رسّخت الأزمةُ التي يعاني منها الاقتصاد العالمي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بداية من تفشي جائحة كورونا (كوفيد-19) وصولًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة حاليًّا، وما شهدته من موجات ركود غير مسبوقة، أهميةَ الذهب كملاذ آمن للاستثمار ووسيلة ناجعة للهروب من فخ سرطان التضخم الذي نخر في عظم كافة الاقتصادات الدولية، وزج بالملايين من سكان الكرة الأرضية إلى أتون الفقر والعوز.
وتحوّل المعدن الأصفر من مجرد معدن نفيس ذي قيمة مالية كبيرة إلى ملاذ لرؤوس الأموال وبورصة كبيرة للاستثمار في ظل التوقعات الإيجابية بتحقيقه المزيد من المكاسب المضمونة، يفوق في كثير من مساراته سوق الطاقة الذي كان حتى وقت قريب الساحة الأكثر أمانًا، هذا في الوقت الذي تعاني فيه معظم المجالات الاستثمارية الأخرى من هزّات وتقلبات.
وبينما يتوقع إطالة أمد الأزمة الاقتصادية واستمرار موجات الركود التضخمية في حالة السيولة السياسية والأمنية التي يعاني منها العالم، سيتحول الذهب إلى القبلة الاستثمارية الأكثر استهدافًا من رؤوس الأموال العالمية، كما ستتحول البقاع التي تمتلك احتياطيًّا كبيرًا من هذا المعدن إلى ساحة للتنافس بين الحكومات والشركات.
المعدن الأصفر
يرمز للذهب بالرمز Au وعدده الذرّي 79، وهو ضمن عناصر المجموعة الحادية عشرة في الجدول الدوري، ومن الفلزات ذات العدد الذرّي المرتفع، ويوجد في الطبيعة في شكل فلزي ذي لون أصفر مائل إلى الحمرة، وقابل للسحب والطرق وله كثافة مرتفعة، ويتم تصنيفه على أنه ضمن الفلزات النبيلة، حيث لا يتأثّر بأغلب الأحماض الشائعة، وهو مزيج من حمض النتريك وحمض الهيدروكلوريك.
يتواجد الذهب في القشرة الأرضية في عدة صور، فأحيانًا في شكل قطع أو حبيبات داخل الصور، وقد يوجد في الطمي في قاع الأنهار أو على شكل عروق في باطن الأرض، وفي بعض الأحيان يوجد على شكل محلول جامد مع معدن الفضة في سبيكة الإلكتروم، وقد يندمج مع فلزات أخرى كالنحاس والزئبق مكوّنًا سبائك طبيعية.
هناك العديد من النظريات التي تطرّقت إلى نشوء الذهب، بعضها يعزوه إلى عمليات التخليق النووي في المستعرات العظمى، وإن جاء نتيجة التصادم بين النجوم النيوترونية، إذ كان متواجدًا على هيئة غبار أثناء تشكُّل المجموعة الشمسية، وهو ما يدفع بعض الباحثين إلى الذهاب إلى أنه ربما كان موجودًا في نواة الأرض حين كانت الأرض منصهرة أثناء تكوُّن المجموعة الشمسية.
تشير التقديرات إلى وجود حوالي 2700 موقع جغرافي موثّق لخامات الذهب في العالم، فيما يبلغ متوسّط نسبة المعدن الأصفر في القشرة الأرضية حوالي 0.004 جزء في المليون (ppm)، أي حوالي 4 غرامات لكلّ ألف طنّ من الخامات الصخرية.
ويميل أنصار هذا الرأي إلى أنه قبل ملياري سنة اصطدم كويكيب بالأرض وتسبّب في حدوث فوهة فريديفورت، وهي المسؤولة عن إغناء حوض ويتووترسراند في جنوب أفريقيا بمكامن الذهب، ومن هنا بدأ غبار الذهب في الانتشار.
لكن هذا الرأي قوبل ببعض التشكيك، حيث ذهب رأي آخر إلى أن الصخور التي تحمل الذهب في الحوض الجنوب أفريقي، وهو مركز تموضع الذهب على الأرض، موجودة في فترة تعود ما بين 700 إلى 950 مليون سنة قبل وقوع حادثة الاصطدام، ما شجّع على ظهور نظريات أخرى مثل تلك التي تعزو أصل تشكُّل الذهب في طبقة وشاح الأرض، وأنه صعد إلى القشرة بفعل التحوّلات الجيولوجية، وقد استند أنصار هذا الرأي إلى الموجودات التي عُثر عليها في نجد ديسيادو في منطقة باتاغونيا في الأرجنتين.
