح التصورات التي يتم تكوينها من خلال مراجع ثقافية ذات حدين. وصنعت الأفلام علامة أسطورية من جهاز الاستخبارات البريطاني، لكن تصويرها لعمليات القتل الاستهدافية والعمليات الفردية بعيد كل البعد عن الدقة. ففي حالة جهاز الاستخبارات البريطاني، فإن الغياب التاريخي للمرأة هو إغفال خطير كما هو سلاح سري. إن الخصوم الرئيسيين للمملكة المتحدة اليوم من الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، وهم من المجتمعات القمعية؛ حيث تقل النساء في مناصب السلطة وتصبح هذه نقطة ضعف في العدو يمكن للجاسوسة استغلالها، فالمرأة لديها القدرة على أن تكون أفضل الجواسيس على الإطلاق، لأنه سيتم التغاضي عنها في أغلب الأحيان.
قبل أربع سنوات؛ أطلق جهاز الاستخبارات البريطاني أول إعلان تلفزيوني لتجنيد المزيد من النساء والأقليات العراقية، ويبدأ الفيلم بلقطات لسمكة قرش تشق المياه بشكل خطير، قبل أن يتحرك المشهد ليكشف عن مشهد أكثر اعتدالًا: سيدة وصغيرها ينظران إلى المفترس من الجانب الآخر من زجاج الحوض، وتم تصميم المشهد الأخير لإلغاء “غيرية” الجواسيس: “في السر، نحن مثلك تمامًا”.
هذا ليس صحيحًا تمامًا؛ فالجواسيس لا يشبهوننا كثيرًا والعمل في جهاز الاستخبارات البريطاني هو تجربة غريبة بشكل واضح؛ حيث لا يمكنك إخبار أي شخص بخلاف العائلة المقربة عن وظيفتك، وحتى هم لا يُسمح لهم بمعرفة أي شيء عن أنشطتك اليومية. ومن المفترض أن تغلق هاتفك قبل وقت طويل من الاقتراب من المقر الذي يبدو كالزقورة الزمردية على جسر فوكسهول بوسط لندن، وبمجرد الوصول إليه يجب حفظ الهاتف في خزانة، فهناك لا يتوفر سوى اتصال محدود بالإنترنت والاتصال الوحيد بالعالم الخارجي عبر الخط الأرضي، كما أن العمل من المنزل صعب للغاية لأنه غير آمن، ولذلك؛ وعلى الرغم من أن المنظمة تشجع المرونة، فإن هذا مقيد بحقيقة أن ساعات عملك يجب قضاؤها غالبًا في المكتب تصبح إدارة الحياة اليومية مرهقة بشكل غير عادي. وعلى حد تعبير أحد ضباط المخابرات فإن المعاملات المعقدة مثل شراء منزل هي “كابوس”.
عندما تجاوزت كاثي عتبة مقر جهاز الاستخبارات البريطانية لأول مرة منذ ثلاثة عقود؛ كان قلقها أكثر وضوحًا: هل كانت على المستوى المطلوب للمهمة؟ لكن أخبرها المسئول عن مقابلتها “لا تقلقي، لن تضطري إلى إطلاق النار، ولن تقفزي من أي مروحيات”، وأضاف: “هذه ليست وظيفة جيمس بوند”، ولاحقًا تم إرسالها في منطقة حرب وعملت جنبًا إلى جنب مع الجيش كما تدربت على التعامل مع الأسلحة النارية للدفاع الشخصي، وقد أخبرتني بهذين الأمرين كما لو أنه لا يوجد تناقض بينهما على الإطلاق.
كان طريقها إلى جهاز الاستخبارات معياريًا: كانت في العشرينات من عمرها، وقد حصلت مؤخرًا على درجة الدكتوراه في الأدب وكانت تتقدم للقبول في برنامج تدريب الخريجين في وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث للمرة الثانية. وتم تحويل كاثي إلى مسار التجسس عبر رسالة تدعوها إلى إجراء مقابلة ستقدم لها “فرص خارجية بديلة” والتي طُلب منها عدم مناقشتها مع أي شخص، ولطالما أرادت أن تكون سفيرة، لكنها أصبحت مفتونة بهذه المنظمة الموازية وطرقها في إقامة الروابط مع الغرباء.
لم تكن مناسبة بالفطرة، فالصورة النمطية لضابط الاستخبارات وفقًا لأسطورة الخدمة المدنية هي رجل أبيض من الطبقة العليا يرتدي بنطالًا قماشيًّا رملي اللون وأحذية صحراوية برقبة طويلة. في البداية أرهبتها فخامة المكتب؛ حيث تتذكر ضاحكة: “لم يكن هناك الكثير من الأشخاص ذوي اللهجات الإقليمية”. وتبدأ كل دفعة من المجندين الجدد معًا وقد كانت معظم دفعة كاثي من جنوب إنجلترا الأكثر ازدهارًا ممن التحقوا بجامعات مثل أكسفورد أو كامبريدج، أما هي فنشأت في الشمال الغربي وذهبت إلى مدرسة قواعد لغوية محلية وجامعة مغمورة؛ حيث تقول: “لقد كنت أقرب إلى فتاة ريفية”، مضيفةً “كان عليّ أن أتعلم كيف استخدم قطار الأنفاق. أعتقد أنني زرت لندن قبلها مرتين فقط لأذهب للمسرح مع أمي”.
بدأت كاثي في وظيفة مكتبية تختص بأنظمة الأسلحة الإيرانية، لكنها تقدمت في الوظائف حتى وصلت إلى الإشراف على عملاء في جميع أنحاء العالم. (في جهاز الاستخبارات البريطاني عادة ما يطلق مصطلح “عملاء” على مصادر الاستخبارات أو المتعاونين المعروفين باسم “الأصول” في مصطلحات التجسس الأمريكية). وهذا يعني الابتعاد عن شريك حياتها الذي بقي في المملكة المتحدة؛ حيث إن الحياة التي تصفها كانت مثيرة بين السفر وتعلم اللغات و”التقرب” من أناس وثقافات جديدة كما كان وصفها لعملها أكثر إثارة، وتروي عن الأيام التي سبقت أنظمة القياس الحيوية “البيومترية”، حينما كانت تتنقل من بلد إلى آخر بدون أن يلاحظها أحد، متنقلة في أغلب الأوقات سيرًا على الأقدام وتغير تنكرها في الطريق. وكان شعرها المستعار المفضل أحمر اللون في تصفيفة شعر الممثلة فرح فاوست من السبعينات، كما كانت تتجول في بعض الأحيان وهي تحمل 50 ألف جنيه إسترليني في حقيبة يدها، ويُفترض أنها لكي تدفع للعملاء، لكنها لم تخض في التفاصيل؛ حيث تقول: “إنها حقًا وظيفة غريبة”.
لم يكن تجنيد وإدارة العملاء في الخارج أمرًا سهلاً دائمًا، خاصةً أن نموذج الدور المتعارف عليه ذكوري بشكل مبالغ به؛ حيث تقول كاثي: “في بداية مسيرتي المهنية شعرتُ كما لو أن هناك طرقًا معينة للتصرف وإنجاز الأشياء التي كانت بمثابة تحديًا لي”، وقالت: “كان هناك بالتأكيد بعض الذكورية حول تصور الشخص الذي يدير العملاء وحيدًا”، في ذلك الوقت وكما الحال الآن، فإن أساليب الترابط التي تنجح في العلاقات بين الرجال لا تنطبق على العلاقات بين الرجل والمرأة، وتقول: “ليس من الضرورة أن أجلس لشرب الويسكي طوال الليل مع عميل”، موضحة أنه كان عليها أن تعمل بطريقتها، مثل أن تدعو الناس إلى منزلها وهو ما ينشأ عنه درجة من الثقة بشكل فوري. وفي وقت من الأوقات مارست لعبة الجولف في محاولة لبناء علاقة مع وكيل محتمل كان مهووسًا بهذه الرياضة لكن لم يسر الأمر جيدًا؛ حيث قالت: “أخبرني مدرس الغولف في الدرس الثالث ببساطة أن “هذه ليست لعبتك””.
وتجادل كاثي أنه على غير المتوقع يكون للمرأة أحيانًا اليد العليا في البلدان الأكثر تحفظًا، وتقول: “عندما تلعب في ثقافة يهيمن عليها الذكور بشكل خاص، يميل الناس إلى التقليل من شأن المرأة وبالتالي يُنظر إليها على أنها أقل تهديدًا”، ووضحت “كانت هذه ميزة بالنسبة لي، لأنه في بعض الأحيان لن يتوقعوا قدومك. ويتعلق الأمر بما يتصورون عن جهاز الاستخبارات وهم لا يتوقعون بالضرورة أن تظهر أمامهم امرأةً أصغر سنًا، وتقول إن عنصر المفاجأة هذا “يمكن أن يصبح المكون السري”.
الاقتراب من الغرباء والحفاظ على سرية عملك عن الأصدقاء يتطلب الخداع، ووجدت كاثي نفسها؛ ككاثوليكية ذات “شعور متطور بالذنب”، الأمر صعبًا بشكل خاص؛ حيث تقول: “هناك مفارقة في قلب هذه الوظيفة، لأننا أخلاقيين لكن علينا أيضًا أن نكذب. بالفعل قد يبدو ذلك مبتذلًأ ولكننا نفعل ذلك لأن هناك هدف نحتاج إلى تحقيقه من أجل الصالح العام”، وأضافت: “أشعر بوخزة كل مرة أضطر فيها للكذب إلى صديق وأنا أخبره بما كنت أفعله عندما لا تكون الحقيقة”.
ولا يعرف معظم أصدقاء كاثي المقربين أنها جاسوسة، فمثل جميع ضباط الاستخبارات فإن قصتها اليومية للتغطية على عملها هي أنها تعمل في وزارة الخارجية، وعندما تُسأل عن العمل ترد بوصف وظيفة “مملة للغاية لدرجة أنهم لن يسألوا مجددًا، أعتقد أن أصدقائي المساكين يشعرون بالأسف تجاهي”؛ بحسب ما قالت.
وهناك أوقات يكون فيها التظاهر بالقيام بوظيفة سياسية غير معقول، خاصةً عندما تكلفين بعمل في الخارج أثناء استضافة الضيوف “يدرك بعض أصدقائي الآن ما أفعله لأنه في مرحلة ما، يصبح من غير المعقول أن يكون لدي ستة هواتف محمولة في حقيبة يدي، وحين يرن أحدها أضطر للخروج وأنا أقول شيئًا من قبيل “آسفة حقًا، لكن علي أن أترك العشاء الآن. قد لا أعود حتى وقت متأخر جدًا الليلة، لذا ها هي مفاتيح المنزل ولا حاجة للقلق”.
الجاسوسات الثلاثة اللاتي تحدثتُ إليهن ملتزمون بعدد من القيود: قانون الأسرار الرسمية، الذي يجعل الكشف عن المعلومات السرية جريمة جنائية؛ وتعهد جهاز الاستخبارات البريطاني بأنه لن يكشف أبدًا عن هويات موظفيه أو عملائهم؛ وحرصهم شخصيًا على تجنب صد المجندات المحتملات بحكايات مروعة. (كان المكتب الخامس قلقًا بشأن انخفاض نسبة المتقدمات سنة 2002 بعد حلقة في مسلسل “سبوكس” الجاسوسي والذي أظهر متدربة شابة وقد أغرقت في مقلاة زيت عميقة، وفقًا للتقارير في ذلك الوقت).
في بعض الأحيان يتضح التحفظ في حديث الجاسوسات، فقد ساعدت كاثي، التي عملت في مكافحة الإرهاب خلال ذروة نشاط تنظيم الدولة في العراق وسوريا، في تعطيل الهجمات التي تستهدف المملكة المتحدة. وتخضع التفاصيل للسرية بالطبع ولكن عندما أسألها عما إذا كانت قد أنقذت أرواح البريطانيين، يبدو الأمر كما لو أنه هناك حصار عاطفي كذلك؛ حيث تقول بتردد: “نعم” وتعقب “لكنني لا أريدك أن تعتقدي أنني وحدي من فعلت ذلك”، إنها مترددة في نسب أي فضل لها في العمليات التي تؤكد بشدة أنها كانت جهدًا جماعيًا، وهي من بين الجاسوسات الثلاث اللاتي تحدثت إليهن، وتتحمل المسؤولية الأكبر في حماية هويات عملاء جهاز الاستخبارات البريطاني، الذي وصفته بـ “سرنا الأشد حراسةً”، ربما لهذه الأسباب بدت وكأنها أخضعت كلماتها للرقابة أكثر من الآخريات، وتقول: “أنا محظوظة للقيام بهذا العمل”، مستفيضةً: “نرى جميعًا الصور المروعة للصراع الروسي في أوكرانيا. أحد الأشياء التي تجعلني أستمر في عملي هو أنني أعلم أننا نساهم في مكافحة الأزمات التي واجهتها المملكة المتحدة وحلفاؤنا العام الماضي وسوف نواجهها العام المقبل”، وبذلك أغلقت موضوع إراقة الدماء على الأراضي البريطانية.
النموذج التاريخي للجاسوسة هو ماتا هاري، المحظية الهولندية التي اتهمت بجمع معلومات استخباراتية للألمان خلال الحرب العالمية الأولى وقد أعدمتها فرقة إعدام بالرصاص فرنسية.
