“تشدني قدماي للمشي حتى أقرب موقع مطلّ على مدينتي شيوخ الفوقاني، أتأمل بيوتها من بعيد على جانب الفرات، لكن حتى هذا الموقع حُرمت منه، لقد قال لي حفيدي إن الموقع بات مرصودًا.. أشعر أني سأموت في خيمتي قبل رؤية بيتي مجددًا”، بهذا الحديث بدأت الحاجة صفية أم محمد حديثها لـ”نون بوست”، فلا يبدو أبدًا أنها متفائلة بالعودة إلى قريتها شيوخ الفوقاني التابعة لريف عين العرب/كوباني، الخاضعة تحت سيطرة “قسد”.
تكمل حديثها: “منذ سنوات نسمع أن تركيا تريد إعادتنا إلى قرانا، لكن يبدو أن القدر قد كتب علينا الموت في هذه الخيمة الرثة التي نسكنها، سمعت الجيران يقولون إن قوات الأسد سيدخلون إليها بدل بي كا كا”.
تعيش صفية أم محمد في مخيم الجبل على أطراف جرابلس، المدينة التي تفصلها عن شيوخ الفوقاني بلدة صفية، تلتقف أخبارها من جيرانها، وتمني النفس بالعودة إليها بعد سنوات من رحيل أسرتها عنها.
“منذ تهجيرنا عام 2015 وأنا أسمع بأننا سنعود إلى بيوتنا، لكنني لم أعد أصدق أي خبر، فعلى العكس تمامًا أنا لا أسمع إلا الأخبار السيّئة، قبل 4 سنوات حصلت على صور تظهر أرض زوجي مقطوعة الأشجار بعد أن كانت عامرة بأشجار الفستق، لقد خسرنا كل شيء”، تختم الخمسينية حديثها.
تعدّ منطقة عين العرب/ كوباني، والتي تضم 440 قرية صغيرة، ومنها شيوخ الفوقاني، منطقة استراتيجية، إذ تدخل في صلب مشروع “قسد” الانفصالي، وتصل غربي مناطق حلب بشرقي مناطق الرقة، إضافة إلى ربطها منطقة نبع السلام (تل أبيض وراس العين) بمنطقة درع الفرات (جرابلس وريفها) التابعتَين للإدارة التركية.
فضلًا عن انتماء عدد من كوادر حزب العمال الكردستاني لهذه المدينة ما يجعلها ذات ثقل بالنسبة للفصائل الكردية، وما يعزز رغبة تركيا في السيطرة عليها هي محاذاتها لحدودها الجنوبية، الأمر الذي يجعل القرى التركية الحدودية في مرمى نيران عين العرب.
وساطة روسية تقلق المهجّرين السوريين
تجدّد الحديث عن عملية عسكرية تركية تستهدف 3 مناطق: تل رفعت، عين العرب/ كوباني، منبج، وهي مناطق تقع تحت سيطرة “قسد” التي تعدّها تركيا ذراعًا لحزب العمال الكردستاني المصنّف لديها على لوائح الإرهاب، خاصة أن العملية بدأت باستهدافات جوية عنيفة، وحالة استنفار عسكري لدى القوات التركية وقوات الجيش الوطني المعارض حليف تركيا، وجاء ذلك بعد أسبوع من التفجير الذي استهدف شارع الاستقلال في مدينة إسطنبول، نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأوقع قتلى وجرحى، حيث اتهمت تركيا كلًّا من حزب العمال الكردستاني و”قسد” بالوقوف ورائه.
تتجه بالتوازي جهود الوساطة الروسية مع تركيا نحو الدفع بانسحاب قوات “قسد” من منطقتَي عين العرب ومنبج فقط، مع الاحتفاظ ببعض أجهزتها الأمنية والعسكرية (أسايش) مقابل تقدُّم قوات النظام، التي ترغب بها الحكومة التركية بديلًا مناسبًا لـ”قسد”، ويأتي هذا العرض الذي قدمته موسكو، الخميس 8 ديسمبر/ كانون أول، كعرض أولي لإيقاف عملية أنقرة (المخلب-السيف)، فيما أشارت أنقرة أن العرض ما زال قيد الدراسة.
تقع منبج الخاضعة لسيطرة “قسد” منذ عام 2016، بعد طرد تنظيم “داعش” منها، في وسط الحزام الشمالي لسوريا، وتعدّ مركزًا اقتصاديًّا بجوار الطريق السريع M4، الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط مدينة اللاذقية الساحلية الغربية بحلب والرقة.
ومع الحديث عن عودة قوات النظام إلى المناطق الثلاث، بدأت المخاوف تظهر لدى السوريين المهجّرين عن تلك المناطق، والذين كانوا ينتظرون العملية التركية بفارغ الصبر لطرد ميليشيات “قسد” والعودة إلى بيوتهم وأرزاقهم.
يونس أبو ساجر واحد من المهجرين عن مدينته منبج، والذي لا يبدو أفضل حالًا من صفية، فكلاهما جمع التهجير بينهما وخيّبت الأحاديث عن عودة النظام إلى مدنهم آمالهم، حيث يستحضر أبو ساجر، الذي يعمل مدرّسًا في مدينة جرابلس، ذكريات تهجيره من منزله، بعد سيطرة تنظيم “داعش” على المدينة عام 2014، وإمطاره الأحياء السكنية بالهاون والمدفعية، وتصفيته ميدانيًّا كل من له علاقة بالجيش الحر والحراك الثوري، حسب وصفه.
يقول أبو ساجر لـ”نون بوست”: “كان من المرتقب أن تتغير الخارطة بالنسبة إلى منبج، ونعود إليها في العام 2018، لكن على ما يبدو أن مستقبل هذه البقعة مجهول، والأنكى من ذلك هو الحديث الآن عن دخول قوات النظام بمؤسساته وأفرعه الأمنية إليها، إذ لا يمكن تخيُّل الوضع الكارثي لقرابة مليون مدني يعيشون في المدينة، غالبيتهم مناهض لحكم النظام”. لافتًا أنه لا بدَّ أن يكون مصير هؤلاء الهجرة نحو مناطق الشمال السوري أو الاعتقال أو إجراء مصالحات وتسويات على غرار المناطق التي دخلها النظام، كدرعا وريف دمشق ومعرة النعمان، خاصة أن هناك في مدينة منبج شيوخ عشائر بعضهم موالٍ للنظام، وبعضهم يتزعّم ميليشيات تقاتل إلى جانب قواته مثل ميليشيات الباقر.
تقع منبج الخاضعة لسيطرة “قسد” منذ العام 2016، بعد طرد تنظيم “داعش” منها، في وسط الحزام الشمالي لسوريا، وتعدّ مركزًا اقتصاديًّا بجوار الطريق السريع M4، الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط مدينة اللاذقية الساحلية الغربية بحلب والرقة، متفرّعًا إلى دير الزور الغنية بالنفط في الشرق، لذا إن طرد “قسد” منها مهم جدًّا بالنسبة إلى تركيا، إذ يمنع “قسد” من التحرك ذهابًا وإيابًا على طول الفرات.
إضافة إلى رغبة تركيا في استكمال مشروعها في المنطقة الآمنة (عمق 30 كيلومترًا على حدودها)، لإعادة حوالي 3 ملايين و600 ألف لاجئ سوري يقيمون حاليًّا على أراضيها، رغم أن أجزاء كبيرة من المنطقة الآمنة تتجاوز عمق 30 كيلومترًا، إلا أنها مذكورة نصًّا في اتفاق سوتشي الذي يوجب إخلاء كامل منبج وكامل تل رفعت، ثم المناطق شرق وغرب عملية “نبع السلام” بعمق 30 كيلومترًا.
عراقيل العودة
في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريرًا بعنوان “حياتنا كأنها موت“، أكّدت فيه ارتكاب قوات النظام وميليشيات تابعة له انتهاكات بين عامَي 2017 و2021 بحقّ لاجئين سوريين عادوا إلى بلادهم من لبنان والأردن، بينها الاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري والاعتداء الجنسي. حيث أجرت المنظمة مقابلات مع 65 لاجئًا وأفراد من عائلاتهم، بينهم 21 شخصًا تعرّضوا للتوقيف أو الاعتقال التعسفي، و13 آخرين تعرّضوا للتعذيب، و3 حالات خطف، و5 قُتلوا خارج القانون، و17 حالة اختفاء قسري، وحالة واحدة تحدّثت عن تعرضها لعنف جنسي.
وفي تقرير حقوقي أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أشارت فيه إلى أن شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 شهد ما لا يقلّ عن 196 حالة اعتقال واحتجاز تعسفي، بينهم 11 طفلًا و3 سيدات، معظمهم لدى قوات النظام السوري الذي يستهدف العائدين ضمن برنامج العودة الطوعية من لبنان.
عودة المهجرين إلى مناطقهم لن تكون عبر عمليات ضيقة النطاق، إنما يجب أن تكون ضمن عملية سياسية وحلّ شامل يضمنان حصولهم على مقومات الحياة الأساسية، وعدم تعرضهم للاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب.
أمام حالة عدم الاستقرار الأمني في المناطق الشمالية التي طُردت منها “قسد”، واستمرار عمليات الصدّ والردّ بين الأطراف المتنازعة، وانتهاكات النظام وممارسات الملاحقة والاستدعاء الأمني والاعتقال والتصفية، كما في درعا التي أجرت اتفاق مصالحة مع النظام برعاية روسية، تتضاءل نسبة عودة المدنيين النازحين في الداخل والمهجّرين خارجيًّا، إضافة إلى الخوف من عودة النظام لسحب الشباب والمتخلفين عن الخدمة العسكرية والزجّ بهم في جبهات القتال.
تقول سمية حداد، مديرة قسم التوثيق في الشبكة السورية حقوق الإنسان، إن “مناطق تل رفعت وعين العرب ومنبج لن تكون آمنة لعودة المهجرين قسريًّا من جميع النواحي، خصوصًا الناحية الأمنية، حيث لا تزال المناطق التي دخلتها القوات التركية تتعرض خلال الأعوام الماضية لعمليات قصف مستمرة من قبل قوات النظام السوري، أو من قبل قوات سوريا الديمقراطية”.
مضيفة لـ”نون بوست” أن عودة المهجرين يلزمها أيضًا توفير بيئة آمنة لذلك، وبسبب وقوع هذه المناطق على خطوط تماسّ مع العديد من القوى المتصارعة في سوريا، يجعلها عرضة دائمة لخطر القصف وانفجارات تكون ناجمة عن بقايا ذخائر وألغام في المنطقة.
ولفتت حداد إلى أن عودة المهجرين إلى مناطقهم لن تكون عبر عمليات ضيقة النطاق، إنما يجب أن تكون ضمن عملية سياسية وحل شامل يضمنان حصولهم على مقومات الحياة الأساسية، وعدم تعرضهم للاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب.
سيناريوهات متوقعة لدخول النظام
لم يقدّم النظام السوري أي حلول لتردي الأوضاع الإنسانية والمعيشية في مناطق المصالحات، أو إعادة تأهيل لها وإعمار لما قام بتدميره في عملياته العسكرية عليها، فأوضاع المناطق الخارجة عن سيطرته حاليًّا لا تقل سوءًا عن معاناة القاطنين في المناطق الخارجة عن سيطرته، في ظل الانقطاع شبه التام لمقومات الحياة الأساسية.
تشير حداد أيضًا إلى أنه إلى جانب عودة نظام الأسد بأجهزته الأمنية التي تهدد كل مكونات المنطقة، خصوصًا تلك التي تأوي آلاف النازحين الفارّين من بطشه، إضافة إلى عمليات تجنيد قسرية وانتقامية لأبناء تلك المناطق، فإن المتوقع أيضًا هو حالة الانفلات الأمني، وارتفاع وتيرة عمليات السرقة والقتل والتشبيح والخطف وتجارة المخدرات دون وجود رادع أو خطوات جادة من الأجهزة الأمنية للحدّ منها، مضيفة أن مناطق المصالحات أكبر دليل على ذلك، فهي تشهد بشكل شبه يومي عمليات اغتيال وخطف وتجارة مخدرات منظّمة.
اللافت كذلك أن السلطات الأردنية تواجه أكبر تحدٍّ على حدودها مع سوريا، من حيث استمرار الميليشيات التابعة لقوات النظام بتهريب المخدرات بشكل منظّم إلى الداخل الأردني، عبر الحدود التي يبلغ طولها حوالي 370 كيلومترًا والأقل بكثير من طول الحدود التركية، فيما لو استحوذ النظام على شريط واسع منها.
لماذا ترغب تركيا بوجود قوات النظام؟
ترى تركيا أن التقارب مع نظام الأسد خلال هذه المرحلة يسحب ورقة مهمة جدًّا من يد المعارضة التركية الراغبة بإعادة العلاقات التركية مع نظام الأسد، حال فوزها في الانتخابات المرتقب إجراؤها صيف عام 2023، إضافة إلى رغبتها في دحر الميليشيات الانفصالية عن حدودها الجنوبية بأي شكل، وإحلال قوات النظام عوضًا عنها، والتي تعتبرها تركيا أقل وطأة وضررًا على حدودها، خاصة أن الضامن لها سيكون الجانب الروسي.
يرى الباحث بالشأن السوري، محمد السكري، أن تركيا تريد تفكيك مشروع الإدارة الذاتية الكردية بداية، ثم النظر في الاستحقاقات والمعادلة السياسية وما ينتج عنها بعد ذلك من تطورات مرتبطة بالحل السياسي السوري. مضيفًا، في حديثه لـ”نون بوست”، أن وجود النظام لن يعيد المدنيين، فتركيا لا تنظر إلى عودة المدنيين إلى هذه المناطق بقدر أهمية القضاء على الخطر الذي يتهدد حدودها الجنوبية من “قسد”، لافتًا إلى أن المنطقة ستتحول إلى نموذج درعا ثانٍ، من حيث الفلتان الأمني وانتشار المخدرات وتهريبها إلى الداخل التركي.
تحاول تركيا تحقيق أكبر مكاسب لها في تنظيف غرب الفرات من قوات “قسد”، كمرحلة أولى عبر التفاهمات مع روسيا.
بحسب السكري، فتركيا حاليًّا، لا تفكر بتداعيات وجود النظام على حدودها، لأنها ترى أن نموذجه أقل خطورة من نموذج “قسد”، خاصة إن حصلت على ضمانات روسية، كما أنها تنظر إلى وجود النظام على أنه وجود قانوني يمثّل سيادة دولة قائمة، عكس وجود ميليشيات عابرة للدولة.
ويبدو أن تركيا تحاول تحقيق أكبر مكاسب لها في تنظيف غرب الفرات من قوات “قسد”، كمرحلة أولى عبر التفاهمات مع روسيا، مستفيدة من الضغط الروسي على نظام الأسد في احتواء تلك المناطق عسكريًّا وإداريًّا، ما يمهّد للانتقال إلى المرحلة التالية، وهي معالجة وجود “قسد” في شرق الفرات، والتي يبدو أنها ستواجه الجانب الأمريكي الأكثر صلابة ومناورة في ملف شرق الفرات، ومدى دعمه لـ”قسد”، ووجود ملفات معقّدة هناك يأتي في مقدمتها محاربة تنظيم “داعش”.
في المقابل، تركيا أمام معضلة أخرى هي الضغط الشعبي المدني والمطالبات بإيجاد حلول لملايين السوريين، سواء على أراضيها أو في الداخل الراغبين بالعودة إلى أراضيهم، بما يحقق سلامتهم بالدرجة الأولى.