مضت أكثر من 10 أيام على اشتداد وتيرة أزمة المحروقات التي تعصف بمناطق سيطرة حكومة نظام الأسد، حيث ظهرت ملامحها على قطاع المواصلات العامة في الدرجة الأولى، وأدّت لاحقًا إلى شلل متتالٍ في القطاعات الخدمية والصحية والتعليمية والإدارية.
في حين اكتفت حكومة النظام في اتخاذ مبدأ التقنين دون استثناء أي من القطاعات، إذ كثّفت من قراراتها في تخفيض مخصصات المؤسسات العامة من المحروقات، ما تسبّب في انخفاض المستوى الخدماتي في مناطق سيطرتها بشكل تدريجي، عقب انقطاع المحروقات وندرة وجودها في الأسواق، وصعوبة استيرادها من مناطق قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق سوريا، والقادمة من إيران عبر مياه المتوسط.
وأبلغت الحكومة الجهات العامة بتخفيض الكمّيات المخصصة من مادتَي البنزين والمازوت للسيارات الحكومية بنسبة 40%، كما خفضت وزارة النفط مخصصات المحروقات من مادتَي المازوت والبنزين الموزّعة على المحافظات السورية بنسبة وصلت إلى 50%، في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ما تسبّب في تخفيض الخدمات البلدية والأمنية والطبية المتردية أساسًا.
إيقاف الخدمات الأساسية
انخفضت ساعات وصل الكهرباء إلى ساعتين يوميًّا في مختلف أحياء المدن والمحافظات السورية، فيما انقطعت لأيام في مناطق أخرى، بهدف تخفيف الضغط على شبكات الكهرباء وتغطية جميع المحافظات، تزامنًا مع بدء أزمة المحروقات، بينما يعتمد جزء كبير من السكان على كهرباء الأمبيرات.
قالت مصادر محلية من مدينة حلب لـ”نون بوست”: “إن الكهرباء الحكومية متوقفة، ويعتمد الأهالي على كهرباء “الأمبيرات” التي تعمل على مولدات المازوت المملوكة للقطاع الخاص، ومهددة بالتوقف، وتضاعف سعر الأمبير بشكل جنوني بعد فقدان المازوت وارتفاع أسعاره في السوق السوداء، فيما خفضت العديد من المولدات ساعات التشغيل لـ 3 ساعات يوميًّا بعدما كانت تصل إلى 8 ساعات”.
الحكومة تستعد لرفع تسعيرة ربطة الخبز المدعوم عبر الأفران والمعتمَدين بسعر بين 1500 و2000 ليرة سورية في الفترة المقبلة نتيجة أزمة الوقود التي تشهدها البلاد.
وأضافت: “إن شركات المياه العامة التي تعمل على المازوت والكهرباء خفضت ساعات التشغيل، وباتت تصل الأحياء لمرة واحدة أسبوعيًّا ضمن ساعات محددة، نتيجة انقطاع التيار الكهربائي وانخفاض مخصصات مؤسسة المياه”.
كما امتدت تداعيات فقدان الوقود إلى الوجبة الرئيسية لدى السوريين، ما دفع عدد من الأفران الخاصة العاملة في محافظة حلب والعاصمة دمشق التوقف عن العمل، ففي دمشق توقفت أفران عن العمل، من بينها مخبز تشيلو في منطقة الحجاز ومخبز البيت الشامي في منطقة الفحامة ومخبز الشعلان ومخبز بيت الخبز في ضاحية قدسيا وأفران شمسين على أوتوستراد صحنايا.
وارتفعت أسعار الخبز السياحي في العاصمة دمشق وريفها صباح 12 ديسمبر/ كانون الأول بنسبة 42%، حيث وصل سعر ربطة الخبز السياحي الكبيرة الـ 5 آلاف ليرة سورية، وخبز النخالة الكبيرة 4 آلاف و500 ليرة سورية، بينما بلغ سعر كيلوغرام الكعك 10 آلاف ليرة، والصمون 7500 ليرة سورية.