ولكن في وقت مبكر من سنة 1945، حاول ماكسويل نايت – قائد وحدة التجسس في زمن الحرب قيل إنه كان نموذجًا لرئيس الاستخبارات فليمينغ “إم” – دحض ما أسماه “تحيزًا طويل الأمد واهٍ” ضد توظيف النساء ورفض فكرة أن الجنس لعب “دورًا مثيرا للجدل وخطيرًا في عملهم”، وأعلن نفسه معارضًا تمامًا لما أسماه “أساليب ماتا هاري” وكتب في مذكرة إلى زملائه: “أنا مقتنع بأنه تم الحصول على المزيد من المعلومات من قبل النساء من خلال الابتعاد عن أحضان الرجل أكثر مما تم الحصول عليه عن طريق الدخول معهم في علاقات عن طيب خاطر”.
وتحدث جميع جميع الجواسيس الإناث الذين تحدثت إليهم، سواء كانوا متقاعدين أو عاملين، بشأن مخاطر قيام عملاء محتملين بإساءة قراءة نواياهم؛ حيث تُعقد الاجتماعات مع مصادر المخابرات في غرف الفنادق وغالبًا ما تكون أثناء التنقل بالسيارات ويعتبر كلاهما من المواقع الحميمة بشكل محرج. وأخبرتني إحدى الجاسوسات التي ارتقت في رتب جهاز الاستخبارات البريطاني قبل 40 سنة أنها تميل إلى الاعتراف بأنها عضو في المخابرات البريطانية في وقت مبكر جدًا من العملية أكثر مما قد يفعله رجل، وذلك لتجنب أي لبس، فخلال أيام عملها كعميل، قامت آدا ( التي تشغل الآن منصب كيو) ببناء روابط عائلية بشكل صريح.
من وجهة نظرها تساهم هذه الروابط في تغيير الكثير من المعطيات وتغيير نظرة العميل؛ حيث كانت تقول بصراحة شديدة “أشعر أنني أختك أو يمكنني أن أتخيل أنك أخي” أو “أنا أحترمك حقًا كأبي وانت كذلك بكل ما أوتي للكلمة من معنى” (في دراما الجاسوسية الفرنسية لسنة 2015، التي تعرف باسم بيرو دي ليجوند، استخدمت ضابطة مخابرات شابة التي وقع في غرامها عالم إيراني الأسلوب ذاته. فعندما تقول إنه يذكرها بوالدها الراحل، يتبدد التوتر بينهما).
وتعليقًا على ذلك؛ ألقت كلير هوبارد هول، المؤرخة الاستخباراتية، باللوم على الثقافة الشعبية على “تأطير” النظرة العامة للجواسيس بشكل غير عادل على أنها “ذات طابع جنسي للغاية”، وتقول الأكاديمية – التي تكتب سيرة ذاتية لما تسميه “النساء المنسيات” للمخابرات البريطانية، بما في ذلك سكرتيرة جهاز المخابرات البريطاني الشجاعة التي ألهمت شخصية فليمينغ آنسة مونيبيني – إن كلمة “سكرتيرة” كانت تستخدم غالبًا لإخفاء النساء اللواتي تطورت أدوارهن إلى ما أبعد من رتبهن، وهذا يفسر الغموض النسبي الذي تعاني منه النساء العاملات في العمليات الاستخباراتية، والوضع المتدني لمعظم الموظفات.
وتجعل القيود المفروضة على الجاسوسات من الصعب للغاية البحث عنهن. فحتى سنة 1973؛ كان على المتزوجات ترك الخدمة على الفور. ونتيجة لذلك، ظلت الكثيرات منهن عازبات ولم ينجبوا أطفالًا، ويجب على المؤرخين البحث عن وثائق مثل اليوميات المدفونة في أرشيفات العائلية؛ حيث تقول هوبارد هول إن “تعقب الآنسة مونيبيني الحقيقية كان “مثل محاولة العثور على شبح”.
لم تكن آدا شخصًا يثنيها عدم وجود أسلاف من الإناث: التجسس كان الوظيفة الوحيدة التي تريد ممارستها على الإطلاق، فقد نشأت في الخارج، وقد استولت على كتاب دليل أوسبورن للتجسس من شقيقها الأكبر، وشطبت اسمه من الغلاف الداخلي وكتب اسمها مكانه. لقد أتقنت هي وأصدقاؤها رمز زريبة الخنازير، وهو نظام تشفير يستبدل الحروف بالرموز، وكانوا يتركون ملاحظات لبعضهم البعض تحت أواني الزهور، ولهذا لم يكن مفاجئًا أنه عندما تقدمت للعمل في وزارة الخارجية في أوائل العشرينات من عمرها، تم تحديدها كمرشحة قد تكون أكثر ملاءمة لجهاز الاستخبارات البريطاني، وباعتبار أنها تصف نفسها “مهووسة” بعملها، تصف وظيفتها الأولى في مكافحة الانتشار النووي بأنها مزيج من التعامل مع “العلم العميق حقًا” للتكنولوجيا النووية و”علاقات وثيقة بشكل لا يصدق مع عدد من الوكلاء المختلفين الذين كانوا يخاطرون حياتهم ليتمكنوا من مشاركة الأسرار معنا”.
ويقع هؤلاء العملاء في صميم مهمة الاستخبارات البشرية؛ حيث يقدمون المعلومات عن الخلايا الإرهابية وبرامج الأسلحة، وبشكل متزايد، عن الحرب السيبرانية. بينما أن القسم الخامس في هيئة المخابرات العسكرية، وكالة التجسس المحلية، تزرع مصادر داخل المملكة المتحدة، ويتواصل ضباط جهاز الاستخبارات البريطانية عبر الانقسامات الثقافية واللغوية والدينية، ويطلبون من الناس أن يخونوا بلدانهم وحكوماتهم. ومنذ جمود الحرب الباردة وصولا إلى أحداث 11 ايلول/سبتمبر وجهود مكافحة الإرهاب وحتى صراعات القوى العظمى اليوم؛ ظل هذا الجانب من المهنة ثابتًا، ومهما كانت التهديدات الجديدة التي تنشأ، فمن غير المرجح أن تتغير. وحسب آدا؛ لا تشبه علاقتك بعميلك أي علاقة أخرى، التي من المحتمل أن تتأثر بالمخاطر التي يشكلها كل واحد على الآخر، وتُبذل جهود هائلة قبل الاتصال بشكل أولي بمصدر محتمل لجهاز الاستخبارات البريطاني. وتعمل فرق المتطلبات على تحسين أولويات الاستخبارات؛ حيث يقوم علماء البيانات بالبحث خلال تيرابايت من المعلومات للعثور – على حد تعبير كاثي – على “الهدف المتلألئ” الذي قد يكون لديه دافع للتعاون معهم. ويضع مسؤولو الحالة الإستراتيجيات، بينما يخطط خبراء المخاطر التشغيلية لكيفية تعرّف ضابط في جهاز الاستخبارات البريطاني على الهدف في اللحظة المناسبة. ويقوم فريق من المهنيين المسرحيين السابقين بتجهيز الضابط بأزياء تنكرية، وبعد إجراء الاتصال؛ يخطط التقنيون لأنظمة اتصالات سرية للسماح للعملاء بنقل الأسرار إلى الضباط.
وهنا يأتي دور آدا وفريقها. وهي الآن في الأربعينيات من عمرها، وكانت أول امرأة يتم تعيينها في منصب “كيو” في رتبة مدير عام ومدير. وكانت آدا طويلة القامة ورياضية بشعر أشقر قصير وتميل لوضع لدبابيس لامعة كبيرة على شكل حشرات التي تقول إنها تميل إلى إثارة قلق جهات الاتصال في مجالها الذين يشتبهون في وجود كاميرا أو ميكروفون مخفي بداخله. ونلتقي في مختبر كيو، الذي تم تصويره بشكل مشهور في أفلام بوند على أنه ورشة عمل تشيه الكهوف تحت الأرض؛ حيث يتم تفكيك سيارات أستون مارتن، وتفجير علب السجائر، وفي السنوات الأخيرة، باتت تضم شاشات كمبيوتر عملاقة. وعلى الرغم من أنني كنت بعيدة تمامًا عن أي نماذج أولية أثناء زيارتي، فقد قيل لي أن فرع كيو لا يزال يبتكر تقنيات تخفي عالية الجودة داخل الأشياء اليومية، مثل الساعات وأكواب الشاي وأزرار الأكمام وحتى الدبابيس. وعندما سألتُ آدا عن الأدوات اليومية التي استخدمتها مؤخرًا لإخفاء جهاز معين، قالت “أي شيء على هذه الطاولة، أي شيء يمكنك رؤيته في هذه الغرفة”.
تتسم عمليات كيو بسرية شديدة لدرجة أنه لا يُسمح لي بوصف أي منها، حتى بأبسط العبارات. ولا يسعني إلا أن ألاحظ أنه، بالنظر إلى حجم التهديد التكنولوجي الذي تشكله الدول المعادية، فإن أجهزة الكمبيوتر تعتبر خير برهان مساعد. وتجري عمليات التجسس بشكل متزايد في المجال الرقمي غير المادي، باستخدام أدوات مثل الذكاء الاصطناعي. ويتمتع الفريق بأخلاقيات مميزة خاصة به، تشمل تنظيم المشاريع تحت اسم “ثقافة كيو”. وفي هذا السياق، تقول آدا “لا يمكنك التحدث عن كيو دون أن تبتسم، ولا يقصد بها العلامة تجارية لفيلم كيو هنا، فمن الوقاحة الاعتقاد بأنه يمكنك إنجاز الأشياء دون تحقيق ذلك التوازن الرائع بين أن تكون ممتعًا حقًا وجديا للغاية في الوقت ذاته”.
وعلى الرغم من أن هذه الوظيفة لا تحظى بجاذبية على المستوى العالمي؛ فإن فرع كيو يضم الآن عددًا أكبر من النساء مقارنة بالرجال في الرتب العليا، إلا أنهن أقل تمثيلا في القسم ككل، وكانت أدا حريصة على تغيير هذا، لكن النقص الأوسع في عدد النساء في العلوم والهندسة جعل عملية التوظيف أكثر صعوبة، فحتى هي نفسها لم تدرس العلوم والتكنولوجيا، وتكمن قوتها في الخبرة العملية التي اكتسبتها من خلال سلسلة من الوظائف في الخارج؛ حيث تعلمت اللغة العربية وأدارت عملاء، بما في ذلك في مناطق الحروب. ولبعض هذا الوقت كانت لديها عائلة، وهو الأمر الذي تسبب لها في مشاكل عملية غير عادية. ففي بداية أحد المهمات، حصلت على سيارة مصفحة وأصبحت أول ضابط في الخدمة يسأل عن مكان نقاط تثبيت إيزوفيكس حتى تتمكن من إدخال مقعد سيارة طفلها؛ حيث تقول: “كان هناك الكثير من القلق والناس الذين يقولون إنهم لم يتلقوا طلبا كهذا من قبل. وفي الواقع، اتضح أنه من الصعب جدًا القيام بذلك” (لقد وجدت طريقة في النهاية).
وكما تصفها آدا؛ فإن صعوبات العمل مع الأطفال في الخارج لها مزايا أيضًا، وعلى عكس الشخصيات في الأفلام التي تنطلق من لندن للقيام بعمليات عاجلة، يعمل معظم ضباط جهاز الاستخبارات البريطاني في السفارات الأجنبية تحت غطاء دبلوماسي ويقضون قدرًا صغيرًا نسبيًا من وقتهم في تنفيذ العمليات الحساسة. وحسب آدا: “لقد تم منحك قدرًا كبيرًا من الاستقلالية للعمل على كيفية أداء وظيفتك في أي ظرف من الظروف. وعندما يتم إرسالك إلى الخارج، فأنت تعيش حياة عادية جدًا ظاهريا. لكننا نقوم بمهام استثنائية في خدمة البلد، ولكن من المهم حقًا أن تبدو عادية”. ولم يمنعها العمل في الخارج عن العائلة؛ حيث تقول: “يمكن لظهور الحمل أن يحفز محادثات غير اعتيادية”، وقد أراح هذا الموضوع بعض من أصعب المتحدثين معها حيث وجد الفرصة للتحدث عن آماله لأطفاله أو للجيل القادم”.
وأظن أن الضباط من الذكور والإناث الذين يعيشون في الخارج يشركون عائلاتهم بطرق أكثر وضوحًا، أثناء المراقبة مثلًا، في كثير من الأحيان أكثر مما يعترفون به. حتى أن هناك سوابق تاريخية للأطفال الذين يتواجدون أثناء تنفيذ العمليات الحساسة، فقد تم طرد المنشق عن المخابرات السوفيتية أوليغ غورديفسكي من الاتحاد السوفيتي في سنة 1985 من قبل دبلوماسيين بريطانيين وزوجتيهما، وقد أنجبت إحداهما طفلا. (بينما تم الإبلاغ عن هذا على نطاق واسع، لم يؤكد جهاز الاستخبارات البريطاني أبدًا أن غورديفسكي كان عميلهم) عندما تجمعت الكلاب البوليسية حول السيارة على الحدود مع فنلندا، بدأت والدة الطفل، التي كانت تخشى اكتشاف المخبأ في الصندوق، من تغيير الحفاض مباشرة فوق المكان الذي تم إخفاؤه فيه. عندما أسقطت الحزمة المتسخة على الأرض، هربت الكلاب في رعب، وفقًا لكتاب المؤلف البريطاني بن ماكنتاير.