وتشير التقديرات إلى وجود حوالي 2700 موقع جغرافي موثّق لخامات الذهب في العالم، فيما يبلغ متوسّط نسبة المعدن الأصفر في القشرة الأرضية حوالي 0.004 جزء في المليون (ppm)، أي حوالي 4 غرامات لكلّ ألف طنّ من الخامات الصخرية، غير أن تلك القيمة ليست ثابتة فهي تتغير من مكان لآخر حسب المنطقة.
أقدم الاكتشافات التعدينية
تتباين الآراء حول تاريخ اكتشاف الذهب، غير أن الراجح منها ما أشار إلى أن أقدم مرجع مكتوب يشير إلى مكامن هذا المعدن قد سُجّل عام 1900 قبل الميلاد، في عهد الأسرة المصرية الثانية عشر في مصر القديمة، أما أقدم خارطة معروفة للمناجم الذهبية فكانت في عهد الأسرة المصرية التاسعة عشرة (فترة 1320-1200 قبل الميلاد).
غير أن معرفة المصريين القدماء بالذهب تعود إلى ما قبل ذلك، وهو ما كشفته تلك المنحوتات المكتوبة باللغة الهيروغليفية القديمة التي تعود إلى عام 2600 قبل الميلاد، حيث دوّن الملك توشراتا (القرن الـ 15 قبل الميلاد) أن الذهب في مصر أكثر من الغبار، خاصة في منطقة النوبة جنوب مصر.
وكان يطلق على مصر القديمة اسم “نبو” أي “حورس الذهبي”، وهي أحد الأسماء التي كان يوصف بها فرعون مصر، كما عُثر على كميات كبيرة من الذهب أثناء التنقيب عن الآثار المصرية حيث كانت سمة رئيسية في تلك الفترة، وكثيرًا ما عُثر على تيجان وتوابيت بأكملها من الذهب، ما يؤكد انتشار هذا المعدن في تلك الحقبة التاريخية القديمة.
كما انتشر تعدين الذهب في روما القديمة، ويعدّ منجم لاس مدولاس في هسبانيا أشهر مناجم الذهب في عهد الإمبراطورية الرومانية، وفي العصور الوسطى كانت الإرهاصات الأولى لعلم التعدين، حيث كان أحد أهداف الخيمائيين (أحد فروع الفلسفة الطبيعية القديمة التي كانت تهتم بتنقية المواد الطبيعية) هو تحويل المعادن رخيصة الثمن إلى ذهب، ومع مرور الوقت وزيادة التجارب بدأ هذا العلم يتبلور بشكل محوري، ويعود الفضل فيه لاحقًا إلى جابر بن حيان من خلال اكتشافه تركيبة الماء الملكي الذي بمقدوره أن يحلّ الذهب.
وفي القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلادي كان شعب الأزتك (حضارة قديمة في الأمريكيتَين حاليًّا تسمّى المكسيك) يعتبرون أن الذهب منشأ إلهي، بل كانوا يسمّونه حرفيًّا “بزر الآلهة” في لغتهم (ناواتل)، وكان انتشار هذا المعدن في تلك المنطقة، والحديث عن وجود مدن بأكملها من الذهب، سببَين رئيسيَّين في دفع الأوروبيين إلى اكتشاف العالم الجديد.
خارطة الإنتاج
يبلغ إنتاج العالم من الذهب تقريبًا حوالي 3417 طنًّا متريًّا، تتصدره الصين بإنتاج بلغ 4500 طنًّا متريًّا تليها أستراليا بـ 270 طنًّا ثم روسيا بـ 250 طنًّا، فيما تأتي الولايات المتحدة في المركز الرابع بـ 209 أطنان، وكندا خامسًا بـ 170 طنًا، ثم بيرو بـ 150 طنًّا وجنوب أفريقيا بـ 140 طنًّا، فيما تأتي أندونسيا وأوزبكستان في المرتبة الثامنة والتاسعة بإنتاج بلغ 100 طنّ متري لكل منهما.
