قرطبة ليست من الماضي، إنها الشاهد الخالد على تاريخ الأمويين في الأندلس بما يحمله من صعود وسقوط، ولم تكن عاصمة المسلمين السابقة زاهية بمنشآتها العمرانية البديعة فقط، بل كانت كذلك منارة علمية لامعة، مكتباتها مليئة بآلاف المخطوطات النفيسة الأصلية والمترجمة، وكانت أروقة قصورها ومساجدها تعجُّ بنخبة من الفلاسفة والعلماء والأدباء والمثقفين.
ولا تزال أرض الأندلس حية في ذاكرة المسلمين وخالدة في قلوبهم، فالميراث الذي استولى عليه الإسبان بعدما استيقظت روحهم القومية وتجيّشوا لإنهاء الفتح الإسلامي الذي دام لنحو 8 قرون، لا يمكن بأي حال من الأحول إلا أن يكون شاهدًا على حضارة عظيمة، فذاكرة الأندلس لا تختزَل فحسب في منارة الخيرالدا وقصر إشبيلية وحمراء غرناطة وجامع قرطبة، بل هي فردوس الأرض المفقود، ولا بدَّ أن تعود.
في منتصف القرن الثامن الميلادي، أسّس عبد الرحمن بن معاوية (الملقب بصقر قريش عبد الرحمن الداخل) الدولة الأموية في الأندلس، متخذًا من قرطبة عاصمة لها، وقد استمرَّ الأمويون رسميًّا في الأندلس حتى عام 1031، فقد بدأت رحلة السقوط إثر الحرب التي اندلعت لسنوات بين الأمراء الأمويين الذين اقتتلوا على الخلافة فيما بينهم، ونتيجة لذلك تفكّكت الدولة إلى عدد من المماليك المستقلة.
على سفح جبل العروس تقع مدينة قرطبة، وهذا الجبل هو جزء من سلسلة جبال سيرامورنيا أو الجبال السوداء، وبين هذه الجبال والوادي الكبير تحتل المدينة سهلًا فسيحًا، حيث تزرع أشجار الزيتون ومختلف أنواع الثمار والأشجار، وكان وادي قرطبة، وفقًا لما جاء في كتاب “المسهب” للحجاري، “مكتنفًا بديباج المروج مطرزًا بالأزهار، تصدح في جنباته الأطيار، وتنعر النواعير ويبسم النوّار، وقرطاها الزاهرة والزهراء، حاضرتا الملك وأفقا النعماء والسرّاء”.
خلال حوالي 3 قرون من حكمهم، اهتمَّ الأمويون بالعمارة في الأندلس، فشيّدوا المساجد والقصور، والحمّامات والقباب، والقناطر المائية التي زيّنوها بالزخارف والنقوش البديعة، وفي هذا التقرير ضمن ملف “مدن مستترة” نذهب في جولة إلى داخل عاصمة بني أمية في الأندلس، ونستعرض أبرز المعالم الأموية.
الجامع الكبير.. درّة العمارة الدينية
حاليًّا تُعرَف هذه البقعة الدينية رسميًّا باسمها الكنسي كاتدرائية سيدة الانتقال، بعد أن حوّلها الإسبان إلى كاتدرائية مسيحية، أما قديمًا فكانت تسمّى بجامع الحضرة أي جامع الخليفة، ولقد تمَّ بناؤه بين عامَي 786 و988.
يشهد جامع قرطبة على عظمة الفن الإسلامي في الأندلس، حتى أنه تصدّر قائمة كنوز إسبانيا الـ 12 عام 2007، أما سبب اقتران المسجد بالكاتدرائية هو أن المسلمين حين فتحوا قرطبة أقاموا صلواتهم بجوار الكنيسة، وفيما بعد بنوا مسجدًا في ذلك المكان، وبعدما ضاق عليهم المسجد مع زيادة عدد المسلمين، اشترى صقر قريش من النصارى شطر الكنيسة مقابل 100 ألف دينار، وكانت مساحته آنذاك 4 آلاف و875 مترًا مربعًا، فأسّس عليه الجامع وبنى أسواره خلال عام واحد.
أهم ما يميز هذا الجامع ويجعله فريدًا في تاريخ الفن المعماري، أن كل الإضافات والتعديلات وأعمال الزينة كانت تسير في اتجاه واحد وعلى وتيرة واحدة، بحيث يتّسق مع شكله الأساسي.