قبل عقدين من الزمن من تلك الحادثة، في سنة 1961؛ ابتكر جهاز الاستخبارات البريطاني خطة لزوجة رئيس محطة موسكو لجمع المعلومات الاستخباراتية من جاسوس عسكري سويتي؛ حيث كانت تقابله في حديقة، وكان يقدم للأطفال حلوى من صفيح يحتوي أيضًا على اسطوانة أفلام سرية. ويروي الصحفي غوردون كوريرا أنه عندما حملت، بدأ البحث عن زوجة أخرى في السفارة لها طفل يمكنه عمره من ركوب عربة الأطفال. وتجدر الإشارة إلى أن جهاز الاستخبارات البريطاني امتنع عن التعليق على ما إذا كانت مثل هذه الأنشطة متواصلة اليوم.
من الصعب التوفيق بين مشاركة الأسرة في هذه القصص والقوة الذهنية المطلوبة لتنفيذ عمليات التجسس؛ حيث تعترف آدا بأنها اضطرت إلى تطوير مرونة نفسية للتعامل مع العمل الميداني “الصعب، والخطير في بعض الأحيان”، وأضافت: “لقد فعلت بعض الأشياء غير العادية في أماكن استثنائية، ولقد مررت ببعض التجارب الصعبة، المهنية والشخصية على حد سواء، كما مررت بأوقات من صدمة وتجاوزتها بدعم هائل من الجهاز ذاته”، وتقول إنه بينما كان الاعتراف بهذه القضايا يعد خطوة شجاعة، لا يوجد مكان لمفهوم “بطولات” في ثقافة جهاز الاستخبارات البريطاني.
وبدلاً من النظر إليها من عدسة الفتاة المفتولة العضلات؛ تقول آدا إنها استفادت خلال مسيرتها المهنية من معاملتها كـ”فئة ثالثة”، لا ذكرًا ولا أنثى، وبينما أن الزملاء الذكور يؤدون مهامهم بصفتهم ذكورا، إلا أنه كان من السهل عليها عليها إنشاء علاقات جديدة ومختلفة لأنه سرعان ما تبدد التوقعات المعتادة من أي امرأة، ويكون هذا النوع من العلاقات مفيدًا عند الدخول في علاقة مجهولة الطبيعة بين جاسوس وعميل.
وفي هذا السياق؛ توضح آدا “في اللحظات التي تقرر فيها أن تصبح عميلًا؛ يتعين عليك إجراء الآلاف من الحسابات القائمة على دراسة المخاطر المحتملة، لكنك لست متأكدًا تمامًا من كيف استجابتك عاطفيًّا لبعض المواقف التي تتعرض لها والعلاقات التي تربطها. ليس هناك آداب وقواعد واضحة في هذا المجال. ومن المفارقات أنه عليك دائما الوقوف على أرض محايدة”، وتشرح آدا أن النساء في هذا المجال بارعات حقًا في إيجاد أرضية مشتركة.
تطلب البارونة ميتا رامزي كوبًا من شاي إيرل غراي وتحثني على تذوق كعكة، ونحن نجلس في غرفة وغن في مجلس اللورد، وهي غرفة مغطاة بألواح خشبية مع ورق جدران من الطراز القوطي الفيكتوري رسم عليه خيوط لولبية باللونين الأحمر والذهبي، وعملت رامزي ضابطة استخبارات سابقة وهي الآن في الثمانينيات من عمرها؛ على الرغم من أن الوكالة لن تؤكد أو تنكر أنها عملت هناك على الإطلاق، فقد كانت رئيسة محطة هلسنكي التابعة لجهاز الاستخبارات البريطاني في وقت هروب غورديفسكي وكانت واحدة من امرأتين فقط حظين برتبة رفيعة في السبعينيات والثمانينيات.
وفي سترة كارديجان أرجوانية أنيقة وبلوزة أرجوانية وبروش جمشت، تشبه رامزي الجدة الأسكتلندية اللطيفة، إلا أن قصصها تنطوي على مخاطر أكبر بكثير من مظهرها الهادئ. على الرغم من أنها كانت متحفظة للغاية، لكن خلف قصصها وهي في الخدمة، كان هناك غضب حقيقي بشأن الطريقة التي عوملت بها النساء، فقد شغلت هي وصديقتها الكبيرة دافني بارك – ضابط كبير في جهاز المخابرات البريطاني وتوفيت سنة 2010 عن عمر 88 سنة – وظائف متميزة لكنها فشلت في الوصول إلى أعلى المراتب؛ حيث كانوا يشتبهون في أن ذلك يعزى لعوامل متعلقة بجنسهم.
وتتحدث رامزي بصوت أسكتلندي ناعم يرتفع عندما أسأل عن سجل الضابطات في جهاز الاستخبارات البريطاني. وخلال حديثها؛ أعربت عن استيائها لأن بارك، ضابط المخابرات التي تولت مهام استخباراتية في موسكو، ولوساكا، وهانوي، وأولان باتور، لم تصل إلى أعلى الرتب. (لم يؤكد جهاز الاستخبارات البريطاني أو ينفي توظيف بارك)؛ حيث قالت وهي تنقر على الطاولة بإصبع مطلي باللون الوردي: “ليس هناك شك في ذهني أن دافني كان يجب أن تتولى الأقل منصب نائب الرئيس”. واستقالت بارك، التي وصفت بطريقة غير لطيفة في نعيها بأنها تبدو “مثل الآنسة ماربل أكثر من ماتا هاري”، مبكرًا من الخدمة في سنة 1979، بعد أن أخبرت صديقًا لها أنها لن تتم ترقيتها أبدًا إلى منصب رئيس جهاز المخابرات العامة بسبب جنسها.
وبحلول أوائل التسعينيات، ترددت شائعات عن ترشح رامزي لمنصب رئيس الجهاز. وبشكل خاص، اعتقدت أن ترقية امرأة لهذا المنصب هو “أمر مستحيل تمامًا”؛ حيث تقاعدت وبدأت لاحقًا حياتها المهنية في مجال السياسة، وأصبحت مستشارة للسياسة الخارجية لجون سميث، زعيم حزب العمال في ذلك الوقت. ولاحظت أنه بينما تفوقت العديد من النساء الموهوبات مثل نور عنايت خان في منظمة تنفيذ العمليات الخاصة، وهو جهاز سري أُنشأ في سنة 1940 في زمن الحرب، وكانت هناك فترة طويلة بعد ذلك عندما توقفت النساء عن العمل كضابطات مخابرات على الإطلاق.
وتروي رامزي حادثة في السبعينيات عندما صادفت امرأة اعتقدت أنها ستكون عميلا مثاليا؛ حيث اتصلت برئيس قسم التجنيد لمناقشة هذا الاحتمال، الذي أخبرها أنهم لا يبحثون عن نساء، وقال: “سيتطلب الأمر عميلا اسثنائيا”، فأجابته: “حسنًا، ستتطلب العملية فتى استثنائيًا، لكن الأمر لن ينتهي بمجرد تجنيد الذكور!”.
ونظرًا لأن جهاز الاستخبارات البريطاني لم يعين رئيسة امرأة بعد، فقد كشف التصوير الثقافي لجهاز المخابرات أنه يتسم بطابع تقدمي أكثر من الواقع.
منذ حوالي 30 سنة في فيلم “العين الذهبية”، ظهرت جودي دينش لأول مرة في دور العميلة “إم”، رئيسة جهاز الاستخبارات البريطاني، وشاركها البطولة بيرس بروسنان في دور جيمس بوند. وفي اجتماعهم الأول، اتهمته بأنه “ديناصور متحيز ضد المرأة وكاره للنساء، وكل ذلك من مخلفات الحرب الباردة”. وقالت له وهي تحتسي كأس نبيذ “إذا كنت تعتقد للحظة أنني لا أملك الصلاحية لإرسال رجل للموت، فإن غرائزك خاطئة تمامًا”.
يختلف جهاز الاستخبارات البريطاني عن المكتب الخامس أو “إم آي 5″، الذي عُينت ستيلا ريمنغتون أول مديرة عامة له في سنة 1992، ثم خلفتها إليزا مانينغهام بولر بعد 10 سنوات. وقد واجهت كلتاهما الكثير من كراهية النساء أثناء صعودهما للقمة. كتبت ريمنغتون في مذكراتها أن مهمة النساء اللاتي أصبحن عميلات استخباراتيات كانت تتمحور حول ترتيب البيوت الآمنة والحفاظ عليها مليئة بالبقالة.
حاول جهاز الاستخبارات البريطاني استقطاب خريجات الجامعات حديثًا ونشر إعلانًا على “مامز نت”، منتدى الأبوة والأمومة عبر الإنترنت، لجذب الأشخاص الذين يتمتعون “بالإبداع والبصيرة والفضول والتعاطف والحدس” لحثهم على العمل كضباط استخبارات
أخبرتني مانينغهام بولر، التي تتميز بأسلوب جاد، أن التححيّز الجنسي الذي عانت منه خلال السبعينات كان ناتجًا عن نزعة سلطوية مثيرة للغضب. وأوضحت قائلة “أنت بحاجة لحماية الضعفاء. لم تكن تريدهم أن يفعلوا أي شيء خطير. لقد كان هناك افتراض بأنه لا يوجد هدف محترم، مثل ضابط استخبارات سوفيتي أو إرهابي، سيوافق على أن يكون مصدرًا بشريًا تديره امرأة. وبطبيعة الحال، بصرف النظر عن أي شيء آخر، هناك عدد قليل جدًا من المصادر التي تريدها قد تكون النساء على رأسها”.
في الواقع، سرعان ما اكتشفت مانينغهام بولر أن المرأة لها مزايا تشغيلية. ففي إحدى المرات، تم استدعائها للمساعدة في استجواب ضابط استخبارات روسي في الولايات المتحدة رفض التحدث إلى أي من زملائها. وحيال هذا الشأن قالت “من الواضح أنه كان يعتقد أنني نكرة، وبدأ يتباهى بكل إنجازاته”. ولكن يمكن أن يمنحك استغلال الأحكام المسبقة لخصومك اليد العليا. خلال زيارتها الأولى لروسيا كمديرة عامة لجهاز “أم آي 5” في سنة 2003، طلبت مانينغهام بولر استخدام الحمام ودهشت عندما وجدت أن مبنى لوبيانكا – المقر الرئيسي لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي – لا يحتوي على مرحاض للسيدات. وأضافت قائلة “إذا لم تكن منظمتك تضم أي امرأة، إلا في الوظائف المكتبية، فلا يمكنك تخيل أن الآخرين قد يفعلون ذلك”.
ظاهريًا، يتمتع “تيمس هاوس”، حيث يوجد مقر المكتب الخامس، بتوازن جنساني أفضل من جهاز الاستخبارات البريطاني. تشكل النساء حاليا 47 بالمئة من موظفيه مقارنة بـ 37 باالمئة فقط في فوكسهول، وذلك وفقًا لأرقام السنة الماضية. ومع ذلك، فإن متوسط فجوة الأجور في المكتب الخامس، التي تكون في حدود 19 بالمئة، أعلى بكثير مقارنة بجهاز الاستخبارات البريطاني، التي تبلغ سبعة بالمئة. (بالمقارنة، تبلغ فجوة أجور القطاع الخاص في المملكة المتحدة 20 بالمئة).
مع أن الخدمات قد تطورت منذ عهد دافني بارك وميتا رامزي، إلا أن انعدام المساواة لا يزال قائما. ونقل تقرير صدر سنة 2015 عن الجاسوسات من قبل اللجنة البرلمانية المشتركة للاستخبارات والأمن ما قالته مجموعة من النساء المجهولات في مجتمع الاستخبارات عن بيئة العمل. وقالت إحداهن إنه على الرغم من وجود رغبة حقيقية في التنوع لدى المسؤولين الذين يشغلون مناصب رفيعة ومتدنية في المنظمة، إلا أن هناك “طبقة متجمدة” على مستوى الإدارة الوسطى حافظت على “عقلية ونظرة ذكورية تقليدية للغاية”.
وصفت أم عاملة أخرى “القيود الضمنية” المفروضة على الوظائف التي يمكن للمرأة شغلها بعد إنجاب الأطفال. وقالت إنه “غالبًا ما كان الرجال يشغلون هذه الوظائف والذين يفترضون أنهم يساعدون في قول أشياء مثل “أوه، لن ترغبي في القيام بهذه الوظيفة، إنها تتطلب الكثير من السفر”. هذا يذكرنا بما قاله رئيس ريمنغتون لها في الثمانينات من القرن الماضي، حيث أخبرها بأنه يمكنها أن تدير بعض الوكلاء، إلا أنه لن يسمح لها بتعيين أي شيء يتعلق بالتهديد الإرهابي المميت في أيرلندا الشمالية. وأخبرها قائلا “الأسرة بحاجة إلى الأم”.
قابلت ريبيكا في أحد الأيام الباردة والمنعشة عندما كانت تقوم بجولة على الجسر. ويصنّف نائب رئيس الاستخبارات البريطانية المعضلات إما إلى “مشاكل الجسر الواحد” أو “المشاكل ذات الجسرين”. ويمكن عادةً حل المشكلة الأولى على دائرة مقر جهاز الاستخبارات البريطاني، أسفل مبنى ألبرت إمبانكمينت، وتركها على جسر لامبيث والعودة على طول الرواق الذي تصطف على جانبيه الأشجار إلى فوكسهول. في المقابل، تتطلب الأمور الأكثر جدية، التي عادة ما تمثّل قضايا “الناس” المستعصية، مواصلة السير وتجاوز قصر رئيس أساقفة كانتربيري والجدار التذكاري لكوفيد-19 وصولًا إلى وستمنستر، قبل أن تتخطى مجلسي البرلمان وحدائق برج فيكتوريا.