أما الاحتياطي العالمي من الذهب، فهناك قرابة 20 مكنزًا لهذا المعدن النفيس في العالم بحسب مجلس الذهب العالمي، تتصدرها الولايات المتحدة بـ 8133.5 طنًّا، تليها ألمانيا بـ 3355.1 طنًّا، ثم إيطاليا بـ 2451.8 طنًّا، ثم فرنسا بـ 2436.6 طنًّا، ثم روسيا بـ 2298.5 طنًّا، ثم الصين بـ 1948.3 طنًّا، وتليها سويسرا بـ 1040.0 طنًّا، ثم اليابان بـ 846.0 طنًّا، إلى جانب الهند بـ 768.8 طنًّا، وهولندا بـ 612.5 طنًّا، وتركيا بـ 457.7 طنًّا، وتايوان بـ 423.6 طنًّا، وكازاخستان بـ 383.9 طنًّا، والبرتغال بـ 382.6 طنًّا، وأوزبكستان بـ 363.9 طنًّا، والسعودية بـ 323.1 طنًّا، والمملكة المتحدة بـ 310.3 أطنان، ولبنان بـ 286.8 طنًّا، وإسبانيا بـ 281.6 طنًّا، وأخيرًا النمسا بـ 280.0 طنًّا.
يدخل 90% من استهلاك الذهب في العالم في صناعة الحلي والمشغولات الذهبية المستخدمة، أما العشرة المتبقية فتدخل في مجالات أخرى أبرزها الصناعات الإلكترونية والطبية.
كما يمتلك صندوق النقد الدولي حجمَ احتياطي يبلغ 2814.0 طنًّا متريًّا من الذهب، أي أنه يمكن اعتباره في المرتبة الثالثة إذ ما تمَّ النظر إليه على أنه دولة، فيما يمتلك البنك المركزي الأوروبي 504.8 أطنان ليحتل المرتبة 12 بين الدول، فيما تنتشر العديد من المناجم الأخرى فضلًا عن الاكتشافات التي لم تسجّل بعد والتي عليها الكثير من الصراعات.
ويدخل 90% من استهلاك الذهب في العالم في صناعة الحلي والمشغولات الذهبية المستخدمة، أما العشرة المتبقية فتدخل في مجالات أخرى أبرزها الصناعات الإلكترونية، حيث يمتاز الذهب بموصليته الجيدة ومقاومته للأكسدة وللتآكل، ما جعله عنصرًا أساسيًّا في إنتاج الوصلات الكهربائية غير القابلة للتآكل في الحواسيب والأجهزة الإلكترونية الأخرى.
وتحوي التقنيات الإلكترونية في اليابان حوالي 16% من الذهب و22% من الفضة نسبةً إلى الكمّية العالمية في الصناعات الإلكترونية، كذلك هناك استخدامات أخرى لأغراض طبية، وقد اُستخدم في تلك الأغراض منذ القدم، حيث اُستخدم في القرون الوسطة في علاج الاضطرابات العصبية مثل الاكتئاب والصرع، واُستخدم في طب الأسنان وغيره من المجالات الأخرى.
الملاذ الآمن لرؤوس الأموال
دخل الذهب بورصة العملات منذ القدم، حيث سكّ أول عملة ذهبية معروفة في التاريخ عام 550 قبل الميلاد حين أمر الملك كروسياس، ملك ليديا (منطقة تقع في تركيا حاليًّا)، بصناعة عملات من الذهب، لتبقى مع مرور الوقت إلى جانب العملات الورقية الأخرى حتى تدشين ما عُرف بـ”قاعدة الذهب“.
وقاعدة الذهب هي نظام نقدي يقوم في الأساس على استخدام المعدن كمعيار لتحديد قيمة العملة الورقية لبلد ما، وذلك من خلال ربط العملية بكمية ثابتة من الذهب، وعليه يتمّ التحويل السهل من عملات ورقية إلى كمّيات من الذهب، وبموجب تلك القاعدة يستطيع أي شخص تقديم العملات الورقية للدولة ويحصل في مقابلها على ما يساويها من الذهب، وكانت بريطانيا أول من ابتكرت تلك القاعدة عام 1821.
