أعلن منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بمجلس الأمن القومي الأمريكي، بريت ماكغورك أن بلاده تسعى لتوطيد علاقاتها الأمنية مع الجزائر، وهو القطاع الذي يعرف إضافة إلى قطاع النفط تعاونا كبيرا بين البلدين، بخلاف المجالات الأخرى التي تظل لا تعرف تعاونا حقيقيا بين البلدين مقارنة بدول منافسة لواشنطن كالصين التي أخذ تعاونها مع الجزائر مستوى متقدما واستراتيجيا، فما الذي يمنع توسيع الشراكة بين الطرفين إلى مختلف الميادين؟.
ورغم أن العلاقات الجزائرية الأمريكية تطورت في السنوات الأخيرة مقارنة بفترة الحرب الباردة لما كانت الجزائر محسوبة على المعسكر الشرقي، إلا أن هذا التطور لم يفض إلى تعزيز كبير للتعاون الثنائي بالشكل الذي ترغب فيه الجزائر الباحثة على تنويع شركائها.
زيارات أمنية
خلال هذا الأسبوع، استقبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمجلس الأمن القومي الأمريكي بريت ماكغورك، والمساعدة الرئيسية لنائبة كاتب الدولة للشؤون الخارجية يائيل لومبرت.
وقال ماكغورك إن لقاءه مع الرئيس تبون كان “مثمرا وبناء جدا“.
وأضاف “نطمح أكثر للعمل سويا لأن الشراكة بين بلدينا قوية جدا.. تحدثنا عن الأوضاع في أوروبا وشمال إفريقيا ونعمل قدما من أجل توطيد هذه الشراكة في المنطقة إذ لاحظنا تطورات كبيرة”.
واستُقبل ماكغورك أيضا من قبل رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أول السعيد شنقريحة، وفق ما ذكر بيان لوزارة الدفاع، حيث بحث الطرفان “حالة التعاون الثنائي بين البلدين، والوسائل الكفيلة بتعزيزه أكثر فأكثر، كما تناولا، أيضا، السياق الأمني على الصعيدين الإقليمي والدولي”.
وتسبق هذه الزيارة، وفق ما ذكرت تقارير إعلامية زيارة مرتقبة لقائد قوات “الأفريكوم” الجنرال جاك لانغلي للجزائر مطلع الشهر المقبل، يبحث خلالها مع المسؤولين الجزائريين ملفات التعاون الأمني والعسكري بين البلدين.
التعاون الأمني لم يتوسع إلى مجال الصفقات العسكرية، حيث لم تنجح سابقا محاولات جزائرية لشراء أسلحة من واشنطن التي يخضع فيها بيع السلاح لإجراءات تمر على الكونغرس
وزيارة لانغلي ستكون الأولى له للجزائر، فآخر زيارة لمسؤول في القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا تعود إلى قبل عام حينما استُقبل القائد السابق لأفريكوم الجنرال ستيفن تاونسند في سبتمبر ايلول من قبل الرئيس تبون.
وقال تاونسند وقتها “لدينا الكثير لنتعلّمه ونتشاركه مع بعضنا البعض، وإنّ تعزيز هذه العلاقة مهمّ جداً بالنسبة لنا”، مبينا أن الجزائر شريك ملتزم بمحاربة الإرهاب وأنّ إضعاف المنظمات المتطرّفة العنيفة والأنشطة الخبيثة وتعزيز الاستقرار الإقليمي تمثّل ضرورة مشتركة بين الولايات المتحدة والجزائر.
وشهد التعاون الأمريكي الجزائري في مجال مكافحة الإرهاب منحى متصاعدا منذ تفجيرات 11 أيلول سبتمبر بنيويورك، والتي غيرت من خلالها واشنطن نظرتها إلى الجزائر ورأت فيها الشريك الأمثل في المجال الأمني بالنظر إلى تجربتها الطويلة في مكافحة الإرهاب.
وفي سبتمبر ايلول الماضي، التقت السفيرة الأمريكية في الجزائر إليزابيث مور أوبين رئيس أركان الجيش الفريق أول السعيد شنقريحة، في لقاء قلما يجريه قائد الجيش.
وأشارت السفيرة في لقاء صحفي الشهر إلى وجود “علاقات ممتازة في مجال التعاون الأمني والجهود المشتركة ضد الإرهاب بين الجزائر والولايات المتحدة الأمربكية”، لافتة إلى إجراء حوار استراتيجي ومحادثات مباشرة بين البلدين في ما يخص أفريقيا ومنطقة الساحل.
وأوضحت السفيرة الأمريكية أن البلدين “معنيان بمحاربة آفة الإرهاب والتطرف بالمنطقة حيث يعمل كلاهما على بذل الجهود للوصول إلى خلق استقرار اقتصادي، حتى يتسنى للشعوب العيش في سلام والتخلص من ظاهرة التطرف”.
وتُرجم التعاون الأمني الجزائري الأمريكي سابقا في مجال التبادل المعلوماتي المتعلق بمكافحة التطرف والجماعات الإرهابي، إضافة إلى تمرينات عسكرية مشتركة، أخرها كان تنفيذ تمرين بحري جرى شهر سبتمبر أيلول الماضي، يتمثل في التدريب المشترك حول “تبادل الخبرات في مجال نزع الألغام”.
لكن هذا التعاون الأمني لم يتوسع إلى مجال الصفقات العسكرية، حيث لم تنجح سابقا محاولات جزائرية لشراء أسلحة من واشنطن التي يخضع فيها بيع السلاح لإجراءات تمر على الكونغرس، إضافة إلى أن تفضيل الجزائر للسلاح الروسي كان سببا أيضا في عدم إعطاء ملف اقتناء أسلحة من أمريكا أهمية كبرى.
حوار استراتيجي
تندرج الزيارات المتوالية للمسؤولين الأمريكيين إلى الجزائر حتى ولإن طغى عليها الطابع الأمني في إطار التحضير لاجتماع الحوار الاستراتيجي بين البلدين المقرر العام المقبل.
وكان الاجتماع السابق للحوار الاستراتيجي قد عقد في آذار مارس الماضي بالجزائر وترأسه وزير الخارجية رمطان لعمامرة ونائبة وزير الخارجية الأمريكي شيرمان ويندي.
وأفاد بيان للخارجية الجزائرية وقتها أن لعمامرة عقد “جلسة مثمرة” مع شيرمان تمركزت حول القضايا الإستراتيجية ذات الاهتمام المشترك على المستويين الدولي والإقليمي.
وأعرب لعمامرة عن تطلعه لتعزيز هذا الحوار في الأيام المقبلة على ضوء الالتزام المشترك بتعزيز السلم والاستقرار وترقية الحلول السلمية للنزاعات.
تنشط اليوم حوالي 100 شركة أمريكية بالجزائر، أغلبها في قطاع الطاقة، مع العلم أن واشنطن جاءت وفق إحصاءات 2021 في المركز السادس في ترتيب الشركاء الاقتصاديين للجزائر
وأشارت الخارجية الأمريكية على موقعها الرسمي أن لعمامرة وشيرمان اتفقا على أهمية تعزيز الاستقرار الإقليمي، بما في ذلك من خلال دعم الدبلوماسية التي تقودها الأمم المتحدة بشأن الصحراء الغربية،
كما ناقش الدبلومسيان الأزمة الأوكرانية الروسية، وتوسيع التبادلات الأكاديمية وفرص تعليم اللغة الإنجليزية في الجزائر، وتعزيز الجهود الدبلوماسية الرامية إلى ضمان الأمن الإقليمي، إضافة إلى ملفات حماية حقوق الإنسان، وحرية التعبير وحرية المعتقد.
وقالت شيرمان عقب استقبالها من طرف الرئيس تبون إن” علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالجزائر واسعة وعميقة ونتطلع إلى مواصلة تعميق تعاوننا”،خاصة في المجال الاقتصادي والطاقة النظيفة والأمن ومجالات أخرى.
وحسب شيرمان، فإن واشنطن يمكن أن تعمل بشكل وثيق في تنفيذ خطط الجزائر لتنويع الاقتصاد في القطاعات الإستراتيجية، بما في ذلك الزراعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والطاقة النظيفة”.
وفي مارس الماضي، زار وفد من الشركات الأمريكية المصغرة في مجال طاقة الرياح ومعالجة مياه الصرف الصحي وخدمات النفط الجزائر، بهدف البحث عن شراكات في هذا المجال.
وبلغة الأرقام تنشط اليوم حوالي 100 شركة أمريكية بالجزائر، أغلبها في قطاع الطاقة، مع العلم أن واشنطن جاءت وفق إحصاءات 2021 في المركز السادس في ترتيب الشركاء الاقتصاديين للجزائر، فهي سابع زبون للصادرات الجزائرية، والمورد الحادي عشر لها.
وبلغ حجم المبادلات التجارية الجزائرية الأمريكية أكثر من 3 مليار دولار سنة 2021 مقابل 1.82 مليار دولار في 2020 و3.61 مليار دولار سنة 2019، وهو ما يظهر أن هذا التبادل في تراجع مستمر إذ كان يقدر سنة 2017 بـ 5.5 مليارات دولار، مثلت فيها الصادرات الجزائرية 3.2 مليارات دولار، والتي لم تخرج عن نطاق منتجات الطاقة، فيما استوردت الجزائر أكثر من ملياري دولار قمحا وتجهيزات مختلفة من الولايات المتحدة.
وفي 2009، كان حجم المبادلات التجارية الجزائرية الأمريكية يقدر بـ22 مليار دولار، لكن تحول واشنطن إلى الإنتاج النفطي قلص هذا الحجم، بل إن الولايات المتحدة صارت تنافس الجزائر في مجال الطاقة في أسواقها التقليدية، وأبرز مثال على ذلك إسبانيا.
وبسبب هذا الوضع، تريد الجزائر أن يتوسع التعاون بين البلدين إلى قطاعات أخرى خارج النفط، كالفلاحة والطاقات المتجددة والأدوية والمركبات، آملة أن يساهم قانون الاستثمار الجديد الذي تم سنه العام الجاري في تعزيز التعاون التجاري بين الطرفين.
وتقر السفيرة الأمريكية بالجزائر مور أوبين أن قانون الاستثمار الجديد “يوفر كل الشروط التي تبحث عنها الشركات الأمريكية بما في ذلك المناخ الاقتصادي الآمن والمستقر وإزالة العقبات التي تعرقل التصدير”، إلا أنها ترى أن تعزيز هذه الشراكة مرتبط أيضا بفتح خط جوي بين الجزائر العاصمة ونيويورك، والذي “يوجد حاليا محل محادثات بين الطرفين، من شأنه تعزيز الروابط الاقتصادية بين البلدين”.
عقبات
رغم التصريحات المتكررة حول تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين الجزائر والولايات المتحدة، إلا أن ذلك يبقى بعيدا عن الواقع إذ أن الجزائر في نظر الأمريكيين تبقى محسوبة على روسيا، رغم محاولة الجزائر التوضيح أن بناء علاقة جيدة مع أمريكا لا يعني التخلي عن صديق قديم كروسيا.
ودفع التعاون الاستراتيجي بين الجزائر وروسيا في الأشهر الماضية 27 سيناتورا من الكونغرس الأمريكي تقودهم الجمهورية ليزا ماكلين، إلى دعوة وزير الخارجية أنطوني بلينكن البدء فورًا في تنفيذ “عقوبات كبيرة على أولئك الموجودين في الحكومة الجزائرية المتورطين في شراء الأسلحة الروسية”، تطبيقا للعقوبات التي أعلنتها واشنطن بشأن السلاح الروسي عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا.
يتضح أن بلد العم سام يريد اليوم بناء علاقات جديدة مع الجزائر تختلف عما كانت عليه سابقا حتى وإن لم تتبين طبيعتها حتى الآن
وتصنف الجزائر بين أكبر أربعة مشترين للأسلحة الروسية في جميع أنحاء العالم، والتي بلغت 7 مليارات دولار في عام 2021.
وحتى وإن كانت الإدارة الأمريكية قد تجاهلت طلب النواب الـ27، إلا أن هذا الموقف قد يؤثر على تطوير التعاون بين البلدين في مجال الدفاع، إذ لا تبيع واشنطن أسلحة متطورة للجزائر، ويبقيان تعاونهما الأمني منحصرا على مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات.
وفي الحقيقة، لا يعود هذا الجفاء الاقتصادي الذي تنتهجه واشنطن للجزائر فقط إلى تعاونها مع روسيا، إنما أيضا إلى أنها لا تضع الجزائر ضمن أولوياتها الخارجية ضمن تفاهمات مع دول غربية، إذ أن الإدارة الأمريكية تلتزم بالإبقاء على المنطقة المغاربية تحت النفوذ الفرنسي، ولا تريد منافسة باريس إلا في قطاعات معينة، لذلك على سبيل المثال لا تعد زيارة الجزائر ضمن أولويات سيد البيت الأبيض في كل الفترات.
وبدورها، تشكل التقارير السنوية التي تصدرها الخارجية الأمريكية حول الجزائر بشأن الشفافية ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان وحرية المعتقد ملفا يعيق تطوير العلاقات بين البلدين، إذ ترى الجزائر في هذه التقارير مغالطة كبيرة ولا تعبر عن الواقع، وهو ما ينعكس على حجم قدوم رأس المال الأمريكي الذي يعطي لهذه الجوانب أهمية كبيرة.
وبالنظر إلى نشاط السفارة الأمريكية بالجزائر التي انتهجت في السنوات الأخيرة سياسة اتصالية تحاول الاستثمار في المورث الثقافي للجزائريين والاقتراب من خصوصياتهم، ومحاولة محو صورة “البلد المتغطرس” التي لازمت واشنطن، يتضح أن بلد العم سام يريد اليوم بناء علاقات جديدة مع الجزائر تختلف عما كانت عليه سابقا حتى وإن لم تتبين طبيعتها حتى الآن، لكن تحقيق هذا الهدف مهما كان يتطلب بالدرجة الأولى اليوم إخراج التعاون الاقتصادي عن مجاله التقليدي المنحصر في قطاع الطاقة الذي لا يقدم الكثير للجزائر الذي يتطلع لتطوير واقعه بعد زوال بوتفليقة من المشهد.