تشهد أروقة الاتحاد الأوروبي انقسامات بين الدول الأعضاء حول مسألة وضع حد أقصى لسعر الغاز الروسي، حيث تدور المناقشات المكثفة على مدار الشهرين الماضيين لتسقيف سعر الغاز والنفط الروسيين، وهي الخطوة التي حذرت منها موسكو ومن تداعياتها على سوق الطاقة العالمي.
وتهدف تلك الخطة إلى تلقيص عائدات روسيا من النفط إلى أقل مستوياتها بما يقلص بطبيعة الحال ميزانيتها العسكرية في أوكرانيا، كأحد أنواع الضغوط المفروضة عليها من الدول الغربية، مع المحافظة في الوقت ذاته على استمرار إمدادات الخام الروسي في السوق العالمية تجنبًا لأرتفاعات جديدة في الأسعار التي شهدت قفزات كبيرة منذ بدء الحظر الأوروبي على واردات النفط الروسية، مطلع الشهر المقبل.
ومن المقرر حال الموافقة على خطة التسقيف المطروحة الأن أن تدخل حيز التنفيذ بداية يناير/كانون الثاني 2023، وذلك بالتوازي مع خطة أوروبا الحالية لخفض استخدام الغاز الطبيعي بنسبة 15% للتأقلم مع الوضعية الجديدة وبما يقلل تداعيات الأزمة لاسيما في ظل فصل الشتاء الحالي.
وبالتوازي مع مناقشات تسقيف سعر الغاز الروسي تتطلع مجموعة السبع إلى وضع حد أقصى لسعر النفط الروسي المنقول بحرًا بين 65 – 70 دولارًا للبرميل، حيث تكثف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي محاولاتها للتوصل إلى اتفاق في هذا الشأن وسط انقسامات أخرى، خشية ما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات ربما تدفع أوروبا ثمنها باهظًا جدًا إن لم تكن هناك دراسة متأنية لمثل تلك القرارات التي بلا شك ستستفز موسكو التي تلبي 40% من احتياجات القارة العجوز بشكل كبير.
انقسام أوروبي
وفق الخطة المقدمة فإن تفعيل الحد الأقصى لسعر الغاز الروسي يبدأ إذا تجاوزت أسعار الغاز 220 يوررو لكل ميغاوات ساعة، لمدة خمسة أيام، في تعاقدات أقرب شهر استحقاق في مركز تجارة الغاز (TTF) الهولندي، وزادت 35 يورو على السعر المرجعي للغاز الطبيعي المسال، بناء على تقييمات سعره في ذلك الوقت.
يذكر أن المفوضية الأوروبية كانت قد اقترحت حد أقصى أخر لسعر الغاز الروسي عند حاجز 275 يورو لكل ميغاوات ساعة، غير أن 12 دولة داخل الاتحاد رفضت هذا المقترح واعتبرت هذا الحد غير منخفض ولن يحقق المراد منه سواء بتقليص عائدات موسكو أو تخفيض أسعار الطاقة في السوق العالمي.
ومنذ أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري أجرت دول الاتحاد الأوروبي جولات مكوكية من المفاوضات من أجل التوصل إلى قرار نهائي بشأن خطة التسقيف لعرضه على اجتماع وزراء الطاقة الأوروبيين المقرر 13 من الشهر الحالي.
ومن بين 27 دولة تقدمت 12 دولة منهم بطلب اعترضت فيه على الحد الأقصى المقدم، مطالبين بأن يكون أقل بشكل ملحوظ عما هو عليه الأن، لافتة أن “النص لم يقطع شوطاً كافياً نحو ما يمكن أن نعتبره تسوية مُرضية”، حسبما ذكر المقترح الذي تقدمت به كل من بلجيكا وبلغاريا وكرواتيا واليونان وإيطاليا ولاتفيا وليتوانيا ومالطا وبولندا ورومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا.