كما يتميز الجامع بأعمدته الرخامية التي أُقيمت فوقها أقواس تحمل الجدران التي تتكئ عليها الأسقف، وتزيد في الوقت نفسه من ارتفاع السقف، وجميع أعمدة المسجد قوطية أو رومانية، استغلها بناة المسجد من الكنائس الخربة، وأعادوا استخدامها في المسجد الجامع.
في عام 1236، استولت مملكة قشتالة على قرطبة، وهكذا أوعز الملك القشتالي فرناندو الثالث إل سانتو بتخصيص الجامع في السنة نفسها لممارسة الطقوس النصرانية، فأُدخلت عليه عدة تعديلات وتغييرات، وابتداء من القرن السادس عشر بوشر في بناء كاتدرائية داخل المسجد.
الزهراء.. مدينة الخلافة المفقودة
كانت مدينة ذات قصور حصينة في الضواحي الغربية لقرطبة على بُعد 5 كيلومترات، حيث قرر عبد الرحمن الناصر لدين الله (المعروف في الروايات الغربية بعبد الرحمن الثالث) بناء المدينة بين عامَي 935 و940، واتخذ منها مركزًا للحكم وعاصمة خلافة قرطبة، إذ كان الدافع سياسيًّا، فالرجل الذي أعلن نفسه خليفة عام 929، شاء أن يؤسّس مدينة جديدة تليق بهذا اللقب العظيم، ساعيًا لإثبات تفوقه على الخلفاء الفاطميين في أفريقيا والخلفاء العباسيين في بغداد.
قبل تشييد مدينة الزهراء، كان مقرّ إقامة الأمويين ومركز حكمهم هو قصر قرطبة، الذي يقع على الجانب الآخر من مسجد قرطبة الكبير، كما يجادل العديد من المؤرّخين بأن الدافع وراء بناء مدينة ذات قصور كان هو الرغبة في إنشاء مركز حكم العظمة، الذي أراد عبد الرحمن الثالث إبرازه حول خلافته الجديدة، وقد كان لتشييد مثل هذه المدن ذات القصور سوابق، لأن الخلفاء العباسيين والخلفاء الفاطميين قد بنوا مثل هذه المدن لأنفسهم في السابق.
يقول باحث علم الآثار، أنطونيو فاليغو تريانو: “من هذا المنظور، فإن التمثيل المعماري لانتصار الدولة التي يرأسها أمير سيكون إنشاء مدينة جديدة، مدينة الزهراء، التي ستكون ثرواتها مرتبطة بثروات السلالة”، وأكّد الباحث الإسباني المختصّ في العمارة الإسلامية المبكرة، أن مدينة عبد الرحمن كانت تقع على بُعد 5 كيلومترات شرق قرطبة، على خط مستقيم بجدرانها الغربية، في مكان حيث منحدرات مشروع سييرا مورينا إلى الريف، ما يوفر ميزة طبيعية هائلة بين الوديان.
وأشار الباحث إلى أن الإسلام الذي يربط السيادة ببناء المراكز الحضرية الكبرى كان متحالفًا، بطريقة لم يتم تحليلها بعد بشكل كافٍ، مع بناء مدن تليق بمكانة الخليفة، كما كتب فاليغو تريانو حول تصميم المدينة أن “التصوير الجوّي يكشف عن غلاف مثالي محاط بجدار مزدوج من الشرق والجنوب والغرب ومحصّن بأبراج مربّعة، أوسع في الزوايا، باستثناء جزء من الشمال، يحدّه جدار واحد محفور جزئيًّا، وهناك أيضًا أنقاض خارج هذا الجدار قد تتوافق مع منطقة دفاعية صغيرة”.
ورد في وصف ابن خلكان لمدينة الزهراء: “هي من عجائب أبنية الدنيا.. وطول الزهراء من الشرق إلى الغرب 2700 ذراع، وعرضها من القبلة إلى الجنوب 1500 ذراع، وعدد السواري التي فيها 4 آلاف و300 سارية، وعدد أبوابها يزيد على 15 ألف باب”.
ويروي ابن خلكان، بحسب ما أورده عنه المقري في “نفح الطيب”، أن أمير المؤمنين الناصر كان يقسم جباية البلاد إلى ثلاث: ثلث للجند، وثلث مُدخّر وثلث ينفقه على عمارة الزهراء، وكانت جباية الأندلس 5.4 ملايين دينار.
الزهراء مدينة مفقودة، ولم تكتشَف سوى عام 1911، حيث كشفت الحفريات عن حوالي 10 هكتارات فقط من 112 هكتارًا من المدينة، وقد تمَّ ترميم ما ظهر منها حتى الآن ترميمًا جزئيًّا.
في عام 2009 افتُتح متحف أثري مخصّص، يقع على حافة الموقع، أدرجته اليونيسكو ضمن مواقع التراث العالمي مع كتابة اسم “مدينة الخلافة في مدينة الزهراء”.
قنطرة قرطبة.. سيدة قناطر الأندلس
هذه القنطرة كانت في واقع الأمر أول قنطرة حجرية يقيمها المسلمون على نهر في تاريخ الحضارة الإسلامية كله، وكانت فخرًا في عظيم بنائها، ويضرَب بها المثل في الدقة والإحكام والمتانة، وهي سيدة قناطر الأندلس كلها، وهي الجسر الأكبر الذي يعتبر أتمّ وأعظم جسر بُني في معمور الأرض من الحجارة، والذي لا يعرَف في الدنيا مثله.
يبلغ طول القنطرة المشيّدة على نهر الوادي الكبير 400 متر تقريبًا، وعرضها 40 مترًا، وارتفاعها 30 مترًا، وقد عُرفت أيضًا باسم “قنطرة الدهر”، أما الآن فهي تسمّى بـ”بوينتي رومانو” أو الجسر الروماني، وكان بناؤها قد تمَّ في عهد السمح بن مالك الخولاني، خامس ولاة الأندلس من قبل الدولة الأموية، بأمر من عمر بن عبد العزيز، ثامن الخلفاء الأمويين في المدينة المنورة، وكان ذلك في عشرينيات القرن الثامن الميلادي، وشيّدها بنو أمية بعد ذلك وحسّنوها.
قيل إن القنطرة من بنيان الأعاجم قبل دخول العرب بنحو قرنَين، إلا أن أعمدتها سقطت بفعل الزمان ومُحيت أعاليها فلم يتبقَّ منها سوى أساسها.
في “خريدة العجائب وفريدة الغرائب”، يصفها ابن الوردي قائلًا: “بمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسنًا وإتقانًا، وعدد قسيها 17 قوسًا، كل قوس منها 50 شبرًا وبين كل قوسَين 50 شبرًا، ومحاسن هذه المدينة أعظم من أن يحيط بها وصف”.
جدّد المنصور بن أبي عامر، مستشار الخلافة الأموية في الأندلس، بناء قنطرة قرطبة وأعاد بناءها عام 939، واستغرق ذلك عامًا ونصف عام، وأنفق لذلك 140 ألف دينار.
وفي عام 2006 تمَّ ترميم قنطرة قرطبة، وقد تمَّ إقفال الجسر وإنهاء حركة المرور لمدة سنتَين لأعمال الصيانة، حتى تمَّ الانتهاء من الترميم في 9 يناير/ كانون الثاني 2008.
قصر قرطبة: مقرّ سلطة الأمويين.. ومحاكم التفتيش
بعدما فرَّ عبد الرحمن الداخل إلى شبه الجزيرة الإيبيرية إثر سقوط الأمويين على يد الخلافة العباسية، أسّس هناك الإمارة الأموية المستقلة في قرطبة، واتخذ من هذا القصر القوطي مقرًّا لحكمه، وكانت مسؤولية المسلمين إعادة بناء هذا القصر وتوسعته ليشمل أجنحة كبيرة ذات ممرات وحدائق، كما ضمَّ مكتبة عظيمة في الغرب، واستخدموا طواحين مائية لرفع الماء من نهر الوادي الكبير وريّ الحدائق الشاسعة حوله.
في عام 1236 سقطت قرطبة المسلمة أثناء حروب المسلمين والصليبيين في الأندلس، وبعد ذلك بعامَين بدأ ملك قشتالة ألفونسو الحادي عشر ببناء الجزء الموجود على هيئته الحالية على جزء من الحصن القديم، كما اقتطع أجزاءً من هذا القصر الذي تركه المسلمون وتمَّ منحه للأساقفة والنبلاء، ومع ذلك لا يزال القصر يحفظ صبغته الإسلامية رغم محاولات التدجين التي حاول المسيحيون إضفاءها على القصر.
منذ عام 1482 وإلى غاية 3 قرون لاحقة، استخدم الإسبان القصر كواحد من مقرّات محاكم التفتيش، وحوّلوا معظمه إلى غرف للاستجواب والتعذيب، كما استخدموه مركزًا لحملاتهم على حكّام غرناطة، بني نصر، آخر مماليك المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية.