من وحي انتصار المنتخب المغربي إلى الدور نصف النهائي المونديالي، من أرض قطر، ترحل الذاكرة إلى يوميات ربيع عربي مغدور، ولا يزال يتألم، لكنّ ربيعًا آخر رياضيًّا حظيَ لدى المغرب وقطر، كما الربيع الأول، بمعاملة خاصة جدًّا، انتصرت فيه الدوحة لكرم العروبة وقيم الإسلام، وحقّقت فيه الرباط مكسبًا عربيًّا وأفريقيًّا غير مسبوق، وحّد العرب في المشرق والمغرب، مرورًا بحواري القدس، فأغاظ المحتل.
ربيع جديد
أكثر من عقد من الزمن على ثورات الربيع العربي، ثورات بشّرت بالإزهار من شوارع تونس الخضراء، وانتهت بشتاء قارس مخضب بالدماء في سوريا الفيحاء واليمن السعيد، أما آن للربيع أن يزهر؟ لسان حال المشرّدين من الغرباء داخل أوطانهم، قبل اللاجئين في الشتات.
اعتقد كثيرون، بعد هول ما رأوا، أن الربيع قد بيع، فإذا بالدوحة تنفض الغبار عن وجهه من جديد، وتحيي فيه روح الوحدة، فتجدّدت روح الإخاء بين شعوب المنطقة، في مناسبة نادرة لالتقائهم بالآلاف في مكان واحد، بأعلام شتّى، لكن في انسجام قلَّ نظيره، بعد ضغائن عقود، بعضها سياسي موروث من باب “فرّق تسُد”، وبعضها الآخر تراكمات استعمارية مصطنعة.
أظهرت هذه البطولة الرغبة في التحرر من القُطرية والحمية الضيقة، فحضر مشجّعون عرب بقوة رغم أن دولهم غير مشاركة بالمونديال، وظهرت سردية أنه ليس لعربي من مكسب ليفخر به على آخر، سوى أن يهبَّ لمساندة المنتخب العربي يوم نزاله (أو المنتخب الأفريقي ثم المنتخب الأقرب فالأقرب)، حتى إذا بقيَ أسود المغرب لوحدهم اصطفّ الجميع خلفهم، فانصهرت المشاعر في قلب رجل واحد.
وتوّجت قطر على أرضها تلك الوحدة الشعبية العربية من جديد، فعمَّ الشعور بالعزة والكرامة من المحيط إلى الخليج، في عرس كروي صنعه منتخب المغرب كأول منتخب عربي يصل إلى الدور ربع النهائي بعد هزيمته إسبانيا، ثم تحقق التتويج الأكبر بانتصاره على البرتغال، ليصبح أول منتخب أفريقي وعربي يعبر إلى المربع الذهبي.
مازالت أزهار الربيع تتفتح في العالم العربي، وها هي نسخة الربيع العربي الرياضية تكتمل بعد فوز المغاربة في مباراة #المغرب_البرتغال .
الدرس المستفاد أن الإصرار يحقق الأمال، والشباب جنود الأمة في الجد واللعب. #المغرب pic.twitter.com/DVN0QfQNIh
— د. محمد الصغير (@drassagheer) December 10, 2022
لقد كانت فرحة نادرة أن تجتمع قلوب العرب، شيبًا وشبابًا ونساء، من مغربها إلى مشرقها، في بهجة واحدة، وفي توقيت واحد احتفل به القطريون والباكستانيون والأفغان في سوق واقف، وخرج الإماراتيون فرحًا، وهلّل السعوديون، وكبّر اليمانية.
ووصل الصدى أرض الحبشة والصومال، وهتف المقدسيون للمغرب رافعين علمه في حواري البلدة القديمة وباب العامود، ما استفزَّ قوات الاحتلال.
وغربًا خرج الليبيون في طرابلس ومصراتة يوزّعون الحلوى على المارّة وأطلقوا التكبيرات بالمساجد، ولاح التونسيون والجزائريون في مسيرات راجلة وسيارة بوهران وشرقها وغربها.
نجحت قطر تنظيمًا فرفعت الرؤوس، وأفلحت المغرب كرويًّا فأبهجت النفوس، لُحمة عربية وراء الانتصار، شعر بها الأفريقي والمسلم حتى حدود السنغال وساحل العاجل، وحيث ما تواجدت الجاليات شمالًا وجنوبًا.
