بحثًا عن موطن جديد يجمع شتات يهود العالم كأمة واحدة، صنع الحاخامات دولتهم من منصة المؤتمرات، عبر فتاوٍ توراتية ومخططات استيطانية تدفع للهجرة إلى فلسطين وإقامة ملك على مقاسهم.
لم يكن سهلًا إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، خاصة لدى المتديّنين الذين كانوا ينتظرون “المسيح المخلّص” حتى يقودهم لبناء دولتهم، لكن كان للحاخامات فتاويهم الجاهزة للتعامل مع الحالة، فحرّفوا التوراة، كدأبهم، وأفتوا بإباحة قتل الفلسطيني وتهجيره من أرضه وتدنيس مقدساته، وكانوا العمود الفقري لإقامة مرافق الدولة وسنّ تشريعاتها وقوانينها.
لم يتوقف دور الحاخامات عند البحث عن موطن والاستقرار فيه، بل واصلوا عملهم حتى تنامت سيطرتهم على مفاصل صنع القرار الرئيسية فيه، سواء السياسية أو الدينية، ما وضع الساسة في موقف المتودّد بل المتوسّل لهم، فهم وحدهم من يرفعون حكومات ويسقطون أخرى.
نستعرض في هذه القراءة الموسّعة دور الحاخامات والصهيونية الدينية في تشكيل الدولة العبرية وحكمها خلال المراحل المختلفة، من تشجيع الهجرة إلى الأراضي الفلسطينية وشرعنة الاستيطان واغتصاب أراضي الفلسطينيين، إلى المتغيرات التي أدّت إلى سيطرتها على مفاصل الحكم السياسي والعسكري، وصولًا إلى تأثيرهم في عمليات التطبيع العربي.
البدايات
ما قبل التأسيس
في أواسط القرن التاسع عشر، لجأ رجال الدين اليهود “الحاخامات” إلى حراكات دينية للتأثير على اليهود الأوروبيين، من أجل إيجاد وطن بديل لهم في ظل موجة معاداة السامية التي اجتاحت أوروبا في تلك المرحلة التي استمرت حتى أواسط القرن العشرين.
وخلال تلك الفترة برزت أفكار ومشاريع مختلفة من جانب أشخاص بشكل فردي، مثل الحاخامات تسفي هيرش كليشر ويهودا الكلعي وموشيه هيس، والأدباء دافيد غوردون وبيرتس سمولينسكين وإليعيزر بن يهودا، وآخرين.
وسبقَ الحاخامُ تسفي هيرش كاليشر (24 مارس/ آذار 1795-16 أكتوبر/ تشرين الأول 1874)، وهو ألماني أرثوذكسي، مؤسّسَ الحركة الصهيونية تيودور هرتزل، حين عبّر الأول عن وجهات نظره من منظور ديني لصالح استيطان اليهود في أرض فلسطين، ورأى أن الهجرة اليهودية والاستيطان بفلسطين تأدية لفريضة دينية على اليهود القيام بها.
وجهة نظر كاليشر جعلته يتفق مع مبادئ الحركة الصهيونية العلمانية، فانضمّ إليها ومعه بعض المتديّنين اليهود، مثل الحاخام موشية هيس وبعض حاخامات مؤسّسي حركة أحباء صهيون (تأسّست عام 1881)، الذين تمركزوا في روسيا القيصرية، وكانت وجهة نظرهم أن المسيح المخلّص سيأتي وفق عقيدتهم ويحكم الأرض 1000 سنة (عقيدة الألفية)، وبدلًا من الانتظار مئات السنين رأوا إقامة دولة في فلسطين تمهّد لمجيء المسيح عبر جيش ودولة، وتلك كانت نقلة نوعية.
وقبل تنفيذ الحركة الصهيونية خططها بإرسال اليهود إلى فلسطين، شارك 14 حاخامًا من أصل 140 مندوبًا في مؤتمر صهيونيي روسيا عام 1898، وحّدهم الحاخام إسحق يعقوب رينس ضمن كتلة مزراحي (اختصار للمركز الروحي)، ليشكّلوا أول حزب يمثّل الصهيونية الدينية، يدعو إلى العمل لتحقيق السيادة اليهودية وإقامة “إسرائيل” دون انتظار ظهور المسيح المخلّص، بخلاف الحريدية الأرثوذكسية التي تؤمن بأن إقامة دولة “إسرائيل” ستكون آخر الزمان على يد المسيح المخلّص.
ومنذ اللحظة الأولى التي خطّطت فيها الحركة الصهيونية العلمانية تأسيس وطن لليهود في فلسطين، أدركت أن العودة الموعودة لأرض فلسطين لن تتمَّ إلا بجهد يهودي صرف، ليس له من نظير إلا الدعم الإلهي الذي لم تنكره الصهيونية في بداياتها.
الاتجاه الديني الأرثوذكسي
ولأن الاتجاه الديني لليهود في أوروبا الشرقية كان أرثوذكسي تقليدي يتبنّى فكرة “لا يجوز الهجرة لأرض الميعاد إلا بعودة المسيح المنتظر”، اُستخدمت الصهيونية الدينية لإقناعهم، فهي منذ نشأتها ذات طابع وسطي توفيقي، حاولت الجمع بين الدين والصهيونية في تيار واحد.
ولعب حاخامات الصهيونية الدينية دورًا في التأثير على يهود أوروبا للهجرة إلى فلسطين، وانتظار المسيح هناك عبر نظرية “أن الصهيوني يستطيع أن يكون متدينًا والمتدين صهيونيًّا، دون أن تكون للصهيونية قيمة دينية”، ووجدَت هذه الدعوة آذانًا صاغية لدى أوساط “الأرثوذكسيين الجدد” في أوروبا الشرقية.
وضمن ورقة بحثية نشرها مركز القدس بعنوان “الخلاص، الهيكل وصعود الصهيونية الدينية”، يقول الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي أشرف بدر: “تمتد جذور الصهيونية الدينية إلى التيار الأرثوذكسي، حيث ظهرت عدة تيارات دينية يهودية في العصر الحديث أبرزها الإصلاحية والمحافظة والأرثوذكسية”.
ويوضّح أن التيار الإصلاحي يهدف إلى نزع القداسة عن كثير من المعتقدات الدينية اليهودية ووضعها في إطار تاريخي، بينما نشأ التيار المحافظ كحلّ وسط بين التيار الأرثوذكسي والإصلاحي، فيما يشكّل المنتسبون للتيار الأرثوذكسي معظم المتديّنين في “إسرائيل”.
ويلتقي التيار الأرثوذكسي مع الصهيونية (العلمانية) في فكرة الحفاظ على اليهود كجماعة منفصلة، وعدم الاندماج في المجتمعات الأوروبية، على اعتبار أنّ اليهودية عبارة عن دين وقومية، كما ينقسم إلى 3 أقسام، وهي الحسيدية ذات التوجه الصوفي واللتوانية المعارضة للحسيدية وأخيرًا الصهيونية.
عارضت الأرثوذكسية الصهيونية الفكرة التي يؤمن بها الأرثوذكس الحريديم، والداعية إلى الاعتماد على “المسيح المنتظَر” كي يقود اليهود صوب فلسطين لإقامة “مملكة إسرائيل”، ورأت الصهيونية الدينية أن هذا الاعتقاد يمنع اليهود من اتخاذ أي عمل سياسي يعيدهم إلى “أرض الميعاد”.
وقد استغلت الصهيونية الدينية مقولتَين أساسيتَين يؤمن بهما عامة اليهود، وجعلتهما دعامة فكرية لمفاهيمها، وهما “الشعب المختار” و”أرض الميعاد”، ومن هنا تنبع قوة الصهيونية الدينية، كونها متوائمة مع جوهر المشروع الصهيوني المبنيّ على المقولتَين نفسهما.
وقبل قيام “إسرائيل”، تعرّضت فلسطين لـ 5 موجات متتالية من الهجرات اليهودية، وذلك في أعقاب الأزمات المتعاقبة التي حدثت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية في المناطق التي تواجد فيها اليهود، وذلك من خلال استغلال الدين عبر حاخامات الصهيونية الدينية، ولعلّ من أبرزهم الحاخام أبراهام كوك (1856- 1935) الذي يعدّ الأب الروحي للصهيونية الدينية ومنظّرها.
وعمل كوك على ربط التوبة والخلاص بالصهيونية، عبر الردّ على ادّعاء التيار الأرثوذكسي بعلمانية مؤسّسي “دولة إسرائيل” ووجوب عدم التعاون معهم، مدّعيًا أن هؤلاء العلمانيين أداة الرب لتحقيق الخلاص وتقريب مجيء المخلّص من خلال تجديد الاستيطان في “أرض إسرائيل”، وأن أفعال هؤلاء العلمانيين موجّهة من الرب رغم عدم معرفتهم بذلك.
ووفق نظرية كوك لإقناع المتشددين من اليهود في رؤية الصهيونية العلمانية للعودة إلى فلسطين، فإنه بعدما يظهر المسيح سيتحوّل هؤلاء العلمانيون نحو الالتزام بتعاليم الدين، وحذّر في الوقت ذاته من دخول المسجد الأقصى أو تسريع النهاية، لأنهم لا يستحقون ذلك، وأصدر فتوى بذلك.
التأسيس ونظرية كوك
واصل الحاخامات تغلغلهم في المدن والمؤسسات الرسمية والشعبية، ويتركز وجودهم في دار الحاخامية الكبرى، ووزارة الشؤون الدينية، والأحزاب الدينية، والكيبوتس الديني، فلكل مدينة ومستوطنة حاخامها، ولكل حزب وطائفة دار حاخامية مصغّرة، وهناك حاخام للمؤسسة العسكرية.
توسّعت الصهيونية الدينية عقب اندماجها في المؤسسات العامة بـ”إسرائيل” وفي مقدمتها الجيش، حيث امتنع المتدينون عن الانخراط في صفوف الجيش مع بداية تأسيس “دولة إسرائيل”، متذرّعين بأسباب دينية تتعلق بهوية “إسرائيل” وعدم تطبيقها للشريعة التوراتية.
تمَّ تقنين هذا “الامتناع” عبر اتفاقية الوضع الراهن التي تمَّ التوقيع عليها في يونيو/ حزيران 1947، بين الوكالة اليهودية التي ترأّسها حينئذ دافيد بن غوريون وحزب “أغودات إسرائيل” الذي يمثّل معظم المتدينين.
ومع مرور الوقت برزت لدى القيادة الإسرائيلية مشكلة تزايُد أعداد المتديّنين العازفين عن الخدمة العسكرية، بذريعة التفرُّغ لدراسة التوراة، وتمَّ حلّ المشكلة بشكل جزئي عام 1965 عبر التوصُّل إلى تسوية بين حاخامَي الصهيونية المتديّنة والجيش، يتم بموجبها الدمج ما بين التعليم العالي للتوراة والخدمة العسكرية في الجيش في مدارس توراتية خاصة.
ساهمت في بلورة هذا الحل الفتوى التي أصدرها الحاخام تسفي كوك (ابن الحاخام أبراهام)، والتي تنصّ على أنّ الخدمة العسكرية بمثابة واجب ديني.
لكن ما جرى بعد حرب 1967 واحتلال الإسرائيليين للقدس والخليل والسامرة (جبال نابلس هي القسم الشمالي الجبلي من الضفة الغربية)، وكلها أراضٍ ذات قيمة دينية منصوص عليها في التوراة، أحدث تحولًا نوعيًّا حين اعتبره الحاخام كوك (الابن) نصرًا إلهيًّا في الأراضي المقدسة، وأن انتصار الإسرائيليين على الجيوش العربية (مصر وسوريا والأردن) ذو قيمة دينية.
وخرج الحاخام كوك بنظرية جديدة تتمحور حول أنه يمكن الاستعانة بالصهيونية العلمانية من أجل الأهداف الدينية، ثم بدأت تندمج الحركة المتديّنة بمؤسسات الدولة عبر الكليات العسكرية التي أُنشئت في مستوطنات دولية، وكانوا يدرسون 3 سنوات التوراة والعسكرية، ومن هنا عبر الجيش اخترقوا المجتمع الإسرائيلي وكل منصات الدولة، كما تزايد أعداد أتباع الحاخام كوك بعد عام 1967، على حساب خرّيجي المدارس الدينية الأرثوذكسية الحريدية.
استمرَّ صراع الحركة الدينية في “إسرائيل” حتى هزيمة 1973 التي انتصرت فيها الجيوش العربية (مصر وسوريا)، وكانت هذه الحرب محاولة للردّ على الهزيمة التي ألحقتها بها “إسرائيل” عام 1967، حين أعادت رسم خريطة المنطقة وضمّت مساحات واسعة من الأراضي وهزمت جيوش 3 دول عربية.
وبعد الهزيمة أسّس الحاخام كوك الابن وطلابه حركة “غوش إيمونيم”، المحرّك الأساسي للاستيطان في مناطق 1967، وفي وثيقتها التأسيسية التي نشرتها في 9 فبراير/ شباط 1974، كتبت الحركة: “تأسّست “غوش إيمونيم” من أجل تشكيل بشارة جديدة-قديمة.. من أجل إيقاظ التحقق الصهيوني الكامل في العمل والروح، عبر إدراك جذور رؤية اليهودية: الخلاص الكامل لشعب إسرائيل والعالم أجمع”.
الحاخامات والاستيطان
اليمين المتطرّف
قبل الحديث عن الحركات الاستيطانية التي يقودها الحاخامات والأحزاب الدينية بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس والضفة وقطاع غزة 1967، لعب الحاخامات دورًا في استقطاب يهود العالم للهجرة إلى الأراضي المحتلة تحت مسمّى الدين اليهودي، كما فعل الحاخام يهودا شيلوم حين أسّس عام 1871 جمعيةً لاستعمار الأراضي في القدس، ودعا يهود العالم للاستيطان فيها، بحجّة أن “فلسطين هي السبيل الوحيد أمام اليهود”.
واعتمدت الحركة الصهيونية وقتها اعتمادًا أساسيًّا على الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، الذي شكّل حجر الزاوية الأساسي في بناء الفكر الصهيوني، وحوله تحلّقت الأنشطة الصهيونية كافة، من مالية وسياسية ودبلوماسية واقتصادية وأمنية وخلافها، ومع نمو النشاط الاستيطاني نمت المؤسسات الصهيونية وتعاظم دورها.
ويمثّل اليمين المتطرف كافة التيارات الدينية داخل الحركة الصهيونية، إذ يعدّ عرّاب المشروع الاستيطاني في فلسطين التاريخية، والركن الداعم لـ”إسرائيل” كدولة يهودية.
ويعتمد المنطلق الأيديولوجي والفكري للصهيونية الدينية على التوراة كأساس يمنح اليهود “الحق” في إقامة وطن قومي بفلسطين، وذلك على عكس التيارات الدينية اليهودية الأخرى التي ترى أن قيام “إسرائيل اليهودية” يتحقق فقط بمجيء “المخلّص”.
وبالإضافة إلى الأيديولوجيا التوراتية، يستندُ أتباع الصهيونية الدينية إلى مواعظ الحاخامات والفكر المتأصّل الذي يخرج من المدارس والمراكز الدينية اليهودية المنتشرة بالضفة والقدس، وهو الفكر الذي يغذّي الاستيطان هناك.
“غوش إيمونيم”
بزغ دور الصهيونية الدينية حين أخذت بعد احتلال 1967 زمام المبادرة، وشكّلت من خلال حركة “غوش إيمونيم” رأس حربة في الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي قيادة المشروع الاستيطاني الجديد.
وتعدّ “غوش إيمونيم” حركة دينية-قومية غير مرتبطة بالعمل البرلماني الإسرائيلي، عملت بنشاط واسع في فترة 1974-1988، ومن مؤسّسي الحركة حنان بورات من حزب المتدينين الوطنيين (المفدال) وموشي ليفنجر، كما حصلت الحركة على تأييد من شخصيات سياسية وأعضاء كنيست، مثل أرئيل شارون وغئولا كوهين وزبولون هامر، وغيرهم من السياسيين المنتمين إلى الأحزاب اليمينية والدينية في “إسرائيل”.
