قبل 12 سنة من اليوم، لم أبلغ حينها سن الثامنة عشرة، لم أكن أعرف شيء عن السياسة والشأن العام سوى بعض الكلمات والألوان ذات الدلالة الكبيرة: “التجمع الدستوري الديمقراطي”، “الشعب الدستورية”، “لجان الأحياء”، “لجان اليقظة” والأكيد “زين العابدين بن علي”.
كنت أعرف اللون البنفسجي أيضًا، ومن لا يعرف البنفسجي؟ فهو اللون الطاغي في تونس، فهو رمز التجمع –الحزب الحاكم في البلاد-، ولا يغيب عن ذهني صندوق 26/26 الذي أجبرنا على المساهمة فيه وإن لم نفعل يتم فصلنا من الدراسة ومعاقبتنا.
وعلى ذكر العقوبات، أتذكر جيّدا خوفنا من الخوض في الشأن السياسي، فلا أحد يتجرأ على قول كلمة في النظام، فللحيطان أذان، والكل خائف من بطش الوشاة وعناصر الأمن المنتشرين في كل مكان.
أغلبية الشعب خائفون، فالسجون ممتلئة بمعارضي نظام بن علي وقبله بورقيبة، أتذكر جيدًا في إحدى حصص مادة “التربية المدنية” حين سألت الأستاذة لماذا لم يتغير الرئيس بعد فمنذ ولادتي لم أرى غيره، تفاجأت الأستاذة من السؤال: احمر وجهها وتسمرت في مكانها، فلا إجابة عندها لكنها تداركت الأمر قائلة: “يا ابني دعك من هذا وركز بالدرس”.
تلخص إجابة الأستاذة، حال أغلبية التونسيين في ذلك الوقت، خوف وخشيت من الخوض في الشأن السياسي، رغم ما يدعيه نظام بن علي من حريات وانفتاح على الرأي المخالف في الخطب التي يلقيها على مسامع التونسيين في كل مناسبة.
صحيح كان هناك خوف كبير، لكن كانت هناك فئة تعارض النظام، فيهم من في الداخل وآخرون منفيون في الخارج، وهناك أيضًا فئة كبيرة ترفض ما يحصل في البلاد -وإن خيّرت الصمت- تنتظر اللحظة المناسبة للبوح بما في داخلها.
بطش وظلم مكّن نظام بن علي وقبله بورقيبة، من السيطرة على الفضاء العام والتلاعب بعقول التونسيين وتوجيههم وفق أهوائهما، لكن لكل نظام نهاية، وبعد الظلام من المؤكد أنه هناك نور سيسطع يوما ما، وإن تأخر.
بطش نظامي بن علي وبورقيبة
امتهن نظام بن علي قمع التونسيين والتنكيل بهم، وتفنن في ذلك، إذ امتلأت السجون بمساجين الرأي العام، ومثّلت أقبية وزارة الدّاخلّية والسجون ومراكز الاعتقال في فترة حكم بن علي (1987 -2011)، بحسب سجناء، عنوانا لـ”الرعب” لدى الجميع؛ فهيَ تؤرّخ لماض ساده الاستبداد.
لا توجد أرقام رسمية عن عدد المساجين السياسيين الذين غصت بهم السجون التونسية في عهد بن علي، لكن هناك تقارير غير رسمية تقدرهم بنحو 30 ألف سجين، أغلبهم ينتمون لحركة النهضة الإسلامية، والتهمة الأبرز التي كانت موجهة إليهم، هي الانتماء إلى حركة النهضة غير المرخص لها آنذاك.
تَعرّض المساجين السياسيون لشتى أنواع التعذيب من بينها قلع الأظافر، ودق مسامير في الأيدي، والضرب بأنواعه، والاعتداءات الجنسية، وكانت السجون تفتقر لأبسط الظروف المادية والمعنوية للحياة الكريمة وتغيب فيه المعاملة الإنسانية للسجين.
ليس هذا فحسب، بل كانت المعاملة المهينة والقاسية هي القاعدة في تعامل السجان مع المعتقل في سجون نظام زين العابدين بن علي الذي تفنن في استنباط أساليب مبتكرة للنيل من السجناء السياسيين والسعي إلى كسر إرادتهم وتحطيم معنوياتهم.
لم يكفهم تعذيب السجناء، بل ألحقوا الضرر بعائلتهم أيضًا، فقد كانت الشرطة التونسية تأتي يوميّا إلى منازلهم، تُرعب أبناءهم وزوجاتهم وكل من يعرفهم، ما أدى إلى وفاة العديد نتيجة “الإرهاب النفسي” الممارس ضد عائلات السجناء السياسيين وأقاربهم.
هناك من المعارضين من لم يدخل السجن، لكن كان يعيش العذاب باستمرار؛ فصل من العمل ومداهمات يومية وتنكيل بالأهل والأصحاب والأقارب، حتى إن الصديق أصبح يتحاشى إلقاء السلام على صديقه المعارض حتى لا يناله قسط من آلة قمع النظام.
لم يكن التعذيب والتنكيل بالمعارضين حكرًا على نظام بن علي، فقد سبقه في ذلك سلفه الحبيب بورقيبة الذي أعطى الضوء الأخضر لآلته القمعية، ودشّن عقودًا من الاستبداد والديكتاتورية التي تسبب في موت المئات من التونسيين.
في ظلّ حكم بن علي وبورقيبة، ارتفعت نسب الفقر والبطالة بين عموم التونسيين، وانتشرت المحسوبية والرشوة والفساد وتنامت مظاهر التفاوت الاجتماعي والجهوي
لمن يريد التعرف على بعض جرائم نظامي بن علي وبورقيبة في حق التونسيين، عليه أن يطّلع على تقرير “هيئة الحقيقة والكرامة” الذي نُشر للعموم في 26 مارس/آذار 2019، والذي حللت فيه الهيئة وكشفت عن الشبكات المؤسسية التي أتاحت حدوث انتهاكات حقوق الإنسان على مدى 5 عقود.
كما وثقت الهيئة الدور الذي لعبه الرئيسان السابقان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ومسؤولون كبار آخرون في التعذيب والاحتجاز التعسفي والعديد من الانتهاكات الأخرى في حق آلاف التونسيين، وفق هيومان رايتس ووتش.
لم يسمح نظامي بورقيبة وبن علي بحرية العمل الحزبي ولا النقابي ولا الطلابي ولا الجمعياتي، فقد أسسا نظام الشخص الواحد والحزب الواحد الذي يسبّح بحمد ولي نعمته، بثّا الخوف والرعب في قلوب التونسيين، ومنحا قوات الأمن كل الصلاحيات للسيطرة على الفضاء العام.
في ظلّ حكم بن علي وبورقيبة، ارتفعت نسب الفقر والبطالة بين عموم التونسيين، وانتشرت المحسوبية والرشوة والفساد وتنامت مظاهر التفاوت الاجتماعي والجهوي، عكس الأرقام الرسمية ورواية الأنظمة التي كانت تروج لـ “المعجزة التونسية”.
إرهاصات الثورة
صحيح أن نظام بن علي بدا متماسكًا طيلة أكثر من عقدين بعد أن دكّ المعارضين -كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالًا- في السجون ونكّل بالشعب، ومدّ شبكته في كل المؤسسات وسيطر عليها كالأخطبوط، إلا أنه واجه بعض التحركات الاحتجاجية التي خلخلت أركانه.
أبرز الحركات الاحتجاجية، تلك التي عرفتها منطقة الحوض المنجمي سنة 2008، إذ عرفت المنطقة الواقعة في محافظة قفصة جنوب تونس احتجاجات سلمية ضد السياسة التشغيلية غير المنصفة وغياب الشفافية، وضد المحسوبية التي كانت تمارسها شركة فسفاط قفصة المملوكة للدولة، والتي تعد المشغل الرئيسي في المنطقة.