والشيء بالشيء يذكر، لكأن هذا الربيع المونديالي قام على أطلال ربيع آخر يواسيه بعد الدمار والتخريب، وتعاقب دعوات الإصلاح والتقريب.
لم يترك التشويه الذي صُبّ على قطر مجالًا إلا وشمله، ضخّ إعلامي مكثّف، وإنفاق مادي طائل، وحملات إلكترونية للشيطنة والترذيل منذ إعلان وقوفها مع الشعوب، قبل أن تستوعب أهداف الثورات في التغيير مبكرًا منذ عام 2013، عبر إجراء أول انتخابات تشريعية تمَّ إرجاؤها بعد أن تخلّى الأمير حمد عن الحكم طواعية، لتبدأ أول تجربة لانتخابات مجلس الشورى.
في المقابل، حشرت دول مجاورة أنفها مبكّرًا في جميع الثورات، وأنفقت مليارات الدولارات لإفشال الحراك العربي المطالب بالتحرر، وقد وصل بها الأمر إلى استعمال السلاح والذخيرة الحيّة بالاشتراك مع حلفائها بعد الانقلاب العسكري في مصر، على غرار دعم انقلاب عسكري آخر في ليبيا، ولا تخفى مشاركتها المباشرة في قصف المدن، واحتلالها قواعد عسكرية وتزويدها بالمرتزقة.
لا يمكن أن تمرَّ مشهدية الربيع في بُعده التراجيدي، دون الإشارة إلى دور أجندات التخريب في إذكاء الصراع العربي في اليمن، ودعم الانفصاليين، مرورًا باحتلال مدن وجزر ومناطق حيوية وموانئ نفطية، ونهب وسرقة خيرات البلد من آثار إلى أشجار نادرة، يتمّ كل ذلك بزعم حفظ الشرعية التي جاءت بها ثورة فبراير اليمنية، بينما لم يتحقق ذلك لليوم حتى في المناطق الموالية للمحور الإماراتي.
دون إغفال تدخلها مع السعودية في البحرين، في إطار صدّ الموجة العارمة للربيع العربي التي لا يمكن فصلها عمّا يجري في عموم المنطقة، ولا أدلّ من ذلك محاولة تكرار سيناريو الاجتياح في قطر عام 2017، فلم تكن قطر شيعية ولا حوثية، بل فقط لنَفَسها المنافح على الربيع العربي.
للمغرب الأقصى تجربته أيضًا، تجربة جديرة بالاهتمام في التعاطي مع موجة الربيع العربي منذ هبوبها الأول، فلم تكن كاسحة حتى تكسرها، ولا مائعة حتى يركبها عدو متربّص، بل سايرتها وهضمت التغيرات القادمة من دول الجوار المنادية بالحرية والكرامة، فامتصت الغضب الشعبي، وأعلنت البلاد تماهيًا مع رغبة النخبة في الانفتاح على أفق سياسي أرحب.
ثم لجأ المغرب إلى التصويت على دستور جديد، في وقت اعتمدت فيه دول أخرى مقاربات أمنية قمعية تجاه المتظاهرين، ثم بدأ الحديث عن إصلاح جذري يقلّص صلاحيات عاهل البلاد، فعبر جسر المخاض بواقعية بعد أول انتخابات ديمقراطية نزيهة.
الاستقلال ممكن
فوّتت البحرين فرصة شعبها للتمتُّع بالحرية، التي لو اكتسبها لاكتسب مصالحة حقيقية، ثم إعادة بناء الدولة وفق آمال أبنائها، لا أن تصبح “جزيرة ريتويت” كما يسميها البعض، كناية على التبعية لقرار المُحمدَين الإماراتي والسعودي، لذلك حصلا على تبعية البحرين دون عناء، على خلاف قطر التي عضت بنواجذها على استقلالية قرارها الداخلي، حتى جاؤوها طائعين، بعد قطيعة سنوات، وحصار طال الإنسان والحيوان، وبلغ درجة التهديد بتنصيب نظام سياسي موالٍ.
وكانت النتيجة أن انكسرت هيبة المنظومة السياسية الخليجية بقيادة السعودية والإمارات، فرضخت منكسرة الوجدان للثورات المضادة، وذهبت إلى شراء الولاء من النظام السوري، بعد سنوات من معارضتها له، ورحّبت به في عقر دارها.