قبل هذا التاريخ كانت الفضة هي المعدن الأساسي الذي يعتمد عليه الناس في البيع والشراء، لكن انتشار كميات كبيرة من الذهب في أمريكا الشمالية في سبعينيات القرن التاسع عشر دفع العديد من الدول لتغيير بورصة المعادن من الفضة إلى الذهب، ومن بين تلك الدول التي غيّرت نظامها آنذاك ألمانيا وفرنسا بجانب أمريكا، وظلَّ هذا الأمر حتى الحرب العالمية الأولى عام 1914.
خلال الحرب فرضت أغلبية الدول قيودًا صارمة على صادرات الذهب، وعاد العمل بالعملات الورقية هو الأساس ولا يمكن تحويلها إلى معدن، غير أن الكساد الذي خيّم على العالم في أعقاب تلك الحرب فرض على الجميع العودة إلى قاعدة الذهب مرة أخرى.
لكن الأزمة التي تعرّضت لها الولايات المتحدة عام 1971، وانخفاض احتياطيها من الذهب وارتفاع العجز في ميزانها التجاري، أجبرها على إلغاء العمل بقاعدة الذهب واعتماد العملات الورقية مرة أخرى، ليصبح النظام النقدي الدولي منذ ذلك التاريخ معتمدًا على الدولار وغيره من العملات الرئيسية التي باتت هي وسيلة التعامل بين الحكومات والدول والشعوب.
التخلي عن قاعدة الذهب لم يؤثر في القيمة الاقتصادية للمعدن الأصفر الذي تحوّل فيما بعد إلى أحد الاستثمارات الآمنة للشركات والأفراد، وتحوّل إلى ملاذ آمن (أصل يحتفظ بقيمته في الأحداث المضطربة وغير المتوقعة) للكثير من رؤوس الأموال، فيما لجأت الدول والكيانات الاقتصادية معًا إلى الاحتفاظ بكميات كبيرة من المعدن كأحد أنواع الادّخار المضمون في مواجهة تقلبات الأسعار وموجات الكساد والركود التي يتعرض لها العالم، والتي تصيب العملات الورقية بهزات تفقدها الكثير من قيمتها، وعليه شهدت السنوات الأخيرة هرولة الكثير من الحكومات والبنوك المركزية لشراء كمّيات كبيرة من الذهب كرؤوس أموال ثابتة ومؤمّنة في مواجهة أي تغيرات.
وفي أوقات الحروب والنزاعات يمثل الذهب أهمية كبيرة للدول، وقد نشرت صحيفة “ذا تيليغراف” البريطانية أن روسيا خزّنت كميات كبيرة من الذهب خلال الأعوام الماضية، لمساعدتها في تقليل الآثار المحتملة للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الغرب بسبب تحركاتها العسكرية على خطها الحدودي مع دول الجيران، لافتة إلى أن موسكو اليوم “تمتلك ذهبًا تزيد قيمته عن قيمة ما لديها من احتياطي الدولار الأمريكي في يونيو/ حزيران عام 2020، حيث شكّلت سبائك الذهب 23% من إجمالي الاحتياطيات الروسية”.
الملياردير الأمريكي الشهير، وارن بافيت، كانت له مقولة معروفة تعكس حجم كراهيته للذهب في العموم، حين قال إن “الذهب يستخرَج من الأرض، ثم نقوم بصهره، ونحفر مكانًا جديدًا في الأرض لنضعه فيه، وندفع أموالًا لأشخاص من أجل حراسته، إنه لا يمثل أي منفعة”.
ومع ذلك، وبعد سنوات من هذا الاعتقاد، تحوّل إلى الاستثمار في مجال التنقيب، حيث استثمرت شركته Berkshire Hathaway قرابة 565 مليون دولار في ثاني أكبر شركة تعدين للذهب في العالم، شركة Barrick Gold Corporation الكندية، اعترافًا منه بقيمة المعدن الأصفر كأحد الملاذات الآمنة للاستثمارات ورؤوس الأموال في مواجهة الأزمات الاقتصادية العالمية.
عوامل تعزيز مكانة الذهب عالميًّا
استعرض مجلس الذهب العالمي (WGC) في دراسة أجراها، أبرز الخصائص التي تعزز أهمية المعدن الأصفر اقتصاديًّا، والتي تضعه على قائمة المعادن الاستراتيجية في العالم، أولها أنه حقق عائدًا أفضل من جميع السلع الأخرى على المدى الطويل ومخاطر أقل، فحقّق متوسّط عائدات سنوية قدرها 10.4% منذ إلغاء معيار الذهب عام 1971، وعائدًا سنويًّا مركّبًا بلغت نسبته 7.6%، ما جعل أداءه الاستثماري يتماشى مع مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” على المدى الطويل.
كما أنه يتمتع بخصائص تنويع مهمة في فترات المخاطر، ما جعله أكثر الاستثمارات التنويعية فعّالية مقارنة مع السلع الأخرى، حيث لبّى رغبة المستثمرين في البحث عن أصول سائلة عالية الجودة تحافظ على رأس المال وتقلّل من الخسائر، فعلى سبيل المثال ارتفع الذهب بنسبة 8% فيما تراجعت السلع الأخرى بنسبة 9% خلال عمليات بيع الأسهم العالمية خلال الفصل الرابع من عام 2018.
يشكّل الذهب استثمارًا سائلًا بدرجة عالية، فهو يأتي في المرتبة الثانية بعد النفط بمتوسط أحجام يومية للتداول تبلغ 51 مليار دولار في سوق العقود الآجلة، يليه الغاز الطبيعي وزيت التدفئة، أما في العموم فيتراوح متوسط التداول اليومي في سوق الذهب العالمي بين 100 و200 مليار دولار.
ويشكّل الذهب حماية ضد مخاطر التضخّم، ففي الوقت الذي وقعت فيه السلع الأخرى ضحية موجات التضخم الركودي خلال السنوات الماضية، كان للذهب رأي آخر، حيث سجّل عائدات إيجابية، ما انعكس بطبيعة الحال على معدلات زيادة الطلب عليه، ووفق التقديرات الاقتصادية فإن معدلات التضخم ستزداد خلال الفترة المقبلة، وهو ما يشير إلى زيادة الطلب على المعدن الأصفر.
ويعدّ الذهب أكثر السلع استقرارًا وأقلها تقلبًا، مقارنة بمؤشرات السلع الأساسية والفردية والأسهم الأخرى، كما يعزز استقرار المحفظة الاستثمارية ويحسّن العوائد المعدّلة بحسب المخاطر، هذا بجانب أنه مخزن قيمة أثبت جدواه، لما له من دور طويل ومؤثر كأصل نقدي، ولكونه أحد الأصول النادرة والثمينة على مدى عدة قرون، كان الذهب خيارًا منطقيًّا كمرتكز للعملات، ونظرًا إلى تلك القيمة والمكانة أسهم المعدن الأصفر مساهمة مهمة في الهندسة الاقتصادية العالمية، ويُعتبر حتى اليوم أحد الأصول الدولية القيّمة التي تحمي من انخفاض العملات.
وفي الأخير، يشكّل الذهب استثمارًا سائلًا بدرجة عالية، فهو يأتي في المرتبة الثانية بعد النفط بمتوسط أحجام يومية للتداول تبلغ 51 مليار دولار في سوق العقود الآجلة، يليه الغاز الطبيعي وزيت التدفئة، أما في العموم فيتراوح متوسط التداول اليومي في سوق الذهب العالمي بين 100 و200 مليار دولار.
التنافس على مناجم الذهب
أهمية الذهب المتصاعدة خلال العقود الأخيرة حوّلت مناجم المعدن إلى ساحات للتنافس والنزاع، بل في كثير من الأحيان كانت سببًا في اندلاع الحروب الأهلية والقَبَلية، وتعدّ القارة الأفريقية واحدة من أشرس تلك الساحات التي تتنافس عليها الشركات الكبرى للحصول على حق التنقيب بها، نظرًا إلى ضعف حكومات تلك البلدان، والمستوى المعيشي المتدنّي الذي يعانون منه، فيدفعهم إلى التنازل عن ثرواتهم نظير مقابل مادي ضئيل، في ظل عدم امتلاكهم للإمكانات اللازمة لتنقية المعدن واستخراجه ومن ثم بيعه بالسعر العادل الرسمي.
وتتصدر غانا قائمة الدول الأفريقية الأكثر إنتاجًا للذهب خلال عام 2018، بمعدل بلغ 158 طنًّا، تليها السودان بـ 127 طنًّا، فيما جاءت جنوب أفريقيا في المرتبة الثالثة بإجمالي إنتاج وصل 119 طنًّا، أما مالي فحلّت في المركز الرابع بـ 49 طنًّا تلتها بوركينا فاسو بـ 44 طنًّا.
وتعدّ مالي أحد النماذج الحية على إشعال الذهب فتيل الصراع بها، فالتدخل الخارجي الذي تعاني منه والذي تعزز أكثر بالتواجد الفرنسي منذ عام 2013 تحديدًا، أرجعه مراقبون إلى الرغبة في السيطرة على الثروات الطبيعية للبلاد، خاصة بعد الاكتشافات الضخمة مؤخرًا من النفط والنحاس والذهب.
ومنذ عام 2018 بدأت فرنسا في تعزيز تدخلها في مالي بشكل لافت للنظر، خاصة بعدما تبوّأت المرتبة الرابعة أفريقيًّا في إنتاج الذهب، فيما ارتفعت صادرات البلاد من المعدن الأصفر بواقع 15.4% لتصل إلى 2.4 مليار دولار أمريكي تشكّل 7% من الناتج المحلي وقرابة 70% من إجمالي حجم الصادرات.
من المتوقع خلال الفترة المقبلة، والتي يرجّح فيها استمرار الموجات الركودية التضخمية، أن يتعاظم التنافس بين الشركات الكبرى والكيانات الاقتصادية العظمى، خاصة الولايات المتحدة والصين وروسيا ومعهم كندا وفرنسا، من أجل الحصول على منح وعقود التنقيب عن المعدن الأصفر.
ومن مالي إلى تشاد، تعدّ مناطق الشريط الحدودي الجنوبي لليبيا والرابط بين تشاد والنيجر والسودان والجزائر، من أغنى المناطق التي تحتوي على الذهب في أفريقيا، وعليه تحوّلت إلى بؤر صراع وتوتر أمني دائم بسبب النزاع على التنقيب عن المعدن بشكل غير قانوني.
وقد تحوّل هذا الشريط إلى ساحة كبيرة للتنافس بين القبائل، ففي الجنوب الغربي تسيطر قبائل التبو والحساونة والمحاميد، وفي الشريط القريب من الحدود مع الجزائر تسيطر قبائل التبو والطوارق، أما في الكفرة تسيطر قبائل الزوية والتبو، وقد شهدت الفترة الماضية مواجهات دامية بين تلك القبائل أثناء عملية التنقيب عن الذهب.
الدول الكبرى عبر شركاتها حرصت هي الأخرى على المنافسة على كعكة الذهب الأفريقي، حيث نجحت شركة “وانبو” الصينية في الحصول على أكثر من عشرية عقود امتياز للتنقيب عن الذهب في السودان في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بجانب 6 شركات محلية أخرى.
ومن السودان إلى مصر، حيث حصلت عدة شركات أجنبية على عقود تنقيب عن الذهب في الصحراء المصرية، ومن أبرز الشركات الفائزة بتلك المنح “سنتامين الأسترالية” (Australia’s Centamin)، والشركات الكندية “باريك غولد” (Barrick Gold) و”بي تو غولد” (B2Gold) و”لوتس غولد” (Lotus Gold) و”ريد سي ريسورسز” (Red Sea resources)، و”ميداف” المصرية و”العبادي للتعدين” و”شمال أفريقيا للتعدين” و”مناجم النوبة” و”إبداع فور غولد”.
وقد وضعت بعض الدول ذهب أفريقيا نصب عينَيها، وذلك للحصول عليه بشتى السبل، القانونية منها وغير القانونية، إنعاشًا لخزائنها من هذا المعدن الذي تزداد قيمته يومًا تلو الآخر، والذي أصبح بمثابة الضمانة الأكثر استقرارًا في مواجهة أي تقلبات سعرية في سوق السلع العالمي، ولعلّ حصول الإمارات على الذهب السوداني أحد النماذج الفجّة على هذه السياسة الدولية الجديدة.
من المتوقع خلال الفترة المقبلة، والتي يرجّح فيها استمرار موجات الركود التضخمية، أن يتعاظم التنافس بين الشركات الكبرى والكيانات الاقتصادية العظمى، خاصة الولايات المتحدة والصين وروسيا ومعهم كندا وفرنسا، من أجل الحصول على منح وعقود التنقيب عن المعدن الأصفر الذي تحوّل إلى سلعة استراتيجية قادرة على تغليب كفة اقتصاديات دون أخرى في ساحة التنافس العالمي المشتعلة حاليًّا.