لقد تفتّح وعي جماهير عريضة من أجيال المسلمين في هذا العصر على واقع فيه الكثير من التحديات والعوائق، وجدوا أنفسهم أمام أسئلة وتحديات كبرى تواجه رغبتهم في تطوير وترتيب حياتهم وفق تعاليم دينهم، فوجدوا أنماط حياة جديدة لم يسبق أن تحدّث الفقهاء عنها، فلم يعرفوا كيف يتعاملون معها، وعُرضت لهم تساؤلات مشروعة تحتاج إلى إجابات، وأُلقيت عليهم شبهات وتهم تحتاج إلى ردود مقنعة.
فوجد كثير منهم ضالته في مكتبة عالم جليل، متحرر من المحاذير، من قيود التقليد إلى محاولات التغريب، كاسرًا طوق الهزيمة الثقافية التي تخلخل المنهج السليم في فهم الإسلام.
وجدت تلك الأجيال في كتابات هذا الشيخ ما يعطيها الإجابة العلمية المنطقية عن تساؤلاتها، ويقدّم لها نموذج وتعاليم الإسلام بطريقة سهلة معاصرة، تمكّنها من فهمه أولًا، ثم عرضه للناس ثانيًا، ثم الرد على المفترين ثالثًا، لقد حمل، مع غيره ممّن سبقه ولحقه، رسالة تجديد الإسلام حتى يكون غضًّا طريًّا كأنه نزل في هذا العصر.
أشرنا في الورقات السابقة من ملف “مجددون” إلى جهود أبرز مجددي هذا العصر، تنقّلنا بين مدارس مختلفة، وتيارات قد تكون متباينة، لكنها تجتمع كلها في محاولة إحياء أمة المسلمين في هذا الزمان، عن طريق دخول العصر الحديث منطلقة من أصول دينها وخصائص حضارتها وهويتها الثقافية، فتنقّلنا بين فكر محمد عبده وبدر الدين الحسني وابن عاشور والشيخ الغزالي، إلى أن وصلنا إلى آخرهم زمنًا، الشيخ الذي حاول جمع خصائص تلك المدارس كلها، العلامة القرضاوي رحمه الله.
الدعوات السابقة كانت قائمة على أركان مهمة، فمنها من دعا إلى تصحيح فهم الإسلام كالغزالي في كتابه “كيف نفهم الإسلام؟” وكثير من كتبه، ومنها من دعا إلى إحياء التراث الإسلامي والاهتمام بالثروة الهائلة من العلوم الدينية التي تركها السابقون، ومنها ما دعا إلى تطوير بعض مجالات العلوم الشرعية التي كثرت الحاجة إليها في هذا الزمان، ومنها ما دعا إلى الاهتمام بالجانب التربوي وتجديد الإيمان في قلوب الناس وإعادة إنتاج وضبط العلم الذي اهتم بذلك (التصوف)، ومنها دعوات للعمل السياسي لإزالة العوائق التي تمنع المسلمين من تطوير حياتهم، إلى غير ذلك من الجوانب المهمة.
أثبت القرضاوي أنه حُجّة العصر بدخوله معترك كل تلك الميادين وتقديم جهوده واجتهاداته فيها، في العمل الحركي والنشاط السياسي والخطابة والتأليف والدعوة والأعمال التنظيمية المختلفة، فحاول أن يستجيب لكل احتياجات الأمة في الجانب العلمي والدعوي.
وقدّر الله عليه بالمواهب والظروف التي ساعدته على ذلك، من رعاية مبكرة في صغره وذاكرة قوية وحفظ مبكّر لكتاب الله، ثم دراسة أزهرية وتفوُّق في ذلك، وتعرّف إلى أعلام كبار من مشايخ الأزهر ومصر عمومًا، ثم انتقال إلى قطر والاستفادة من توجُّه حكّام قطر في دعم وتطوير التعليم الشرعي واستقطاب الكفاءات، بالإضافة إلى العمر الطويل الذي أتاح له تقديم كل تلك الجهود، وهذا فضل من الله، فـ”خيركم من طال عمره وحسن عمله”.
يحتجّ بعض المنتقدين بأن الانتشار الواسع والإنتاج الغزير يرجع إلى طول عمره وظروف علمية ومالية سُخّرت له، ولكن ذلك بذاته يحسب له لا عليه، فقد استطاع أن يغتنم كل الفرص التي أتيحت له في خدمة الإسلام والمسلمين، ويوضّح هو ذلك في جواب لمن سأله عن جمعه بين الجانب العملي والجانب النظري، فقال:
“أولًا: إن هذا من فضل الله عليّ، وتوفيقه لي، أن رزقني البركة في وقتي، ولا أقول إلا ما قال سيدنا شعيب: “وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”، وما قاله الشاعر قديمًا:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وثانيًا: إنني أعمل نحو خمس عشرة ساعة تقريبًا يوميًّا، ولا أكاد آخذ لنفسي إجازة، لا في صيف ولا شتاء، وأكتب في كل مكان وفي كل حين وعلى أية حال”.
مجالات نشاطه
انتمى القرضاوي في بداياته إلى جماعة الإخوان المسلمين، فاشتغل بالعمل الحركي، ثم رأى ألا يحصر فكره ودعوته في تيار إسلامي واحد، فترك الإخوان، وإن بقيَ وفيًّا لتلك المرحلة من عمره لا يتنكر لها، بل يكتب في سنّ متقدمة كتبًا يخدم فيها تلك الحركة.
تركَ الحركة لكنه لم يترك السياسة التي يعدّها جزءًا أصيلًا من الإسلام، فهو يعدّ اشتغال الداعية في التعليق على الأحداث السياسية الكبرى والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لا يجوز له تركها، فمهمة الداعية البيان والإشادة بالصواب والإنكار على الخطأ.
كما اشتغل بالدعوة والخطابة فكان خطيبًا مفوّهًا، واشتغل بالتعليم والتدريس الديني فكان أستاذًا متميزًا، ونشط في العمل العلمائي التنظيمي الذي يوحّد جهود الدعاة، فشارك في تأسيس عدة مؤسسات علمائية، وكان عضوًا في غيرها.
أما الإنتاج الأغزر والمجال الأكبر الذي نشط فيه فهو ميدان البحث العلمي والكتابة والتأليف، وقد يجدُ الباحث صعوبة في الاطّلاع على كامل نتاجه العلمي لكثرته وتشعُّبه، ولبعض التكرار الذي حصل عندما اجتزأ أجزاء من كتبه فطُبعت منفردة في استجابة لحاجات الناس.
نظرًا إلى اتّساع نشاطه، سنحاول في هذا التقرير إيضاح “بعض” اللمحات التجديدية في “بعض” المجالات التي برز فيها، تاركين مهمة الاطّلاع على عموم كتاباته لجهد القارئ، مع إشارة مقتضبة إلى بعض ما أُخذ عليه من المدارس الأخرى.
المحاور التي كتبَ فيها مجدِّدًا
لا نبالغ إن قلنا إن كل كتاباته مفعمة بروح التجديد، فلم يؤلف كتبًا تقليدية في العلوم الإسلامية، بل كل كتاب من كتبه حمل رؤية جديدة تظهر فيها روح التجديد، وفي هذا التكثيف نشير إلى إرثه في أهم العلوم:
الفقه الإسلامي
للقرضاوي كتابات كثيرة متنوعة، يفرد في كل كتاب منها موضوعًا من موضوعات الفقه الإسلامي، لا بدَّ أن يكون وثيق الصلة بحياة المسلمين اليومية، فكتب كتاب “الحلال والحرام” الذي كثيرًا ما اُختلف حوله، كان طرحًا جديدًا لم يُسبق إليه، من خلال تجميع موضوعات الحظر والإباحة من كتب الفقه الإسلامي وترتيبها وتبويبها، مع تقديم اجتهاداته الخاصة في كثير من موضوعاتها، حيث صار الوصول إلى حكم كثير من شؤون الحياة اليومية سهلًا في متناول المثقف غير المتخصّص بالفقه.
وكتابه ذائع الصيت والانتشار “فقه الزكاة”، الذي أسهب فيه في الحديث عن الزكاة، فتطرّق لموضوعات لم تكن تطرَح من قبل في كتب الفقه، حيث قدّم رؤية عامة لفريضة الزكاة ومكانتها في النظام الاقتصادي الإسلامي ودورها في ترتيب وتوجيه المجتمع المسلم، ودرس الأحاديث التي تمتلئ بها كتب الفقه المتعلقة بالزكاة دراسة حديثية، وناقش بعض القضايا الخلافية، وقدّم اجتهاداته الخاصة في بعض مصادر الدخل المعاصرة وحكم الزكاة فيها.