لم يرق لنظام بن علي رؤية تلك الاحتجاجات المشروعة ذات الطابع الاجتماعي، والتي استمرت نحو 6 أشهر وشارك فيها شريحة واسعة من سكان المنطقة، فأشهر عصاه وقابلها بالعنف، إذ استخدمت قوات الأمن القوة المفرطة للسيطرة عليها ووقف تمدّدها، مما أسفر عن مقتل ثلاثة محتجين، إضافة إلى الاعتقال التعسفي والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة لعشرات الأشخاص، منهم حقوقيين وصحفيين، كما صدرت أحكام مشددة بالسجن في حق العديد من المحتجين إثر محاكمات جائرة.
نالت انتفاضة الحوض المنجمي دعمًا كبيرًا من منظمات المجتمع المدني المحلية والمجتمع الدولي لحقوق الإنسان، وقامت منظمة العفو الدولية في ذلك الوقت، وغيرها من منظمات حقوق الإنسان التونسية والدولية، بتوثيق وإدانة الانتهاكات ضد المحتجين.
لم يثن ذلك السلطات التونسية عن مواصلة الانتهاكات، حيث واصلت بانتظام انتهاك الحق في حرية الاحتجاج السلمي، من خلال المضايقة القضائية والعقاب الجماعي للمحتجين سلميًا على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الحوض المنجمي ومناطق أخرى.
سيطر النظام على الحوض المنجمي وأخمد نار الانتفاضة، لكن ذلك لم يثن سكان بن قردان التابعة لمحافظة مدنين جنوب شرق البلاد من الاحتجاج أيضًا، ففي أغسطس/ آب 2010، تفجرت الأوضاع مرة أخرى حيث انتفض سكان مدينة بن قردان الحدودية احتجاجًا على تضييق السلطات على التجارة مع ليبيا التي تعد المصدر الرئيسي لرزق سكان المدينة.
بدأت الاحتجاجات حينها، إثر قرار السلطات التونسية تحويل العمليات التجارية مباشرة بين ميناءي طرابلس الليبية وصفاقس مما يعني عمليًا القضاء على دور الحمالين والوسطاء بمعبر رأس جدير الحدودي.
وزاد قرار ليبيا فرض ضريبة دخول على السيارات، ومنع بيع البضائع الليبية إلا لمن يملكون رخصة تصدير وتوريد، من حدة الأزمة، فالقرارات التونسية الليبية تعني القضاء نهائيًا على أي نشاط تجاري لأهالي بن قردان، ما سيزيد من متاعب الأهالي ويرفع من نسب الفقر والبطالة في الجهة.
اندلعت احتجاجات سلمية، خاصة بعدما علم الأهالي أن تلك القرارات تقف وراءها جهات تونسية متنفذة، لكن سرعان ما تحولت إلى مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن التونسية التي عملت على السيطرة على الوضع والقضاء على تحركات الأهالي.
حاول نظام بن علي من خلال قمع التحركات الاحتجاجية في الحوض المنجمي وبن قردان، توجيه ضربة قاسية للحركة الاحتجاجية وإصابتها بالشّـلل.
حادثة البوعزيزي
مثّلت هذه الاحتجاجات بداية للمسار الطويل الذي أدى إلى اندلاع الثورة التونسية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 والتي أسقطت نظام بن علي الذي جثم على صدور التونسيين طيلة 23 سنة، عرفوا خلالها كلّ أنواع الانتهاكات.
في ذلك اليوم الشتوي، صادرت الشرطة التونسية عربة الشاب محمد البوعزيزي التي يجني منها قوت يومه، بعد أن عجز عن إيجاد عمل يحفظ كرامته ويُعيله على همّ الزمان، توجّه البوعزيزي إلى السلطات الجهوية في محافظة سيدي بوزيد وسط غرب تونس، يشتكي سوء المعاملة.
رفضت شكواه، فما كان من البوعزيزي، وهو من العاطلين عن العمل، إلا إضرام النار في جسده أمام مقر المحافظة تعبيرًا عن غضبه على بطالته ومصادرة عربته التي يبيع عليها الفاكهة والخضار، وتجاهل المسؤولين لمعانته.
رغم أن أي كاميرا لم توثقه، لكن الخبر انتشر على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، وسرعان ما وصلت حادثة حرق البوعزيزي إلى التونسيين، فخرج الآلاف منهم تضامنًا معه واحتجاجًا على أوضاع البلاد من بطالة وغياب للعدالة الاجتماعية وانتشار للفساد والمحسوبية والتهميش والظلم والاستبداد والدكتاتورية.
اندلعت شرارة ثورة في تونس لم يتوقع أحد حدوثها، أثارت أحلاما بالحرية، قبل أن تتدحرج كرة الثلج هذه في معظم الدول العربية
قابل نظام بن علي الاحتجاجات بالقوة الأمنية، وهو ما أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى من المتظاهرين، كما تم اعتقال المئات والتنكيل بهم داخل السجون والمعتقلات لإثناء المحتجين على مواصلة احتجاجاتهم المناهضة للنظام.
وما إن تيقن بن علي إن الاحتجاجات هذه المرة أقوى وأشمل من سابقاتها حتى قرر عزل عدد من الوزراء والمسؤولين وإصدار بعض القرارات لتهدئة الناس، منهم خفض أسعار بعض المواد الأساسية وعدم الترشح للانتخابات الرئاسية لسنة 2014 وفتح المواقع الالكترونية المحجوبة وفسح المجال أمام الحريات السياسية والمدنية.
لم يعر المحتجون أي اهتمام لقرارات بن علي المتأخرة، إذ زادت الاحتجاجات وانتشرت في كل مناطق البلاد، ما أجبر الرئيس بن علي على التنحي عن السلطة والهروب من البلاد بشكل مفاجئ إلى المملكة العربية السعودية ظهر يوم الجمعة 14 يناير/كانون الثاني 2011.
شرارة الربيع العربي
هتف التونسيون “الشعب يريد اسقاط النظام”، سمع الليبيون هتافهم، المصريون أيضا واليمنيون والسوريون والمغاربة، الجميع سمع هتاف التونسيين وآمنوا بقدرتهم على التغيير إن هم أرادوا ذلك “فلا بدّ للقدر أن يستجيب، وللقيد أن ينكسر”.
تحولت ثورة تونس إلى عاصفة عربية عارمة في البلاد التي كانت تقبع تحت نيران الاستبداد، توسعت شرارة الثورة التونسية إلى دول عربية أخرى، وزرعت أحلامًا جديدة بالحرية والديمقراطية والكرامة الوطنية في ربوع المنطقة.
اندلعت شرارة ثورة في تونس لم يتوقع أحد حدوثها، أثارت أحلامًا بالحرية، قبل أن تتدحرج كرة الثلج هذه في معظم الدول العربية التي انتقلت إليها وحطمت أصنامًا وانهار المستبدون سريعًا في المنطقة العربية بعد أن كان ذلك أمرًا شبه مستحيل.
حين فجر مقتل البوعزيزي الثورة التونسية والربيع العربي،قلة توقعت أن يتمكن الشعب العربي من فك قيود العبودية التي ابتلى بها عقودا،بل قرونا عدة
— د. أحمد الخطيب (@drahmadalkhateb) October 11, 2015
كان القاسم المشترك بين تونس وباقي الدول العربية، ظلم الأنظمة وطغيانهم، فمعظم الدول العربية تملك سجلًا أسود في حقوق الإنسان، وذلك لاستبداد الحكام وتشبثهم بالكراسي لعقود طويلة، إضافة لوصولهم للحكم بالتسلط والانقلابات.
عود ثقاب -أشعله البائع المتجول محمد البوعزيزي في جسده بعد أن صب الوقود على نفسه- أشعل ثورات مطالبة بالحرية والديمقراطية في كل من مصر وليبيا واليمن، وجسدت الفيديوهات والصور التي انتشرت والشعارات الممزوجة بالأمل والشجاعة، إرادة تبدو وكأنها تضع حدًا لما اعتبر دائمًا قدرًا محتومًا للدول العربية، وهو جمود الحياة السياسية.
صدحت الحناجر “الشعب يريد إسقاط النظام”، واختصرت رغبة جيل كامل كان يتوق للحرية والعيش بكرامة، أطاحت الثورات العربية بدكتاتوريات متجذرة حكمت لعقود عديدة بقبضة من حديد، ووُلد نموذج جديد مستند إلى إدراك جماعي بأن التغيير يمكن أن يحدث.
أطاحت الثورات العربية بزين العابدين بن علي وحسني مبارك، وأطاح أيضًا بمعمر القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن، وفتح المجال أمام إصلاحات سياسية في المغرب، وخلخلت نظام بشار الأسد، وفي الموجة الثانية أطاحت بعمر البشير في السودان وبعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر.
انجازات الثورة التونسية
صحيح أن ثمار “الربيع العربي” المنتظرة لم تزهر كما توقعت الشعوب في أغلب الدول العربية، إذ تمت عسكرة عديد الثورات واندلعت الحروب والنزاعات بسبب تشبث أنظمة الاستبداد بالحكم، لكن تونس كانت إلى حدّ ما الاستثناء في المنطقة.
عرفت تونس عقب الثورة التي أطاحت بالرئيس بن علي عديد الإصلاحات الديمقراطية التي ملئت إلى حدّ ما الفراغ الذي خلفه سقوط النظام، فكانت بذلك الثورة حدثًا بارزًا في ارتباطه بقدرة الشعب على التعبير والانتفاض على السائد وتحقيق إرادته.
عرفت تونس خلال السنوات التي أعقبت الإطاحة ببن علي، تنظيم العديد من المحطات الانتخابية، أفرزت تداولًا سلميًا للسلطة
تحصل التونسي على الحرية التي نادى بها وتحقق لهذا الشعب الذي ظل يعاني لعقود طويلة من الديكتاتورية، مكاسب عدة في مجال حرية التعبير، مكن صحافته من احتلال المرتبة الأولى عربيًا في مؤشر منظمة مراسلون بلا حدود لحرية الصحافة، في السنوات التي أعقبت الثورة.
تمكن شعب تونس من دسترة الحريات وسن قوانين تتعلق بحرية الصحافة، كما تم بعث عديد من المؤسسات الإعلامية، السمعية والبصرية والمكتوبة والإلكترونية تشرف عليها هيئات تعديلية، بعد سقوط النظام الشمولي الذي احتكر مؤسسات الإعلام وطوعها لفائدته ولمصلحة نظامه الديكتاتوري.
فُتح المجال أمام التعددية السياسية، إذ شهدت تونس تأسيس عشرات الأحزاب السياسية بتوجهات فكرية مختلفة، خاضت محطات انتخابية حرة بوأت بعضها تصدر المشهد التونسي، بعد أن كانت قياداتها في دهاليز الداخلية.
حققت تونس إنجازات سياسية وأخرى مدنية ومنها المتعلق بالحريات، لكن بالمقابل لم تكن منصفة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحة
طالت نسمات الحرية أيضًا الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، فتأسست آلاف الجمعيات برؤى عديدة وشمل نشاطها مختلف فئات المجتمع التونسي، وتمكن بعضها من خلق توازن اجتماعي وسياسي، حيث كانت المنظمات المدنية راعية للحوار الوطني.
انتهجت تونس نهج الحوار والتوافق، فحصدت جائزة نوبل للسلام عام 2015، تكريمًا للاستثناء التونسي وتجربته الناجحة في التداول السلمي الديمقراطي على الحكم عبر انتخابات تحت إشراف هيئة مستقلة عن السلطة التنفيذية.
عرفت تونس خلال السنوات التي أعقبت الإطاحة ببن علي، تنظيم العديد من المحطات الانتخابية، أفرزت تداولًا سلميًا للسلطة، كما نجح التونسيون في كتابة دستور توافقي أشادت به دول العالم لحداثته وما تضمن من فصول ثورية.
ليس هذا فقط، هذه التعددية السياسية والفكرية والثقافية تزامنت مع إنشاء هيئات دستورية تشمل حقوق الإنسان والمجال الانتخابي ومكافحة الفساد والانتقال الديمقراطي والإعلام، كلّ ذلك لأجل القطع مع الماضي الذي اتسم بالظلم والفساد.
بعض الثغرات الصعبة
حققت تونس بعد الثورة إنجازات سياسية وأخرى مدنية بما في ذلك المزيد من الحريات، لكن بالمقابل لم تستجب للمطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحة، إذ بقيت تلك الاحتياجات تراوح مكانها.
عجز الرؤساء والحكومات المتعاقبة على قصري قرطاج والقصبة عن تحويل “الثورة” إلى” ثروة”، فنسب النمو الاقتصادي ضعيفة ونسب البطالة والفقر في ارتفاع، نفس الأمر بالنسبة إلى الهشاشة الاجتماعية والتفاوت الطبقي والجهوي.
شاهدنا أيضًا عودت الممارسات البوليسية القمعية ولو كانت محدودة، عاد التعذيب في السجون، وعادت الملاحقات الأمنية ضدّ الشباب، وسُمح بعودة رموز النظام السابق إلى الواجهة بعد أن لفظهم التونسيون، وانتشر الفساد بقوة.
كل هذا أعطى الحجة للشباب للعودة مجددًا إلى الشوارع، فعرفت تونس عديد الاحتجاجات في مختلف المناطق للمطالبة بالتنمية والتشغيل، ومحاسبة الفاسدين ومن يقف وراءهم، ووضع حدّ للتردي الذي تشهده البلاد في مجالات عدة.
سيفوز في الانتخابات الرئاسية التونسية القادمة زين العابدين بن علي، لكن ليس الذي هرب، بل واحد من مئات البن علي الذين ظلوا يديرون الدولة العميقة في السياسة والاقتصاد والإعلام بعد الثورة. بالمناسبة عائلة البوعزيزي الذي فجر الثورة التونسية لجأت إلى كندا…من زمااان
— فيصل القاسم (@kasimf) August 7, 2019
بعد سنوات، اتضح بقوة أن الحرية وحدها لا تكفي لتعزيز وتوطيد الديمقراطية الناشئة، وأن على الحاكمين الجدد التنافس على تحسين حياة التونسيين اليومية، لا على المناصب، وهو ما فشلت الحكومات في القيام به.
حتى البرلمان، الذي كان يجسد نجاح الديمقراطية التونسية- إذ يجمع تحت قبته في باردو مختلف الشرائح الفكرية التي انتخبها الشعب بحرية- وصله الجمود وعرف عديد المحطات الموجعة، التي كادت أن تضع حدا للمسار الديمقراطي في البلاد، وقد فعلت في الأخير.
تم ترذيل العمل البرلماني، خاصة بعد انتخابات 2019، وشنّ حرب إعلامية ضد الأحزاب السياسية وعديد الشخصيات العامة، وتم التلاعب بعقول التونسيين وبصحتهم تزامنا مع انشار فيروس كورونا في تونس، أسوة بباقي دول العالم.
ابتعدت الأحزاب السياسية وحكام باردو والقصبة وقرطاج عن مشاغل المواطنين وركزوا في الخصومات والصراعات وبحثوا عن تسجيل نقاط ضد الخصوم، وضحايا كورونا يتساقطون الواحد تلو الأخر، دون أن يلتفت إليهم أحد.
سعيد ينقض على السلطة
أوصلت الديمقراطية التونسية، أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد إلى قصر قرطاج، رغم أنه لم يعرف عنه أي عمل سياسي في السابق ولا مواقف حقوقية في وجه آلة القمع النوفمبري، بل شارك في العديد من الملتقيات التي أشرف عليه حزب التجمع الحاكم زمن بن علي.
وصل سعيد إلى رئاسة تونس، بعد أن أحسن التسويق لنفسه، بأنه الرجل النظيف الزاهد للمناصب، المحبّ لبلاده والمحارب للفساد، ظنّ العديد من التونسيين أن الفرج سيأتي مع رجل القانون بعد أن طال انتظاره لسنوات عدة.
لكن حصل ما لم يكن متوقع، إذ استثمر قيس سعيد في الصراعات الحاصلة وهمّش الأحزاب والإعلام بعد أن كان ضيفا يوميا على المنابر الإعلامية قبل توليه رئاسة البلاد، كما تاجر بصحة التونسيين وعاينّا ذلك خلال أزمة كورونا، إذ تعمد تعطيل تلقّي تونس جرعات من اللقاح، وتعمّد عن حسن نية أو دونها الاستهتار بالوباء.
عوض الاهتمام بمشاكل التونسيين الذين انتخبوه بأغلبية ساحقة، اهتم قيس سعيد بتعطيل عمل الحكومة داخليا وخارجيا على الرغم من أنه هو من عين رئيسها وأغلب أعضائها، كما ركز اهتمامه على تعطيل البرلمان في الوقت الذي كان المفروض أن تكون هناك لُحمة ووحدة لمواجهة أزمات البلاد.
ركز سعيد على جمع كل السلطات تحت يديه رغم أن الدستور لا يمنحه ذلك، وسعى إلى الهيمنة، وكثّف جولاته بين الثكنات العسكرية والمساجد، موجّهًا اتهاماته للطبقة السياسية ومشكّكًا في نظام الحكم والدستور الذي بفضله وصل سدّة الحكم.
أدخل البلاد في صراعات جانبية، في وقت كان من المفترض أن يركز الجميع على كيفية اخراج تونس من أزماتها التي مست كل المجالات، كان كلّ ذلك وفق خطة مسطرة مسبقة بهدف تعطيل العملية الديمقراطية في مهد الثورات العربية.
جهّز سعيد كل شيء، ولم يبق إلا الانقضاض على السلطة بصفة كليا، وهو ما كان ليلة 25 يوليو/تموز 2021، إذ انقلب رجل القانون الدستوري على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية وأقال حكومة وجمد عمل البرلمان قبل أي يحله لاحقا.
استغلّ سعيد خروج مظاهرات واحتجاجات في بعض المناطق من البلاد للتنديد بعمل الحكومة وشنّ هجوم على البرلمان، لم تكن الأعداد كبيرة جدًّا، لكن تمَّ التسويق لها باحترافية وظهرت على أنها احتجاجات عمّت كل مناطق تونس وشملت كل فئات البلاد.
سيطر رجل القانون على كل السلطات في البلاد-التنفيذية والتشريعية والقضائية- وكتب دستور بنفسه وصاغ قانونًا انتخابيًا جديدًا- ضرورة اكتمال عناصر المسرحية- ونكّل بالسياسيين والإعلاميين وكل من يقول كلمة في حقّه، وكان لرجال الأعمال نصيب أيضًا.
كان أخر همّ سعيد، معالجة مشاكل التونسيين، إذ زاد في تأزيم الوضع، وركّز على تنزيل برنامجه القائم على حكم الفرد الواحد والتمكين لأصدقائه وأقاربه، ورغم ابتعاد العديد من داعميه عنه وظهور علامات تململ في صفوف حاشيته إلا أنه مواصل في نهجه.
أربك قيس سعيد الانتقال الديمقراطي في تونس ووضع حدّا لتجربة استثنائية ظن الجميع أنها في الطريق الصحيح رغم العراقيل التي راكمها محور الثورات المضادة، نجح سعيد في مزيد تأزيم الوضع في مهد الثورات العربية، وكانت رسالة سلبية لباقي شعوب المنطقة التي كانت ترى في تونس التجربة الأمل.