جاءت القمة العربية الصينية التي اختتمت أعمالها في الرياض نهاية الأسبوع الماضي، لتسلّط الضوء على طبيعة الحراك الدبلوماسي الذي تقوده المملكة العربية السعودية، إقليميًّا ودوليًّا، والأهم نجاحها في تحقيق اختراق سياسي على مستوى العلاقات الصينية الإيرانية، التي شهدت تصاعدًا ملحوظًا على مستوى العلاقات الدولية، وصلت إلى الحدّ الذي وقّعت فيه كلا الدولتَين شراكة استراتيجية تمتدّ 25 عامًا، ما تمَّ اعتباره تحديًا استراتيجيًّا واجهته دول المنطقة، خصوصًا السعودية، بمزيد من الشك وعدم اليقين.
في سياق القمة الأخيرة، يمثّل نجاح السعودية في تحييد الصين عن إيران، وتوقيع عدة اتفاقيات استراتيجية في مجال الطاقة والتكنولوجيا، لا تقلّ أهمية عن تلك الموقّعة بين الصين وإيران؛ تحولًا نوعيًّا وجد صداه داخل أروقة صنع القرار في إيران، التي رأت من القمة العربية الصينية محاولة عربية جادّة لفرض مزيد من العزلة على إيران، وما يزيد من الخشية الإيرانية هو أن توقيت القمّة يأتي مترافقًا مع تصاعد حدة الاحتجاجات الداخلية التي دخلت في شهرها الرابع.
استنفار إيراني لإيقاف الصين
مع بدء الدوام الرسمي في إيران مطلع الأسبوع الجاري، بدأت المطالعات الصحفية للصحف الرسمية الإيرانية في سرد العديد من الأخبار والمقالات التي تتحدث عن القمة الأخيرة، فقد أوردت صحيفة “آرمان ملي” الإصلاحية في افتتاحية عددها خبرًا بعنوان: “من توقيع العقود مع بكين إلى مساعي العلاقات مع طهران.. إلى ماذا تطمح السعودية؟”.
كما تحدثت صحيفة “جوان” الأصولية عن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في خطابه لمنسّق السياسة الخارجية الأوروبي: “اخبروا الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة أنه بالضغط لن نقدّم تنازلات”، أما صحيفة “اطلاعات” شبه الرسمية فقد تحدثت عن “معارضة طهران للبيان بين الصين وعرب المنطقة المعادي لإيران”، وكذلك صحيفة “آفتاب يزد” الإصلاحية: “لماذا نظرتنا إلى الصين سيّئة؟”.
وفي هذا الإطار أيضًا، تحدثت العديد من المصادر الإيرانية عن استياء الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، من الخطوة الصينية الأخيرة، وأشارت إلى أن طهران غاضبة جدًّا من البيان المشترَك الصادر عن القمّتَين الخليجية-الصينية والصينية-السعودية، الذي يؤيّد الاتهامات لإيران بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ويعتبر سلوكها السبب الرئيسي لحالة عدم الاستقرار في منطقة الخليج، وقال المصدر إن الرئيس الإيراني أمرَ أيضًا بتأجيل توقيع عدد من الاتفاقيات مع بكين، وطلب إبلاغ الصينيين أن طهران لم تعد معنية بتأمين أي حماية للشركات الصينية العاملة في العراق أو سوريا.
مضيفًا أن فصائل مسلحة مقرّبة من إيران قدّمت حماية لبعض الهجمات التي قام بها أنصار التيار الصدري في منطقة البصرة، كما أشارت إلى أن رئيسي أوعز بدراسة طلب نشطاء من أقلية الإيغور المسلمة، التي تقول دول غربية إنها مضطهدة في الصين، لتأسيس مكتب لها في طهران وإعطاء بعضها حق اللجوء السياسي، ردًّا على قيام التلفزيون الصيني الرسمي بإجراء مقابلة مع أحمد ابن الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي، بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات التي تشهدها إيران. أما وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، فقد أكّد موقف بلاده الرافض لما جاء في البيان الختامي للقمة العربية الصينية، حول الجزر الخليجية الثلاث، حيث قال إن جزر أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى، جزء لا يتجزّأ من أراضي إيران الخالصة التي ستبقى تنتمي إلى وطنها الأم للأبد.
في السياق، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، أن مساعد وزير الخارجية الإيراني عقد جلسة مع السفير الصيني لدى طهران، عبّر فيها عن استياء طهران الشديد من إدراج قضايا متعلقة بإيران مثل الجزر الثلاثة ومفاوضات الاتفاق النووي خلال القمة، كما تمَّ التأكيد على أنّ الجزر الثلاث جزء لا يتجزّأ من الأراضي الإيرانية.
أين تكمن الخشية الإيرانية؟
تدرك إيران أن العلاقات الوثيقة مع الصين تصبّ بالنهاية في خدمة موقعها ضمن معادلة التوازنات الإقليمية بالمنطقة، فالظهير الدولي يؤدي دورًا مهمًّا في هذا الإطار، وفي ظل التعثر والانشغال الروسي بالأزمة الأوكرانية، لم يتبقَّ أمام إيران إلّا الورقة الصينية كي تناور بها أمام القوى الإقليمية الأخرى، أبرزها السعودية وتركيا، ومن ثم إن دخول السعودية على خط العلاقات الفاعلة مع الصين، إلى جانب الإغراءات الاقتصادية التي يمكن أن تقدّمها، قد يدفعا الصين بالنهاية إلى تقليل التزامها الاستراتيجي بإيران، وهو ما يشكّل خشية رئيسية لإيران.
ليس هذا فحسب، بل إن إمكانية حصول الصين على بيئة استثمارية أكثر أمانًا من إيران التي تواجه الاحتجاجات، والعراق الذي يواجه حالة عدم استقرار سياسي وأمني، عبر الاستثمار في الدول الخليجية، قد يسحب بدوره ممرًّا اقتصاديًّا مهمًّا تمكّنت من خلاله إيران التحايل على العقوبات الأمريكية طيلة الفترة الماضية، وهو ما يضيف بدوره مزيدًا من الضغوط على إيران، التي راهنت منذ 3 سنوات ماضية على خيار التوجه نحو الشرق، كردّ فعل مباشر على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، والعجز الأوروبي على إعادة إحياء الاتفاق من جديد.
إن السعي الإيراني المستمر للاستثمار بالدور الصيني في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، قد يكون بدوره أمام تحدٍّ حقيقي في مرحلة ما بعد القمة الأخيرة، فموقعها المركزي على خارطة مبادرة الحزام والطريق الصينية، إلى جانب شراكتها الاستراتيجية مع الصين، أصبحت تواجه عقدة استراتيجية مهمة، فيما لو تمكنت السعودية، ودول عربية أخرى، طرح نفسها كبديل استراتيجي فاعل عوضًا عن إيران.
ولعلّ السعودية والدول العربية لهما ما يبرر التوجه نحو الصين، فالفشل الأمريكي في كبح جماح السلوكيات الإيرانية، إلى جانب الانشغال بالأزمة الأوكرانية، حتّم عليهما البحث عن خيارات أخرى، تخدم خطط التنمية والتنويع الاقتصادي، ويبدو أن التوجه نحو الصين قد يلبّي هذه الحاجة الاستراتيجية، إلا أنه من جهة أخرى سيتوقف نجاح المسعى الاستراتيجي السعودي والعربي بالنهاية، على مدى قدرة الصين على التوفيق بين الحاجات العربية والضرورات الإيرانية في المرحلة المقبلة.