فلسفة الخطة تقوم على تضييق الخناق على موسكو من خلال تقليص عائدات النفط التي تشكل موردها الاقتصادي الأول الذي تنفق منه على عملياتها العسكرية في أوكرانيا، أي أن الهدف تقليل هامش الربح وليس وقف الإمدادات الروسية النفطية بالكامل
ويطالب بعض المعارضين للحد الأقصى للسعر المدرج في الخطة الأوروبية بالوصول بالسعر إلى أدنى مستوياته، كأن يكون مثلا بناء على كلفة الإنتاج والبالغة 20 دولارًا للبرميل، كما هو موقف بولندا وليتوانيا وإستونيا، أما الدول التي لديها صناعات شحن كبيرة قائمة على الإمدادات الروسية فلديها مخاوفها من انخفاض السعر إلى مادون المعقول، إذ ستتحمل خسائر كبيرة حال توقف تلك الإمدادات، وعليه لاتريد أن ينخفض السعر عن 70 دولارًا للبرميل، وهو حال اليونان وقبرص ومالطا، وهناك تيار يرفض وضع سقف لسعر الغاز الروسي، تتزعمه الدول التي تستورد كميات كبيرة من الغاز من موسكو وعلى رأسها سلوفاكيا والنمسا والمجر، وذلك خشية الرد الروسي.
وهناك دول أخرى مجبرة على الانخراط في الموقف الأوروبي الموحد حفاظا على سمعة التكتل العالمية غير أنها تعاني كثيرًا من التصعيد النفطي مع موسكو كونها تعتمد بشكل أساسي إلى إمداداتها من الغاز والنفط، كألمانيا على سبيل المثال، وهو ما يؤكد أن القرار الغربي ليس على قلب رجل واحد كما يزعم البعض، فكل دولة تتعامل وفق حالتها الخاصة وظروفها الداخلية.
هل تتأثر موسكو؟
فلسفة الخطة تقوم على تضييق الخناق على موسكو من خلال تقليص عائدات النفط التي تشكل موردها الاقتصادي الأول الذي تنفق منه على عملياتها العسكرية في أوكرانيا، أي أن الهدف تقليل هامش الربح وليس وقف الإمدادات الروسية النفطية بالكامل، حسبما أجمع الكل، المؤيدون للخطة والمعارضون لها.
لكن من وجهة نظر أخرى ترى صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن الخطة إذا ما دخلت حيز التنفيذ فإن ذلك سيؤثر على العرض العالمي ويقود الأسعار إلى الارتفاع، وهو ما سيؤثر بالطبع على الدول الأكثر شراء للخام الروسي مثل الهند وتركيا، والتي يسعى الغرب لاستمالتهما لمواصلة الضغط على الروس بحسب الصحيفة.
وفي حال الاتفاق على 60 دولارًا للبرميل كحد أقصى لسعر برميل النفط الروسي كما تذهب الخطة الأوروبية، فإن هذا الرقم لن يؤثر كثيرًا على العائدات الروسية، ففي حال أن كلفة الإنتاج تبلغ 20 دولارًا فإن هذا السعر المحدد يشير إلى تحقيق روسيا أرباحا تبلغ 300% من كلفة الإنتاج.
وعليه فإن التأثير المتوقع على الجانب الروسي لا يتجاوز 10 – 15% من إجمالي العائدات النفطية، وهي النسبة التي من الصعب أن تحقق الهدف منها، سواء الضغط على موسكو وتقليل نفقاتها العسكرية في أوكرانيا، أو إحداث التوازن في سوق الطاقة العالمي، وإن كان هذا يتوقف بشكل أو بأخر على خيارات الرد الروسي على هذه الخطوة.
سيناريوهات الرد الروسي
حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن تسقيف الغاز الروسي سيكون له “عواقب وخيمة” على أسواق الطاقة العالمية، مضيفًا في بيان أصدره الكرملين أن ما تحاول الدول الأوروبية تمريره يتعارض مع مبادئ السوق العالمي، و”سيترتب عليه تبعات خطيرة على أسواق الطاقة”، وبحسب الوكالات الروسية فإن بوتين قد أصدر تعليمات بعدم تصدير النفط والغاز للدول المشتركة في تنفيذ الخطة ووضع حد أقصى لأسعار الخام.
الخطوة رغم تأثيرها المحدود مرحليًا لكنها مع مرور الوقت إذا ما نجحت بالفعل سيكون لها مراحل أخرى تتعلق بالنزول بالحد الأقصى للسعر أكثر وأكثر، تمهيدًا للتخلي عن النفط والغاز الروسي وذلك بالتوازي مع خطة تقليل الاستخدام من جانب والبحث عن بدائل من جانب أخر، وهو ما تعيه موسكو جيدًا وعليه فمن المتوقع أن يكون لديها ردود أفعال بعضها انتقامي.
رد الفعل الأبرز هو تقليل الإمدادات الموجهة للأسواق الأوروبية، وتحويلها إلى الأسواق الأسيوية غير المدرجة ضمن الدول المشاركة في الخطة الأوروبية، وهنا ستكون الدول الأوروبية هي المتضرر الأكبر، إذ أنها ستعاني بالفعل من نقص الإمدادات في ظل شتاء قارس، ما قد يترتب على ذلك ارتفاع كبير في الأسعار من جانب، وزيادة حدة الغضب والاحتقان الشعبي من جانب أخر.
تعلم موسكو جيدًا حاجة الغرب لإمداداتها من الغاز، وأنها من دونه ربما تتحول إلى قطعة ثلج، وتعلم أوروبا حاجة الروس لعائدات النفط التي تشكل عصب اقتصادهم وشريانه الرئيسي الذي لا يمكن القيام بدونه، وفي ضوء المعلومات المتوفرة لدى الطرفين يمارسان معًا لعبة شد الحبل
وهناك مسار أخر قد يلجأ إليه الروس يتعلق بخلق سوق مواز، بحيث تبيع موسكو إنتاجها من النفط والغاز للدول المستوردة بالسعر العالمي وبشكل غير رسمي، وهو سيناريو ليس ببعيد في ظل حاجة الصين والهند وبعض الدول الأسيوية للخام الروسي تجنبًا لأي هزًات تهدد كياناتهم الصناعية التي تعتمد على الطاقة.
وهناك رد فعل أخر قد تلجأ إليه موسكو لكنه ربما يكون الخيار الأخير وهو خفض الإنتاج بشكل كبير، وهو أقرب إلى “الانتحار الجماعي” فحرمان روسيا من عائدات النفط يعني ضربها اقتصاديًا، إذ تعتمد في المقام الأول على عائدات النفط في تسيير أمورها، لكن في ظل سياسة العناد المتبعة من الطرفين ليس هناك مستبعد في ظل سياسة “الأرض المحروقة” التي يتبعها الطرفان.
تحاول القوى الغربية استخدام كافة أوراق الضغط المتاحة لتضييق الخناق على موسكو، غير أن اللعب بورقة الغاز والنفط الروسيين تحديدًا وفي هذا التوقيت مغامرة كبيرة ربما تتحول كـ “كرة نار” متدحرجة، فالتصعيد المتبادل هنا قد يقود سوق الطاقة إلى مستويات جنونية تحدث زلزالا مدويًا من تحت أقدام الاقتصاد العالمي برمته.
تعلم موسكو جيدًا حاجة الغرب لإمداداتها من الغاز، وأنها من دونه ربما تتحول إلى قطعة ثلج، وتعلم أوروبا حاجة الروس لعائدات النفط التي تشكل عصب اقتصادهم وشريانه الرئيسي الذي لا يمكن القيام بدونه، وفي ضوء المعلومات المتوفرة لدى الطرفين يمارسان معًا لعبة شد الحبل، غير أن التطرف في الجذب ربما يأتي بنتائج كارثية وهو ما لايقبله الجانبان رغم التصعيد الحالي.
وهكذا تبقى الساعات القادمة مفتوحة على كافة الاحتمالات، فالتوصل إلى توافق بين دول أوروبا في هذا الملف لن يكون أمرًا سهلا في ظل تباين تداعيات هذا القرار على الدول وفق احتياجاتها وظروفها الخاصة، وهو ما يعني حدوث مزيد من التشققات في حال فرض القرار بالأغلبية، الأمر الذي يسعى الاتحاد لتجنبه في الوقت الراهن في ظل حرب الاستقطابات المشتعلة الأن، ليبقى سوق الطاقة العالمي في حالة سيولة مستمرة، ترقبًا لأي قرار أو رد فعل يقلب الطاولة بين اللحظة والأخرى.