ويتخوف الأهالي من امتداد الأزمة إلى الأفران العامة التي تقدّم الخبز المدعوم وتبلغ فيه سعر الربطة 200 ليرة سورية، فيما كشف مصدر لـ”صوت العاصمة” عن دراسة تجريها الحكومة لرفع تسعيرة ربطة الخبز المدعوم عبر الأفران والمعتمَدين بسعر بين 1500 و2000 ليرة سورية في الفترة المقبلة، نتيجة أزمة الوقود التي تشهدها البلاد.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كشف مدير المواد والأمن الغذائي في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، إسماعيل الملا، عن وجود دراسة لزيادة سعر ربطة الخبز بهدف منح الأفران هامش ملائم للربح، كون السعر الحالي لربطة الخبز خاسر ولا يلبي تكاليف الإنتاج، حسب صحيفة “البعث”.
وفي أغسطس/ آب، أقرّت حكومة النظام بوجود عجز نسبته أكثر من 75% في كمية القمح التي تحتاج إليها مناطق سيطرتها خلال العام المقبل، فيما ضاعفت الحكومة تسعيرة الخبز نتيجة ارتفاع أسعار المازوت خلال العام 2021، حيث حددت تسعيرة ربطة الخبز المعبّأة بكيس نايلون بـ 200 ليرة سورية بدلًا من 100 ليرة، مع تسعيرة جديدة للمازوت وصل فيها سعر اللتر للأفران الخاصة والعامة 500 ليرة، عوضًا عن 185 ليرة آنذاك.
كما لم تستثنِ تداعيات أزمة المحروقات القطاعَين الصحي والتعليمي، حيث أقرّت حكومة الأسد إعلان عطلة رسمية يومَي الأحد 11 و18 من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، في مختلف المؤسسات التعليمية في البلاد، لتنخفض أيام الدوام إلى 4 أسبوعيًّا، لصعوبة وصول الموظفين والمدرّسين إلى المراكز التعليمية.
كما شملت القطاع الصحي، حيث خفضت الحكومة مخصصات المشافي والمراكز الصحية من المحروقات إلى 40% ما هدد بتوقُّف عمل سيارات الإسعاف، التي يقتصر عملها وفق التقنين الحالي على الحالات الحرجة كالحوادث الطارئة والأزمات القلبية، فيما أعلن رئيس المكتب التنفيذي للاتحاد الرياضي العام التابع للنظام، فراس معلا، إيقاف النشاطات الرياضية في سوريا حتى نهاية العام الجاري بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
تسبّبت الضربات التركية على محطات تكرير النفط شرق الفرات في إيقاف توريد المحروقات إلى النظام، بالإضافة إلى عدم القدرة على دفع ثمن شحنات النفط نتيجة العجز الحاد في توفير القطع الأجنبي.
ويأتي كل ذلك في ظل أزمة مواصلات خانقة تعاني منها مناطق النظام بسبب فقدان المحروقات، وارتفاع تكاليف المواصلات العامة داخل وخارج المحافظات السورية، ما ساهم في غياب الخدمات العامة التي تقدّمها المؤسسات الحكومية.
وارتفعت تكاليف النقل التجاري بين المحافظات السورية، نتيجة شراء السائقين للمحروقات من السوق السوداء بسعر 7 آلاف ليرة للتر الواحد، ما تسبّب في رفع الأجور إلى 70% حيث تبلغ تكلفة نقل الشاحنة من مرفأ اللاذقية إلى دمشق بالنقل الطرقي نحو مليوني ليرة سورية، بحسب رئيس اتحاد شركات شحن البضائع، صالح كيشور، خلال حديثه لموقع “أثر برس” الموالي.
بدوره، قال رئيس اتحاد غرف التجارة السورية، أبو الهدى اللحام: “إن المنتج السوري الذي يتغنى به كثيرون غير قادر على المنافسة عالميًّا في وضعه الحالي”، لعدة أسباب أبرزها نقص الطاقة والمحروقات، إضافة إلى ضعف دخل المواطن، وضعف أجور العمّال التي باتت لا تتناسب مع أعمالهم.
وفي 12 ديسمبر/ كانون الأول، أعلنت وزارة الكهرباء تطبيق برنامج تقنين على المدن والمناطق الصناعية في المحافظات التي كانت معفاة من التقنين، وسيمتدّ البرنامج أسبوعيًّا من الثالثة عصر الخميس حتى الثامنة صباح الأحد، بسبب الارتفاع الكبير في الأحمال الكهربائية نتيجة انخفاض درجات الحرارة.
ويرى الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن الأزمة الحادة في قطاع المحروقات تسبّبت في توقف شبه تامّ لمختلف الأنشطة الخدمية الحكومية والخاصة، وتعطُّل النقل والإنتاج، حيث باتت تكلفة الإنتاج عاجزة عن التوازن مع مستوى الدخل، بعدما باتت المحروقات في السوق السوداء ذات أسعار مبالغ بها، لا سيما أن أزمة المحروقات تزامنت مع أزمة حادة في قطاع الكهرباء.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن حوامل الطاقة عصب أي اقتصاد إنتاجي أو خدمي، وأي هزة بسيطة في سوق الطاقة تترك أثرها المباشر والحاد على مختلف المؤشرات الاقتصادية، ويزداد أثرها مع الانقطاع شبه التامّ لمختلف حوامل الطاقة كما في مناطق سيطرة النظام، فهو يعني توقف الإنتاج، وتعطُّل سلاسل التوريد المحلية، لأن الاقتصاد السوري دون حوامل طاقة مشلول، ويمكن وصفه بالميت سريريًّا”.
وأوضح أن هناك 3 أسباب رئيسية لعجز حكومة النظام عن توفير الوقود، الأول تسبُّب الضربات التركية على محطات تكرير النفط شرق الفرات في إيقاف توريد المحروقات إلى النظام، والثاني عدم القدرة على دفع ثمن شحنات النفط نتيجة العجز الحاد في توفير القطع الأجنبي، والأخير يتمثل بعدم سعي الحلفاء لتزويد النظام بالنفط، أو التباطؤ في ذلك، ويبدو أن سبب هذا التباطؤ يعود إلى خلافات سياسية، فالنظام ووفقًا لبعض التسريبات غير منفتح على جهود روسية لإيجاد حلّ للقضية السورية، وتحديدًا قضية العملية العسكرية التركية المتوقعة في الشمال السوري.
آثار تداعيات أزمة المحروقات وشلل الخدمات على السكان
انعكست تداعيات أزمة الوقود في مناطق النظام على السوريين المقيمين في مناطق سيطرته، تزامنًا مع ارتفاع مستوى التضخم في البلاد، وانهيار الليرة أمام الدولار الذي اجتاز الـ 6 آلاف ليرة، وعدم استقرار الظروف المعيشية، وارتفاع نسبة البطالة وانخفاض مستوى الدخل لدى الأفراد.
وتحدث الباحث عن جملة من الآثار التي ستواجه الأهالي، ومنها “فقدان الآلاف من الأفراد لأعمالهم التي تعتمد على المحروقات، فضلًا عن تضرُّر آخرين غيرهم، نتيجة عدم قدرتهم على الالتحاق بأعمالهم نتيجة استمرار أزمة المواصلات، إضافةً إلى توقف القطاعات الإنتاجية وخسارة آلاف العمّال لأعمالهم، كما أنها أثّرت على مستوى الدخل، فارتفاع كلف الإنتاج يعني تقليل الأجور والرواتب لدى القطاع الخاص، وبالتالي تراجع الدخل وسط استمرار تدهور الليرة”.
الأزمة المتصاعدة في مناطق النظام باتت تلامس أعناق السوريين المقيمين هناك، في ظل تهاوي الطبقة المتوسطة وغلبة الطبقة الغنية وسيطرتها على مختلف موارد الدولة.
وأشار إلى أن عجز النظام عن دفع أجور ورواتب العاملين غير دقيق، لأن أزمة النظام ليست متعلقة بالليرة السورية بقدر ما هي متعلقة بالدولار، فهي قادرة على الاستمرار في تقديم الرواتب والأجور، لكنها غير قادرة على الحفاظ على قيمة الليرة، فالقيمة الحقيقية للدخل تتراجع، وهذا يعني ارتفاع معدل الفقر وزيادة مخاطر المجاعة.
ويعني استمرار أزمة المحروقات حرمان الطلاب من حق الحصول على التعليم الحكومي، فيما ترسل الطبقة الثرية أبناءها إلى المدارس الخاصة، إضافة إلى حرمان الأهالي والمرضى من حق الحصول على الطبابة نتيجة تخفيض مخصّصات القطاع الصحي من المحروقات وانقطاع الكهرباء، ما سيساهم في تردّي الخدمات الطبية تزامنًا مع أزمة المواصلات التي تشهدها البلاد، كما تساهم في ارتفاع وتيرة الانتهاكات من قبل الميليشيات ضد الأهالي.
هل نشهد موجة هجرة من مناطق النظام؟
تدفق مئات من العائلات المقيمة في مناطق سيطرة النظام خلال الأيام الماضية إلى مناطق شمال غربي سوريا، ومناطق شمال وشرق سوريا، نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية في مناطق النظام في ظل أزمة المحروقات وارتفاع الأسعار الجنوني، وتعطُّل المؤسسات الخدمية، حيث شكّل الشلل الخدماتي ضغطًا مكثفًا على الأهالي، الذين باتوا يبحثون عن مكان يهاجرون إليه في ظل اشتداد وتيرة أزمة المحروقات وتداعياتها على مختلف القطاعات الخدمية والصحية والتعليمية والاقتصادية.
وقال الكاتب والمدون معتز ناصر، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن أكثر من 200 عائلة و200 شاب دخلوا مناطق أعزاز والباب وعفرين وإدلب الخاضعة لسيطرة المعارضة خلال الأسبوع الماضي، عبر معابر التهريب على خطوط التماسّ مقابل مبالغ مالية، قادمين من مناطق النظام بحثًا عن ظروف معيشية أفضل في ظل التدهور الاقتصادي المتواصل”.
وأضاف: “إن كل الظروف التي يعيشها السوريون في مناطق النظام تدفعهم إلى الهجرة، والهرب بما بقيَ لديهم من كرامتهم في ظل أزمة مركّبة، حيث يبحث الأهالي عن أي مكان يستطيعون أن يفرّوا إليه، فهم يبحثون عن طريق إلى تركيا وأوروبا، وبعضهم يرغب بالاستقرار في المنطقة”.
من جهته، قال الصحفي زين العابدين العكيدي، المقيم في دير الزور، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “شهد الثلث الأول من الشهر الجاري حركة عبور غير مسبوقة لمئات العائلات والأفراد من محافظات سورية مختلفة، يعبرون إلى مناطق “قسد” في دير الزور، ويرغبون في العبور إلى مناطق نبع السلام التي تسيطر عليها فصائل الوطني ومنها إلى تركيا”.
وأضاف: “إن الأزمة المتصاعدة في مناطق النظام باتت تلامس أعناق السوريين المقيمين هناك، في ظل تهاوي الطبقة المتوسطة وغلبة الطبقة الغنية وسيطرتها على مختلف موارد الدولة، وسط انتشار تسلُّط الميليشيات، وعجز الحكومة عن إيجاد حلول، ما يدفع السكان إلى الهجرة بشتى الوسائل الممكنة”.
نهايةً، يبقى السوريون في مناطق سيطرة حكومة الأسد الحلقة الأكثر ضعفًا لأنهم يواجهون تحديات ومشاقَّ متراكمة في سبيل الحصول على أدنى مقومات الحياة، إذ لا تقتصر على أزمة المحروقات فقط، وإنما تشمل كافة النواحي، لأنه في حال توافرت المحروقات والسلع والمواد الأساسية، فدخل الأسرة شهريًّا لا يتجاوز 200 ألف ليرة سورية، وهو لا يغطي جزءًا من الاحتياجات الأساسية، ما سيدفعهم إلى الهجرة مجددًا.