والأنكى أن تشتري منه الولاء، طمعًا في بعض الاستثمارات وترك المعارضة السورية تعاني الخذلان، بعد أن دعمتها في ثورتها، ناهيك عن خذلان الآلاف من المدنيين، وتركهم فريسة كل عام لبرد الشتاء وحر الصيف، وضحايا للخصاصة والمجاعة.
تسجيل مصور تم تداولة بكثافة في أوساط السوريين اليوم، وفيه طفلتان يتيمتان تشتكيان البرد والجوع في المناطق المحررة شمال غربي سوريا.
التسجيل مقتطع من تسجيلات نشرتها منظمة اغاثية بهدف جمع التبرعات للاطفال الايتام. pic.twitter.com/NhpuELJAb6
— خالد الخطيب – Khaled Al-Khatib (@khaleedalkhteb) December 7, 2022
هذا دون نسيان تهميش دور مصر، بضرب ثورة أبنائها، وجعلها أيضًا ضحية للتبعية المالية حتى باتت مهددة بشبح الإفلاس بعد التخلي عن العرض والأرض، باعت جزيرتَي تيران وصنافير بعد أن كانت أمّ الدنيا تمثل قاطرة القرار السياسي العربي، بصرف النظر عن مدى صوابيته.
بعد كل معالم الإطاحة بالربيع، استسهل العدو التاريخي للعرب بعث مشروعه التطبيعي، فانبرى أعداء الربيع لعقد تحالفات عسكرية مع كيان الاحتلال الصهيوني، وإجراء مناورات وعقد مؤتمرات تطبيعية على الأرض المحتلة، ثم جاءت به إلى الخليج لتوطين صناعته وتجارته وكنائسه هناك، بزعم الدعوة إلى التسامح الحضاري والديني تارة، أو مقارعة التيار الإسلامي ومواجهة إيران والحوثيين تارة أخرى، بعد أن أصبحوا تحت رحمة ذراعهما المسلحة التي زادت تمددًا عمّا قبل.
فقط “ديروا النية”
لإصلاح ما سبق ذكره من فعل سياسي، قادت الدوحة ربيعًا رياضيًّا، فدبّت الحياة في الشرايين من جديد، فها هو المغرب يستصرخ الهمم على الإرادة والعزيمة، ودوحة العرب تجعلنا نؤمن بأن الحلم العربي ممكن، والهجمة الصهيونية العنيفة على كل ما هو عربي تذكّرنا ببعض ما نسيناه من هول الواقع المتردي، من مقولات وأشعار خالدة مثل “بلاد العرب أوطاني”، حتى استرسل المذيعون العرب في استحضار صفحات التاريخ المشرقة، وهتف العالم الحر لنا وفرح، وظهرت فلسطين حية في ضمير الإنسانية.
خليل البلوشي : أنا عربي ولدت بتونس الخضراء من أصل عُماني
وعمرى زاد عن ألف وأمي لم تزل تحبل
أنا العربى فى بغداد لي نخل
وفى السودان شرياني
أنا مصري موريتانيا وجيبوتي وعُماني
——
بلاد العرب أوطانى – وكل العرب إخواني
#أسود_الأطلس pic.twitter.com/sCHJADIGSP
— أنّدَلُسۡ عُمَانَ (@andalus717) December 10, 2022
لقد رفعت الثورة الفلسطينية أول شعاراتها “ثورة حتى النصر”، ثم صدحت غداة الربيع العربي صرخة “الشعب يريد تحرير فلسطين”، وها هي ترفع شعارًا جديدًا في وجه الإعلام الصهيوني، بأن ربيع العرب سيزهر من الدوحة إلى الرباط، وسيسقط مشاريع التطبيع الرسمي، بعد أن احتلت قضية فلسطين التاريخية الصدارة في هذا المحفل الدولي، ربما بشكل لم تسوّق له حتى منظمة التحرير الفلسطينية، بشهادة الدوائر الغربية، وفق تأكيد صحيفة “لوس أنجلس تايمز” بمقال مطوّل عن ذلك.
وبالنتيجة، تبقى الإرادة والإصرار وراء كل انتصار، لا فرق بين “الشعب يريد”، أو “ديروا النية” باللهجة المغربية، عن الشعار الذي رفعه المغاربة، أي “اعقدوا النية” على الانتصار، فإنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى.