بحلول 15 ديسمبر/كانون الأول، يبدأ معلمو السودان خطوة تصعيد قاسية بحق ملايين التلاميذ تتمثل في إغلاق المدارس، من أجل الضغط في اتجاه تحسين استحقاقاتهم المالية.
يشمل تصعيد المعلمين إضرابًا عن العمل وإغلاق المدارس خلال شهر ديسمبر الجاري، وهذا أمر يُرجَّح أن يقود إلى زيادة الضغوط على قطاع التعليم الذي يفتقر إلى التمويل الحكومي الكافي، نظرًا إلى الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد لسنوات طويلة، دون وجود آمال قوية تُفيد انفراجها في المستقبل المنظور.
تقود لجنة المعلمين، وهي هيئة نقابية تتحدث باسم أساتذة مدارس مراحل الأساسي والمتوسط والثانوي، التصعيد ضد السلطة منذ 10 مارس/ آذار 2021 فيما يتعلق بزيادة أجورهم، قبل أن تعاود الكرّة مرة أخرى في 16 أكتوبر/ تشرين الأول، بتنظيمها احتجاجات ضخمة في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى تُطالب برفع الإنفاق على التعليم بنسبة 20% من موازنة الدولة، وتعديل الحد الأدنى للمعلمين إلى 69 ألف جنيه (حوالي 121 دولارًا).
تبدو مطالب المعلمين معقولة في ظل ضعف رواتبهم التي تغطي 13% فقط من احتياجاتهم الحياتية، مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية التي تزيد بمتوالية هندسية دون رقابة حكومية صارمة على التجّار، لكن ماذا عن التعليم؟
لا يوجد مستقبل
تُصنّف منظمة إنقاذ الطفولة نظام التعليم في السودان في المرتبة الثانية لمخاطر تعطُّله، ولم يأتِ هذا من فراغ، فكثير من الأُسر تفضّل عمل أبنائها في أي مهنة لمساعدتها في تكاليف الاحتياجات اليومية بدلًا من الذهاب إلى قاعات الدراسة، فيما يُعرَف بظاهرة تسرُّب الأطفال من المدارس.
وفي هذا تقول منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة إن هناك 6.9 ملايين طفل -أي واحد من كل 3 أطفال في سن الدراسة- لا يذهبون إلى المدرسة، وتعلّق ممثلة المنظمة في السودان مانديب أوبراين: “لا يمكن لأي بلد تحمُّل عبء عدم معرفة ثُلث أطفاله في سن الدراسة مبادئ القراءة والكتابة والمهارات الرقمية، فالتعليم ليس مجرد حق – إنه أيضًا شريان للحياة”.
في أسواق مدن السودان، تجدُ مئات الأطفال يعملون طوال ساعات النهار في حمل أمتعة المسافرين عبر عجلة اليد المعروفة شعبيًّا بـ”الدرداقة”، مقابل مبلغ مالي زهيد، وبعضهم يضع عليها سلعًا مثل البصل والبهارات وأدوات النظافة الشخصية، لبيعها للمتسوقين لجني ربح قليل، أما في القرى فغالبًا ما يعمل الأطفال في مجالات الرعي والزراعة الشاقة.
صحيح أن الدولة منعت عمالة الأطفال، لكنها لم تتخذ إجراءات لوضع حد لها، فاقم من ذلك عدم الاستقرار السياسي، وفي هذا يقول المعلم خالد إبراهيم لـ”نون بوست”: “ينبغي أن يكون التعليم مؤسسة راسخة لا تتأثر بالاضطرابات في الدولة، وهو الآن أول المتأثرين بها. التعليم يشكّل حماية كبيرة للأطفال من التجنيد في الجماعات المسلحة ومن العمالة والعنف، لكنه يعاني من ضعف البنية التحتية ونقص المعلمين. المدارس التي انهارت خريف هذا العام لم ترمَّم”.
ترجّح اليونيسف انقطاع دراسة 12 مليون طفل سوداني بشكل كبير بسبب نقص المعلمين، وضعف البنية التحتية، والحاجة إلى توفير بيئة تمكّن الأطفال من التعلُّم وتجعلهم يحققون إمكاناتهم الكامنة في حدّها الأقصى، لكنها لم تُشِر إلى أن الفقر يعدّ سببًا رئيسيًّا في إحجام الأسر عن إرسال أطفالهم إلى المدارس.
عمل برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة على توفير وجبات مجانية للتلاميذ في السودان، لكن ضعف التمويل ربما يقوده إلى توقيف هذا النشاط، ومع البرنامج، وبشكل منفصل، تعمل منظمات أخرى على تقديم الغذاء للأطفال في المدارس، مثل منظمة “كلنا قيم”، ولكن نشاطها توقف بسبب قرار حكومي.
إزاء هذا الوضع، يمكن القول إن مستقبل البلاد التي تنظر إلى نفسها كسلة غذاء العالم قاتمٌ، حيث إنه في حال الاستمرار في هذا المنوال فإن عدد من يتعلمون سيتحول من الملايين إلى الآلاف، مع العلم أن عدد من هم أقل من 15 عامًا في السودان يبلغ 18.3 مليون شخص من أصل 45.6 مليون نسمة هم مجموع سكّان البلاد، وفقًا لتقديرات مركز الإحصاء لعام 2021.
عمل إضافي
يقول المعلم أحمد خالد لـ”نون بوست” إنه في السابق يقدم دروسًا خاصة لتلاميذه مقابل مبلغ مالي، لكنه توقف الآن بسبب أوضاع أسرهم الاقتصادية، ما دفعه إلى العمل بعد انتهاء دوام المدرسة، في مركز لحلاقة شعر الشباب مقابل 2000 جنيه يوميًّا (نحو 3.50 دولارات)، من أجل إطعام أطفاله.
وأثناء حديثه، نصحه زميله غير المتزوج بالهجرة وقال له ساخرًا: “قلت لك قبل أعوام ألّا تتزوج. الزواج في هذه البلد للأغنياء فقط”، والأخير، رغم أنه يعول نفسه فقط، إلا أنه يضطر العمل ليلًا في مخبز قرب سكنه ليعيش حياة تتوفر فيها الضروريات فقط، وفق تعبيره.
تتحدث دراسة، نشرتها لجنة المعلمين في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، عن أن وضع المعلمين معيشيًّا مذرٍ يضع العاملين في دائرة الفقر المدقع، ما يجعل المهنة طاردة أو غير أساسية لمن يمتهنها.
يبدو هذا الوضع غير معقول، لكنه واقع حقيقي، إذ يحكي عباس طه، المعلم في مدينة الحصاحيصا وسط السودان، عن عمله الثاني في مهنة الزراعة، ويقول إنه يملك قطعة أرض زراعية مساحتها 10 أفدنة يزرعها بالخضروات، ومن ريعها يستطيع العيش بعد أن يتقاسمه مع العامل، وفكّر طه كثيرًا في ترك التدريس والتفرُّغ للزراعة، لكنه سرعان ما يتراجع لحبّه الجارف للتعليم.
في ظل هذا الوضع، الذي يُعاني منه المعلمون والتلاميذ وآباؤهم معًا، لا يمكن لأي عاقل أن يترقب مستقبلًا جيدًا للسودان إلا في حال نُفّذ مطلب رفع الإنفاق على التعليم إلى نسبة 20% من موازنة الدولة، وهذا فيما يبدو صعب إن لم نقل مستحيلًا لبلاد تعاني من أزمة اقتصادية متطاولة، وتعيش في فساد مالي وإداري وحكم عسكري يوجِّه الموارد المالية لجنده الذين يحمونه من غضب الشعب.