وفي الفقه السياسي أو الأحكام السلطانية قدّم عدة كتب، منها كتاب “فقه الدولة” الذي لم يكن تكرارًا لما ذُكر في كتب الفقه القديمة، بل معالجة لقضايا سياسية معاصرة شائكة، حيث تحدّث عن الديمقراطية ومركز المرأة في الحياة السياسية والمشاركة في حكم غير إسلامي، ويؤكد أهمية التطوير والاجتهاد في هذا الباب خاصة، فيقول في كتابه “فقه الدولة”: “وهو فقه قصّر فيه المسلمون كثيرًا في الأزمنة الأخيرة، ولم يعطوه حقه من البحث والاجتهاد”.
واهتم اهمامًا خاصًّا بأحوال الأقليات المسلمة في الدول التي يعيشون فيها، فهل الفتاوى التي تقدم لهم حيث هم أقليات، وحيث النظام العام بعيد عن الإسلام، وحيث الأعراف السائدة مخالفة لكثير من أحكام الشريعة، هل الفتاوى هي نفسها التي تعطى للمسلمين في بلادهم، أم قد تختلف في بعض الأبواب؟ فقدّم كتاب “فقه الأقليات المسلمة”، الذي فرّق فيه بين الأحكام المتعلقة بالحياة الشخصية وبعض الأحكام المتعلقة بالنظام العام.
ومن كتبه التي حجزت مكانًا مهمًّا ليس في المكتبة الشرعية، بل في المكتبة الثقافية والمكتبة السياسية والمكتبة القانونية الدولية، الكتاب المهم “فقه الجهاد”، بما يحمله من تصورات كلّية وتأصيل عميق وتحليل لفتاوى سابقة وتنزيل لها على الواقع المعاصر، مع دراسة للأطروحات القانونية الدولية المعاصرة وبيان موقف الفقه الإسلامي منها، ولا تغيب عن الكتاب قضايا المسلمين الكبرى كقضية فلسطين والعلاقة مع الصهاينة.
وغيرها مهم وكثير، كفقه الأسرة وفقه الصلاة والمعاملات المالية.
أصول الفقه
لا يمكن للفقيه أن يقدّم اجتهاداته الجديدة ما لم تكن عنده رؤيته المكتملة الخاصة به لعلم أصول الفقه، وإلا كانت اجتهاداته خبطًا عشواء، لا ضابط لها.
وقد بيّن في مقدمات كثير من كتبه الفقهية منهجه الأصولي، وألّف بعض الكتب التي تبيّن شيئًا من رؤيته كرسالته المقتضبة “نحو أصول فقه ميسر”، التي بيّن فيها رأيه ببعض مباحث الأصول وكيفية تطويرها، وله كتاب “فقه مقاصد الشريعة” بيّن فيه اتجاهه المقاصدي، كما كتب عدة كتب تعدّ مدخلًا لدراسة الفقه والأصول، منها كتاب “مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية”.
العقيدة
قدّم فيها كتبًا تجمع بين الفكر والوجدان، ككتابَي “وجود الله” و”حقيقة التوحيد”، إذ شرح بسهولة وإيجاز أهم أصول العقيدة الإسلامية بعيدًا عن الجدليات العقيمة، وكتاب “الإيمان بالقدر” الذي كان مهمًّا لتوضيح وتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة، وكتاب “الإيمان والحياة” الفريد في بابه، الذي يفصل في الحديث عن الآثار النافعة للإيمان الصحيح في حياة الفرد والمجتمع، فيكون ردًّا على من ظنَّ الإيمان ضعفًا وخمولًا وكسلًا، فبيّن أن الإيمان قوة وثقة وأمل وإقدام وسكينة ورضى، وتآلُف وتماسُك في المجتمع، وتطوير وإنتاج.
الاستجابة للبيئة الثقافية والفكرية المعاصرة
تلبيةً لحاجة الفكر الإنساني المعاصر، كان كتاب “العبادة في الإسلام” الذي يوضّح كثيرًا من المفاهيم حول العبادة، ويوسّع نظرة القارئ لمفهوم العبادة، ويزيل بعض الإشكالات.
وأيضًا كتاب “فقه الأولويات” الذي يزوّد الفقيه والداعية بالفهم المتوازن لتعاليم الدين وأولويات تطبيقها في الحياة، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والنظر إلى المآلات؛ وكتاب “ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده” الذي كان رائدًا فيه أيضًا، فرسم صورة المجتمع المسلم وتوجهاته وعلاقاته وضوابطه وكيف أراده الإسلام.
ولم تغِبْ عنه قضية الخطاب السياسي في عصر سياسي جديد، ففرّق بين المفاصلة العقدية والخطاب السياسي أو الدعوي في كتابه “خطابنا في عصر العولمة”.
ولأن عقلية المثقف المعاصر تهتم بالصورة العامة التي ترسمها الجزئيات مجتمعةً، وحتى يفهم المسلمون الإسلام فهمًا عامًّا، كان من الدعوة إلى الإسلامِ الحديثُ عن ملامح عامة لهذا الدين وبيان مزاياه، فألّف كتاب “الخصائص العامة للإسلام”.
وكتب أخرى وضّح فيها موقف الإسلام من قضايا جديدة مهمة، كالبيئة والاقتصاد ودور الأخلاق فيه.
مشكلات يعاني منها المسلمون
ككتاب “مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام”، وكتاب “أين الخلل؟”، وكتاب “درس النكبة الثانية”، وكتاب “الغلو في التكفير” حيث أضرّت هذه الظاهرة بالمسلمين ومصالحهم ضررًا بالغًا.
ملاحظة أخطاء التيارات الإسلامية
وتوجيهها وترشيدها بخطاب شرعي مؤصّل، فكانت كتب “الإسلام والفن”، و”الأقليات الدينية والحل الإسلامي”، و”المبشرات بانتصار المسلمين” وغيرها من رسائل ترشيد الصحوة.
العلاقة مع الثقافات الأخرى
ومدى ما يمكن الاستفادة منها، والحد الذي يجب الوقوف عنده، ككتاب “ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق”، وكتاب “الإسلام والغرب” وغيرهما، حيث يشرح مفهوم الثقافة وهل هناك ثقافة عالمية يمكن تعميمها، أم أن ذلك خدعة ثقافية غربية.
فقه الآداب
كان من أواخر كتاباته كتاب يتعلق بالآداب يغطي جانبًا مهمًّا من حياة المسلم، فإذا كان الفقه يتعلق بالقضاء والعدل والقانون والحد الأدنى من حفظ حدود العلاقات الاجتماعية، فإن الأدب والخلق يتعلقان بالكمال والجمال، فكان كتابه “فقه الآداب” الذي يتحدث فيه عن أدب المسلم مع ربه ومع نفسه ومع مجتمعه.
التعامُل مع التراث
وهذه قضية مهمة سبّبت شقاقًا بين بعض التيارات الإصلاحية، فكتب “كيف نتعامل مع التراث؟”.
ضبط علم التصوف
فالتصوف علم السلوك والتربية، لكنه يحمل بعض الشطحات، فلا بدَّ من تقييده بالضوابط الفقهية، فكانت للقرضاوي إسهاماته البارزة في ذلك من خلال سلسلة بدأها بكتاب “الحياة الربانية والعلم”، ليبيّن فيها أن العلم الشرعي والربانية مقترنان لا ينفكان.
باب التراجم
كان له من جهده نصيب في عدة أعمال في باب التراجم مختلفة الأسلوب والغاية، فكتاب “نساء مؤمنات” كان كتاب قصص للاستفادة من سير الصالحين في تقوية الإيمان بأسلوب أدبي جميل، وكتاب “في وداع الأعلام” جمع فيه مراثي العلماء الذين عايشهم، حيث رثاء إعلامي كان يظهر معه في برنامج الشريعة والحياة، ويُظهر هذا الكتاب التآخي بين الأقران أبناء العصر الواحد من العلماء، وكيف تتكاتف جهودهم مع اختلاف مدارسهم، وكتاب “الشيخ الغزالي كما عرفته” كان سيرة علمية فكرية ولم يكن سيرة ذاتية.
الدفاع عن الإسلام ضد شبهات والافتراءات
كانت له خُطَب ومناظرات وكتب، منها سلسلة “حتمية الحل الإسلامي”، و”تاريخنا المفترى عليه”، و”نحن والغرب”.
إسهامات أدبية
له مسرحية “يوسف الصديق” ومسرحية “سعيد بن جبير”، وديوان “نفحات ولفحات” وديوان “المسلمون قادمون”، ويردد كثير من الناس أناشيد كانت لها مكانة في تحريك النفس الثائرة، ولا يعلمون أنها من تأليفه، وقد سألتُ عن شعره المؤرّخ والناقد واللغوي الفلسطيني محمد شراب، فقال إنه لو تفرّغ للشعر لكان من كبار شعراء العصر، لكنه اهتمَّ بالعلم الشرعي.
ملامح التجديد في فكر القرضاوي
لم يكن التجديد لدى العلامة القرضاوي بقرع أبواب جديدة فحسب، بل بذلك النهج المتفرّد الذي يجده القارئ في فكره، وإيمانه القوي بضرورة التجديد، إذ يقول في كتابه “الاجتهاد في الشريعة الإسلامية”: “وإذا كان علماؤنا السابقون قد قرروا تغير الفتوى بتغير الزمان، رغم رتابة الحياة وسكونها إلى حد كبير في العصور الماضية، حتى قيل في الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه هذا اختلاف عصر وزمان وليس اختلاف حجة وبرهان، فكيف باختلاف عصرنا عن عصور أئمة الاجتهاد!”.
ويتنبّه إلى أن انحياز الناس للماضي وإعجابهم بالقديم يحول دون ذلك، فيستدلّ بما رواه الإمام أحمد عن رسول الله ﷺ: “مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره”، ويقول: “فلا غرو أن يوجد في علماء العصر من يبلغ درجة الاجتهاد المطلق، ولا حرج على فضل الله تعالى… ومن ذا الذي ينكر نبوغ محمد عبده ورشيد رضا وعبد المجيد سليم ومحمد الخضر حسين والطاهر ابن عاشور… ولكن المعاصَرة حجاب كما قالوا”.
فمن ملامح التجديد عنده:
الاهتمام بالقضايا المعاصرة حتى في الكتب التي عالج فيها قضايا تقليدية
فلم يخرج في تأليفه عن ذلك، ولا يجد القارئ له كتابًا في قضية غير ذات جدوى، أو قضية بعيدة عن اهتمام الناس، ولا يكاد يجد قضية شرعية شغلت بال الناس لم يكتب فيها، فيجد القارئ في كتاباته عرض قضايا الديمقراطية والمرأة وحقوق الإنسان، ومفاهيم الوطنية والعلمانية وما بينها من اتصال وانفصال.
الكتابة بأسلوب العصر
والتجاوب مع أسئلة العصر، فحتى الكتب العلمية التخصصية التي كتب فيها، كتبها بأسلوب ولغة تجذب المثقف المعاصر، من حيث الترتيب والتبويب واختيار المصطلحات وعرض الأفكار.
ومن أبرز الأمثلة التي يظهر فيها تجاوبه مع أسئلة العصر وكتابته بلغته، سلسلة “فتاوى معاصرة” وكتاب “فقه الجهاد”، ففي الأول يستعرض الأسئلة المتعلقة بالإسلام كله، ليس فتاوى فقهية فقط، وفي الأخير يناقش بعض قضايا القانون الدولي والأمم المتحدة، وتهمة الإرهاب وما يتعلق بها، وبعض الاتفاقيات الدولية التي تقيّد بعض المباحات في القانون الدولي الإسلامي، وحكم الالتزام بهذه الاتفاقيات.
ولا يغيب عنه واقع المسلمين، إذ يقول بضرورة تصور الواقع تصورًا صحيحًا عند الحديث عن هذه القضايا، وأن عصر الشافعي (مثلًا) كان عصر قوة وانتصارات، أما هذا العصر فالمسلمون فيه مستضعَفون، كما ينبّه إلى الفرق بين الاستطاعة العسكرية في الماضي والاستطاعة في الحاضر، حيث أصبحت تقنية السلاح أهم من عدد الأفراد.
فقه النوازل
فلا يرتضي لنفسه أن يكتب عن قضية معاصرة ويحصر نفسه في رؤية الأقدمين، لأن ظروف المشكلة وخيارات الحل قد تختلف، فيقول في كتاب “فقه الدولة”: “ما زال لهؤلاء الجامدين من أهل الفقه أخلاف في عصرنا، يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري، ولكنهم يفكرون بعقول علماء ماتوا من قرون”، ويقدّم إجابات للتساؤلات السياسية حول العلاقة بين السلطة الحاكمة والمعارضة والجماعات المسلحة.
النظرة الشمولية
وهذا ما لا يخلو منه كتاب من كتبه، ففي أي كتاب فقهي له لا يناقش الحكم الشرعي للفعل فقط، بل يعطي تصورًا شموليًّا متكاملًا عن المسألة وموقعها من الشريعة، وعن الواقع وأبعاده، فيبدأ قبل إيراد الأدلة الشرعية للأحكام المتعلقة بالدولة، بحديثه عن الدليل من تاريخ الإسلام، والدليل من طبيعة الإسلام.
وفي كتابه “الإسلام والفن” لا يكتفي بمناقشة حكم الغناء أو الموسيقى، بل يلقي نظرة عامة على الفن ووظيفته الاجتماعية، ومكانته في الإسلام، وأنواعه وحكمها، وكيفية الاستفادة منها، فتجمع كتبه بالإضافة إلى المناقشة الفقهية جوانب فلسفية واجتماعية وثقافية.
تأكيده على تفرُّد نموذج الإسلام
والانطلاق في اجتهاداته من فهم روح الإسلام، بعيدًا عن ضغط الواقع الثقافي والعولمة الذي قد يدفع بعض الفقهاء لاختيارات فقهية غير موفّقة، أو تأويلات غير مقبولة، فيقول في كتابه “مشكلة الفقر”: “فلنَدَعْ للإسلام أصالته وشموله وعمقه واتزانه، وسبقه وتفوقه، وليكن أكرمَ علينا من أن نخلطه بفلسفة أو بفكرة أخرى”، ويتجلّى ذلك في دفاعه عن حقوق المرأة وتحريرها من التقاليد التي تعيق حريتها، بما لا يخرجها عن أحكام الشريعة وتصوراتها عن المجتمع.
العودة إلى المصادر الأصلية لأنها تمثّل النبع الصافي
ليس لأن الفقهاء الأجلاء انحرفوا عنها، بل لأن النبع الصافي هو الذي يناسب كل زمان ومكان، أما اجتهادات الأئمة فهي مرتبطة بزمانهم ومكانهم.
جعل القرآن المصدر الأول لتكوين التصورات الكلّية
في حين يصرُّ فريق من الناس على التمسك بجزئيات السنّة دون ردّها إلى القرآن، فالقرآن أكثر عمومًا وشمولًا، وهو يكوّن النظرة العامة عن الكون والحياة ووظيفة الإنسان، وترتيب المجتمع المسلم وعلاقته بالآخرين، والسنّة تبيّن ذلك وتفصل في بعضه وتوضّح بعضه، وفي بعضها تكون السنّة متعلقة بظرف معيّن أو واقعة، فلا يصح أخذ التصورات الكلية من السنّة ثم العودة لتأويل آيات القرآن بما يناسب ذلك، أو ادّعاء نسخها.
وخلال ذلك يقف موقفًا صلبًا من قضية النسخ، فبدل أن يكون القرآن بسُوَره والترتيب المحكم المعجز لآياته مصدر التصورات الكلية، صارت عند بعضهم النظريات الفقهية التي وضعها الفقهاء هي مصدر ذلك، ثم يرجعون إلى إعمال النسخ في آيات القرآن، وسبب ذلك أنهم لم يفهموا تخريج تلك النظريات على آيات القرآن، وأنه قد تستخرَج نظريات من القرآن تختلف باختلاف الزمان، فاعتقدوا ثبات تلك النظريات، واجتهدوا في تأويل ما ورد في القرآن.
الاهتمام بالتراث الفقهي كله
والإشادة بالمدارس الفقهية الأصيلة على اختلاف توجهاتها، فهي ثروة فقهية مهمة تعطي ثراء مهمًّا للفقه الإسلامي، صحيح أنه أكثر ميلًا إلى المدرسة السلفية إلا أنه يولي عناية كبيرة بكتب الفقه المذهبي، ويحاول استقصاء ما قيل في كتب الفقه حول القضية التي يبحث فيها، حتى في الكتب المتأخرة، ويقول إنه يوجد فيها من الفوائد المنثورة بين صحائفها أشياء مهمة، كصنيعه في “فقه الجهاد” وتوضيحه لمفهوم فرضية جهاد الطلب كل سنة مرة.
عدم الاستسلام لدعاوى الإجماع
والتفريق بين الإجماع القطعي الذي استقرَّ عليه المسلمون والذي تعدّ مخالفته انحرافًا، وبين الفقه السائد في مراحل تاريخية معيّنة.
الاجتهاد الجماعي
فيحرص على تدارس وتداول الأفكار والاجتهادات الجديدة قدر المستطاع، في إدراك منه لأهمية العمل الجماعي وأولوية الأخذ بالفتاوى التي تصدر عن المجامع على الفتاوى الفردية، ويشيد بالأعمال العلمية التي تتضافر فيها الجهود الجماعية، فيشيد بـ”مسند الإمام أحمد” في طبعة الرسالة الذي اشتغل على تحقيقه فريق علمي بإشراف الشيخ الأرناؤوط، ويقدم أحكامها الحديثية على غيرها.
التيسير في الأسلوب وفي المضمون
أما في الأسلوب فيعمد إلى المواضيع المعقدة المكتوبة بلغة صعبة فيكتبها بلغة سهلة، وأما في المضمون فيرى أن التيسير هو المنهج الأقرب لروح الإسلام، ويكرر مؤكدًا أن هناك مذهبَين، مذهب التيسير وسلفه ابن عباس، ومنهج الأخذ بالأحوط وسلفه ابن عمر، وهو يميل إلى التيسير ما لم يصح دليل نقلي أو اجتهادي على التحريم.
الاهتمام بالمقاصد
كان ابن عاشور أول من فتح باب التأليف في المقاصد في العصر الحديث، ولكن الاستجابة التطبيقية لذلك لم تظهر عند عالم كما ظهرت عند الشيخ القرضاوي، الذي ردَّ كل الأدلة الجزئية ليفهمها في ضوء المقاصد الكلية أو الخاصة، ولم يتكلم في باب فقهي إلا ووضّح المقاصد الخاصة في ذلك الباب، فتجد المقاصد الخاصة بنظام الأسرة والمقاصد الخاصة بالنظام الاقتصادي والمقاصد الخاصة بالفقه السياسي… والأمثلة على ذلك أوضح وأكثر من أن تذكر.
التجديد في لبّ علم الفقه
ودعنا نفصّل هنا، لأن عملية أخذ الحكم من النصوص ثم إسقاطها على الواقع تتمّ على مراحل:
أولها فهم النص، فهل يترتّب الوجوب على كل فعل (أمر)، أم تُرد النصوص إلى سياقها، لتُفهم في ضوء المقاصد، فيتغير الحكم المترتب على (الأمر) بحسب العلل والمقاصد؟
ثانيها تصور المسألة، فلا بدَّ من تصور المسألة تصورًا عامًّا، لأن ذلك يساعد على تعميم ذلك (الأمر) أو حصره.
وثالثها تطبيق الحكم على الوقائع، لأن الوقائع نفسها قد يختلف توصيفها بين زمان وآخر.
ورابعها صياغة نظريات جديدة لمعطيات الواقع الجديدة، خصوصًا في السياسة والاقتصاد، وقد شملت إسهاماته تلك المراحل كافة.
ذلك الاتّساع في النشاط يحتاج إلى رسوخ في العلم وجرأة في الطرح وصبر على المنتقدين، وكان كذلك رحمه الله. لقد حاول تقديم الإسلام كله، للمسلم ولغير المسلم، في ثوب جديد، وفي تلك المسيرة هناك كثير من الانتقادات، التي تحتاج تفصيلًا فيها لا يتسع له المقام.
كانت هذه لمحة سريعة عن عمر رجل عاش 100 سنة، كانت لأمّته، قد يقف المرء عند كتاب من كتبه فيخالفه وينتقده، لكن مكانته تظهر بالنظر إلى مجموع أعماله وجهوده.