كأس نهاية العالم الآخر والبعث الجديد للعرب، قد يبدو إليك العنوان شاذًا أو تعبيرًا عن حالة نفسية محرومة من لذة الانتصارات ومثقلة بقناطير الخيبات أو هذيان مواطن سئم العجز المزمن والدونية القبيحة.
صدّق، نعم حان وقت العرب والمسلمين، وما لحظة الخروج الأعظم إلا مسافة إرادة وعزم، وقد أعلنت النسخة الحالية من كأس العالم المقامة على أرض قطر عن بداية ميلاد حقبة لم ينظر إليها المستشرفون ولم يهيئ إليها السياسيون.
نهاية الآخر
في ما مضى كان المونديال يقتصر على لوحات فنية لتمريرات أشهر اللاعبين وأسيستات خيالية لأيقونات الفرق الأوروبية وكرة في الزاوية 90 على طريقة منتخبات جنوب أمريكا، وضربة جزاء أضاعها إيطالي ذو تسريحة شعر خاصة عُلقت عليه آمال الجماهير، وتعادل في الوقت بدل الضائع يرفع أدرينالين المدربين ودكة البدلاء، وإفريقي لم يترك أثرًا سوى رقصة عند ركن الملعب.
هدف لاعب منتخب المغرب يوسف نصيري في شباك منتخب البرتفال
وكان العرب حينذاك، هواة يجولون على طول الملعب صعودًا ونزولًا دفاعًا، فديدنهم دفع المهاجمين وسد ثغور مربع 18 مترا، والنصر عندهم خروج مشرف أو هزيمة لا توثق في غينيس.
فهل جال بخاطرك يوما أن يقع رونالدو البرتغالي على أربع فيما يقف عند رأسه لاعب مغربي شامخ ولسانه حاله يقول: بالأمس استعدنا غرناطة من الإسبان واليوم بطليوس من البرتغال وغدا طلوشة من فرنسا.
في قطر 2022، قلبت كل الموازين وبعثرت الحسابات وسقطت نظريات التفوق، واستعاد المحرومون شيئا من كبريائهم المنزوع من أوروبا الرثة.
أسقط الاجتياح المغربي لمنتخبات أوروبية عتيدة مرشحة لنيل اللقب العالمي قناعات العجز العربي المكبل بأغلال التاريخ، إذ تعادل في دور المجموعات مع كرواتيا وصيف بطل عالم 2018 والتي أقصت بدورها البرازيل.
وانتصر أسود الأطلس على بلجيكا المصنف ثانيا في ترتيب الفيفا وصاحبة المركز الثالث في مونديال 2018، وتخطى المنتخب الكندي العنيد، ثم ألحقه بفوزين تاريخين على الماتادور الإسباني وبرتغال الدون رونالدو.
وبات أسود المغرب ثالث منتخب من خارج أوروبا وأمريكا الجنوبية يتأهل إلى المربع الذهبي في نهائيات كأس العالم بعد الولايات المتحدة عام 1930 وكوريا الجنوبية في عام 2002.
ومنتخب المغرب، هو أول عربي وأفريقي يتأهل إلى نصف نهائي كأس العالم، ووصل إلى هذه المرتبة بامتلاكه أقوى دفاع في المونديال وفق إحصائيات الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، إذ لم تتلق شباكه سوى هدف واحد منذ بداية البطولة.
أبرزها فوز #تونس على #فرنسا و #الكاميرون على #البرازيل و #المغرب على #بلجيكا#مونديال_قطر | #كأس_العالم pic.twitter.com/BzYiqQL1te
— الجزيرة رياضة (@AJASports) December 3, 2022
هذه المسيرة تؤكد أن الآخر وهم يسقط سريعا إذا نزعت غشاوة عقدة النقص وحضرت الروح وآزرها العزم ودفعها الإحساس بالانتماء وغذتها صلوات الجماهير وترتيلات الشعوب.
الآخر، سقط أيضا أمام السعودية بنجمه ميسي وتاريخ مشاهيره كمارادونا وكانيجيا وباتيستوتا، ورغم أن الأخضر لم يواصل المسير وتعثر لاحقا، إلا أنه أسقط بدوره وهما عظيما كان يمثل قداسة كرة القدم العالمية.
وغير بعيد، انهارت فرنسا المتعالية أمام نسور قرطاج، وكادت تونس أن تحقق معجزة التأهل للدور الثاني من مونديال قطر 2022، غير أن فوز أستراليا على الدانمارك حال دون ذلك.
وأجمع المحللون أن تونس كانت قادرة على الترشح بيسر لو انتصرت في مبارياتها قبل أن تطيح ببطل العالم في لقاء سيخلده التاريخ حتما.
بداية نحن
حين نحوّل الكاميرا من الملعب إلى المدارج وخارجها، نكتشف أن تعاظم الحالة المغربية من مباراة إلى أخرى كسر فرقة الشعوب العربية وأزال الحدود وخسف بقرارات الأنظمة المستبدة ولاءاتهم ورمى باتفاقية التطبيع في المزبلة.
وبدت انتصارات أحفاد المرابطين كأنها عملية تخصيب ذاكرة مناعية عربية جديدة ضد الوهن والخيانات، فحضرت فلسطين واحتفل العرب مشارقة ومغاربة في سوق واقف على أنغام انكسار الغرب.
وعرّت انتصارات اللاعبين في الميدان والجماهير في المدرجات ضعف مسار التطبيع وانحساره في العالم العربي، إذ اعترف الاحتلال بفشل فرضه رغم البروباغندا ومحاولات الأنظمة التي لا تمثل إرادة شعوبها.
إن بداية “نحن” لم تكن وليدة انتصارات أسود الأطلس ونجاح السعودية وتونس في تجاوز عقدة الآخر الذي لا يهزم فقط، بل كانت منذ الصافرة الأولى لانطلاق البطولة العالمية، إذ انبهر ذات الآخر بنحن وبقدرة دولة عربية خليجية شرق أوسطية على إنجاح المحفل.
أنفقت الدوحة منذ نيلها شرف استضافة المونديال نحو 220 مليار دولار، خصصتها لبناء 7 ملاعب من ضمن 8 دارت فيها المقابلات، وبنية تحتية (محطة مترو ومدينة لوسيل وجزر صناعية)، وهي موازنة خيالية يعجز عن توفيرها غيرها.
ولن تقدر دولة أخرى على إقامة كأس عالم تلعب جميع مبارياتها ضمن مسافة 50 كيلومتر تقريبا، وهو أمر مستبعد حدوثه في السنوات القادمة في ظل التوجه نحو اشتراك أكثر من دولة في تنظيم المونديال.
في قطر، تُلي القرآن الكريم في حفل الافتتاح من قبل شخص من ذوي الهمم العالية، وانفتحت الدوحة دون انسلاخ عن تقاليدها وثقافتها ودينها، وأخضعت الجماهير الوافدة إلى سيادة قوانينها.
ووقف الآخر منبهرا من قدرة دولة عربية على مواجهة هجمات غربية شعواء بحنكة في ما يتعلّق بملفين (مجتمع الميم وحقوق العمالة)، واستطاعت بإسناد جماهيري على منصات التواصل هدم زيفهم وتعرية نفاقهم، عبر تأصيل الثقافة المحلية الأصيلة.
وشهد الجزء العاقل من الآخر، أننا استثنائيون تنظيما مبدعون ثقافيا وحضاريا وإنسانيا، موضحين أن قطر نقلت الصورة المضيئة عن العرب والإسلام للعالم، وعن قدرتها على مزج العراقة بالتقدم.
“نحن” بدأت أيضا بعد أن ساهم المونديال في إذابة ما تبقى من جليد الخلاف الخليجي، إذ أظهرت حرارة لقاء أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني بولي عهد السعودية محمد بن سلمان، أن التوافق لا يحتاج إلا نصف خطوة من الجانبين.
وتوشح تميم بأعلام الدول العربية في كل لقاءاتها، رغم مغادرة قطر سباق المونديال، في خروج غير معتاد عن البروتوكول في المنطقة، في حركة تدلّل على ضرورة تماهي السطلة مع تطلعات الشعوب وهو مأخذ كان الآخر يعيبه علينا في كل المنابر.
قد يبدو إليك أن الانتصارات التي تحققت معنوية تنطفئ بعد 90 دقيقة أو عابرة، غير أن الجماهير التي يصعب فهم ميكانيزمات ودوافع تحركها وتوقيت انتفاضتها، برهنت في مونديال قطر أنها ما زالت تحتفظ بجذوة من نار قد تنفخ فيها متى قررت ذلك.
والأهم من ذلك، فإن نهاية الآخر وانبعاث نحن، لن يكون إلا بتجروئنا على تلك الخطوط التي رسموها في غفلة بتواطؤ رهط ينتسبون إلينا اسما لا انتماء.