أثناء سيرنا، أذهلتني ريبيكا بثرثرتها المفرطة. كانت في منتصف الخمسينات من عمرها، وذات وجه مستدير، وترتدي نظارات كيوبيتس ذات زاوية وبعينين خضراوتين بنيتين. كانت فضولية للغاية، لكن فضولها لم يكن يشكل أي تهديد. أتساءل كم من الناس وجدوا في هذا الشعاع الدافئ من الفضول شيئًا آمنًا ومألوفًا.
تبيّن أن الفضول بشأن الناس هو ما دفع ريبيكا إلى امتهان التجسس في المقام الأول. هي ليست شجاعة على الإطلاق و”لا تستطيع القفز من المرتفعات” و”ليست مهووسة بالطائرات”. ونظرًا لإصابتها بالدوار، فإنها لا تحب الجسور بشكل خاص. وقالت “لن أسير نحو الخطر. أنا لست هكذا. أنا الشخص الذي يقول، عندما تسوء الأمور، فلينزل الجميع من هنا، إن القارب يغرق. لكنني أدركت أن هناك شجاعة جسدية وهناك جرأة. وهما شيئان مختلفان تماما”.
عندما خرجت ريبيكا من عملية التقديم لوزارة الخارجية في أوائل العشرينات من عمرها وسُئلت عما إذا كانت تريد أن تكون جاسوسة، كانت حذرة. وفي منزل ريجنسي الكبير في حدائق كارلتون، حيث تمت دعوتها لتناول الشاي، وصف لها رجل نبيل خبايا هذه الوظيفة. وقالت ريبيكا “فكرت وارتأيت إلى أن الشيء الذي يصفه هذا الرجل يبدو مثيرًا للاهتمام. وليس بطريقة جيمس بوند المثيرة. أتذكر أنني كنت أفكر في أن سيكولوجية هذا الشيء تبدو مثيرة للاهتمام حقًا”.
وتابعت حديثها قائلة “كانت الفرضية الرئيسية للمكتب تتمحور حول الخروج وسد الفجوة الثقافية مع شخص ما، لجعل هذا الشخص الأجنبي يخبرنا بأشياء لن يخبرنا بها الدبلوماسي”. وحين سألته لماذا تفعل المصادر المحتملة ذلك، مشيرة إلى أنها لن تفعل الشيء نفسه، أجابها قائلا “إنهم يفعلون ذلك لأنه الشيء الصحيح الذي يجب فعله ويتوافق مع هويتهم، وأنت الشخص الذي اكتشف ذلك”. كان العرض مغريا، وقد دفعها فضولها للانضمام إلى جهاز الاستخبارات.
كانت نظرة ريبيكا إلى التجسس نقية. فهي تبدو غير مهتمة بالمسرح والخداع والتمويه. وأوردت قائلة “أحد أسباب عدم مشاهدتي للعديد من هذه الأفلام هو أنني وصلت إلى منتصف الطريق وأعتقد فقط أنها مملة للغاية. إذا كانوا يعرفون حقًا، فسيكون الأمر أكثر إثارة للاهتمام”. وأضافت “من الممل للغاية أن تطوق شخصا من كل الجوانب وتوقظ كل حواسك. الحقيقة أكثر إثارة من ذلك بملايين المرات”. بالنسبة لها فإن “إيجاد القطع المفقودة للعبة القطع المركبة، أجزاء المعلومات التي تشرح سبب قيام الدول بأشياء أو لماذا قد يكون لدى القادة العدوانيين النية للقيام بذلك. الجلوس مع شخص ما في اجتماع على امتداد ساعتين، واكتشاف ذلك معًا، أعني أن هذا شيء نادر”.
لم يكن الوصول إلى هذه النقطة سهلاً. انضمت ريبيكا إلى جهاز الاستخبارات البريطاني، ضمن مجموعة مكونة من 11 رجلا، وهي الفتاة الوحيدة بينهم. ومن القواعد التي طبقتها في ذلك الوقت فحص خطيبها، حتى استطاعت الحصول على “الإذن بالزواج” به. وفي التسعينات، أصبحت، عن طريق الصدفة، أول جاسوسة أجنبية ترزق بمولود. ومن ثم حصلت على إجازة أمومة مدتها ثلاثة أشهر، كان من المتوقع خلالها أن تظل على اتصال بالوكلاء، تاركة زوجها مع الطفل أثناء خروجها لحضور الاجتماعات المسائية.
لقد تطوّرت استحقاقات الوالدين، حيث أصبح بالإمكان أخذ إجازة مدفوعة الأجر بسخاء وإجازة غير مدفوعة الأجر تصل إلى سنة أيضًا. يتم تعيين موظفي التعويض للتعامل مع الوكلاء أثناء إجازة الأمومة، مشيرة إلى أن “هذا العبء لا يقع على عاتق الفرد تقريبًا”.
وذكرت ريبيكا أنه عندما كان أطفالها في سن المراهقة، قررت إخبارهم بأنها جاسوسة. وقالت “لقد كانوا عاقلين للغاية، ورأيت أن المعلومات لن تكون عبئًا عليهم، وأنهم لن يخبروا أحدا”. وبينما يختار بعض الجواسيس عدم إخبار أطفالهم مطلقا، فقد أرادت منهم أن يعرفوا “المطالب الخاصة” في حياتها العملية.
تستمر مسيرتنا عبر مجلس اللوردات، حيث تتوقف ريبيكا التي كانت شغوفة بالبستنة، لتقطيع رأس بذور الشمر من جذع جاف. وتقوم بلفه بدقة في منديل وتضعه في حقيبة يدها لتزرعه لاحقًا. وبصفتها نائب، حاولت رعاية النساء الموهوبات. ولكن لا يزال هناك عدد قليل من الطلبات المقدمة من النساء للوظائف العليا كما تريد.
وفي حين كان التنوع شعار العديد من المنظمات، إلا أنها تجادل بأنه بالنسبة لجهاز الاستخبارات البريطاني، فهو أمر بالغ الأهمية. وقالت إنه “لا يوجد مجال عمل يحتاج إلى اختلاف في المنظور أكثر مما يحتاج إليه عملنا. لا توجد طريقة واحدة مثالية لفعل شيء ما. نحن بحاجة إلى المزيد من النساء والمزيد من الأقليات العرقية. نحن بحاجة إلى المزيد من الأشخاص الذين جاءوا عبر طرق اجتماعية مختلفة تمامًا”.
أكثر الأشياء إثارة للاهتمام حول الجواسيس هي الأشياء التي لا يمكنهم التحدث عنها.
من أجل تحقيق هذه الغاية، حاول جهاز الاستخبارات البريطاني استقطاب خريجات الجامعات حديثًا ونشر إعلانًا على “مامز نت”، منتدى الأبوة والأمومة عبر الإنترنت، لجذب الأشخاص الذين يتمتعون “بالإبداع والبصيرة والفضول والتعاطف والحدس” لحثهم على العمل كضباط استخبارات.
كانت ريبيكا على يقين من أن المرأة ستكون قادرة على تولي منصب رئيس جهاز الاستخبارات، حتى لو لم تكن هي نفسها في القائمة المختصرة. (بينما كنت أكتب هذه المقالة، تقاعدت ريبيكا من جهاز الاستخبارات البريطاني. وكانت أول امرأة يتم تعيينها نائبا للرئيس، ولا يزال المنصب، الذي تم ملؤه وفقًا لتقدير الرئيس، شاغرا حاليا). إنها قلقة من أن النساء ما زلن يستبعدن أنفسهن من العمل الاستخباراتي لأنهن يعتقدن أنهن لسن مناسبات لهذه الوظيفة”.
لكن الصور الثقافية تتغير. ففي أحدث فيلم بعنوان “لا وقت للموت”، تم استبدال جيمس بوند بضابطة استخبارات سوداء ذكية تعتبر أن بوند أصبح طاعنا في السن وبات أدائه رديئا صراحة. وحتى المؤلف لو كاريه اقترح في مقال نُشر سنة 2008 في مجلة “نيويوركر” أن إخفاقات جهاز الاستخبارات البريطاني في العراق – لعلّ أهمها الكشف عن كيم فيلبي كعميل سوفيتي مزدوج قبل نصف قرن – كانت جزئيًا نتاج غطرسة ذكورية متحجرة. وتساءل عما إذا كانت النساء الحكيمات حاضرات عندما كان ملف العراق سيئ السمعة والمحرج للغاية يتألف؟ يقع اللوم في الغالب على الرجال”.
أكثر الأشياء إثارة للاهتمام حول الجواسيس هي الأشياء التي لا يمكنهم التحدث عنها. فكلما قضيت وقتًا أطول مع ريبيكا وكاثي وآدا، أردت أن أسألهن أكثر، لكن لا يُسمح لي بمعرفة الكثير عن النجاحات والإخفاقات في حياتهن المهنية. لا أعرف عدد المخططات الإرهابية التي أحبطنها أو ما هي العمليات التي تجعلهن يشعرن بالفخر.
لم يتم إخباري بالمخاطر التي يتعرض لها العملاء وعدد الذين ماتوا أثناء العمل لدى جهاز الاستخبارات البريطاني، أو كيف يكون الشعور حيال ذلك. ولم يخبرنني عن المقايضات الأخلاقية التي يتعين عليهن القيام بها تحت الضغط أو إلى أي مدى تعرضن للأذى الجسدي.
ومن بين جميع محادثاتنا، فإن تلك المتعلقة بمخاطر الوظيفة هي الأكثر حرجًا. وقالت كاثي، التي عملت في مناطق النزاع، إنها “لم تشعر أبدًا” بأنها كانت تخاطر بحياتها. ومزيد من التحقيق لا يكشف الكثير. وتشرح قائلة “أنت تجلس في غرفة فندق وتتساءل من سيطرق الباب، وما إذا كان سيكون الشخص الذي تتوقعه وتنتظره، أو ما إذا كان شخصًا آخر، مثل الشرطة المحلية. لذلك ربما تعاني من التوتر أكثر من الخوف على سلامتك الجسدية”.
حتى بالنسبة للمتفائل الواثق بنفسه، هناك شعور بعدم الواقعية حول كيفية وصف كاثي لعملها. فقد قالت لي ذات مرة “نادرا ما أشعر بالتوتر في عملي”. بينما تقول ريبيكا ببساطة “لقد مررت بأيام عصيبة، لكن لم أمر بيوم ممل أبدا”.
يجب أن تكون هؤلاء النساء الثلاث من بين الأفضل في مجالهن، لكن ليس لدي أي فكرة عما كلفهن ذلك أو كلف أسرهن. فقد قيل لي إن العديد من الجاسوسات الناجحات عازبات. بينما تكافح أخريات لتحقيق التوازن بين متطلبات الحياة في الخارج ووظائف شركائهن وتعليم أطفالهن.
وهذا لا ينطبق فقط على النساء – والرجال – الذين يعملون في مجال المخابرات، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يعملون في العديد من وظائف المغتربين الأخرى. هل تعوّضك عمليات التجنيد الخطرة والمغامرات الأجنبية وإحباط المؤامرات بنجاح عن الأكاذيب اليومية والمخاطر والأسرار التي تخفيها عن أحبائك؟ حتى لو كانت النساء جاسوسات ممتازات، فكم عدد اللاتي يرغبن في القيام بهذا العمل، ولماذا؟
وصلت آدا إلى أقرب إجابة. ففي نهاية مقابلتنا، خلعت بطاقة “كيو” الخاص, بها، وأخذت تصريحها الأمني من محفظتها وأظهرت لي بطاقة ذات أذنين كلب مخبأة تحتها. تمت طباعة مقطع من خطاب تيدي روزفلت “المواطنة في جمهورية” عليه. ليس الناقد هو المهم، كما قال الرئيس السابق لجمهوره في سنة 1910، بل الرجل “الموجود بالفعل في الساحة، الذي يشوب وجهه الغبار والعرق والدم؛ الذي يجاهد ببسالة، الذي يعرف، في أحسن الأحوال، في النهاية طعم انتصار الإنجاز العظيم، ومن يفشل، في أسوأ الأحوال، يكون قد بذل مجهودا عظيما على الأقل”.
أشعر بأنني أفهم أخيرًا معنى أن تكون جاسوسًا، فاعلا وليس متحدثًا، وأن تكون في القتال بدلا من المراقبة. ودعت آدا، وتوجهت إلى المصعد، وعبرت الردهة نحو الباب، ثم سلمت شارة الأمن الخاصة بي إلى مرافقي وخرجت من أمام الحراس.
عندما أشعر بالضيق في الشارع المظلم، أدرك أن بطل الرواية في الخطاب التحفيزي هو أسطورة ذكورية أخرى ولدت من رحم الامتياز. مثل أسطورة جيمس بوند، أو جورج سمايلي، أو رواية أخرى تمجد ما سماه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت “الرجال الذين يقمعون العاصفة ويركبون الرعد”. إذا كانت هناك أي مساواة حقيقية للنساء اللاتي يتجسسنّ لصالح بلدهن، فيجب عليهن انتزاع هذا الحق من تضحياتهن. لقد حان الوقت لقصة جديدة.
المصدر: فايننشال تايمز