وكانت “غوش إيمونيم” تقيم المستوطنات بعيدًا عن أماكن الفلسطينيين في القدس والضفة، لكن حين حصلت على تأييد شبه رسمي من حكومة الليكود بعد صعودها إلى الحكم عام 1977، أصبحت قريبة من المناطق الفلسطينية وأنشأت مستوطنات في قطاع غزة والضفة، واستمرّت كذراع استيطانية لحزب المفدال حتى أخذ شكل الحركة بالتقلُّص بعد أن أُقيمت قائمة “هتحيا” السياسية وغيرها، وإقامة مجلس مستوطنات الضفة والقطاع، لينتهي وجود الحركة في أواخر الثمانينيات.
وبعدها تشكّل عدد كبير من الجمعيات الاستيطانية على يد أحزاب الصهيونية الدينية، تعمل اليوم بشكل متسارع في الضفة والقدس، ومن أهمها “لاهافا” التي تعود جذورها إلى “غوش إيمونيم”، وكذلك “جمعية إلعاد” التي تأسّست في سبتمبر/ أيلول 1986، وهي ذراع ضخمة وفعّالة للسياسات الإسرائيلية الاستيطانية والتهويدية في القدس، تعمل على تهويد مدينة القدس سعيًا إلى إقامة الهيكل الثالث.
وتجدر الإشارة إلى أنه رغم تأخُّر عملية البناء الاستيطاني في قطاع غزة التي جاءت أواخر عام 1970، لضرورة وضع حزام استيطاني في محيط القطاع، وتقسيمه إلى 3 كتل فلسطينية تفصلها حواجز مادية عبارة عن 3 مجموعات من المستوطنات في شمال ووسط وجنوب القطاع، إلا أنه تمَّ الانسحاب وتفكيكها عام 2005 بفعل الضغط الكبير الذي مارسته المقاومة الفلسطينية في القطاع، لا سيما بعد “حرب الأنفاق” التي استهدفت مواقع عسكرية للجيش الإسرائيلي.
الجمعيات الداعمة للاستيطان
– “لواء الاستيطان”: أُسّس عام 1908 كوحدة مستقلة داخل المنظمة الصهيونية العالمية، ويعمل ذراعًا تنفيذية للحكومات الإسرائيلية في إنشاء المستوطنات والمزارع في الضفة الغربية والجولان السوري، ومنذ عام 2004 أيضًا يعمل في النقب والجليل داخل الخط الأخضر، ويتمّ تمويل نشاطه من قبل حكومات “إسرائيل”.
– “حركة أمان”: أُسّست عام 1979 كجسم تنظيمي داعم لـ”غوش إيمونيم”، وتعمل بشكل أساسي على إقامة مستوطنات جديدة وتطوير المستوطنات القائمة، وتبادر بمشاريع استيطانية عبر شركات استثمارية بملكيتها، كما تتخصّص في البناء والتخطيط الهيكلي للمستوطنات.
– “حركة نحالا”: أُسّست عام 2005 دعمًا لـ”غوش إيمونيم”، كونها تركّز جُلّ نشاطها على توسيع دائرة نفوذ المستوطنات القائمة، ونشر البؤر الاستيطانية على أوسع مساحة من الأراضي الفلسطينية في الضفة، حيث ساهمت “نحالا” في إقامة أكثر من 60 بؤرة استيطانية حتى عام 2022.
وتنشط بالترويج للمشاريع الاستيطانية من خلال تعزيز العلاقات مع القيادات السياسية على مستوى “إسرائيل” والجاليات اليهودية عبر العالم، وتحظى بدعم وتأييد من تيار الصهيونية الدينية، كما أنها تتوغّل في المجتمع الإسرائيلي القومي والديني وحتى العلماني، وتتطلع إلى توطين مليونَي يهودي بالضفة.
كما تتعاون كل من دائرتَي أملاك الغائبين وأراضي “إسرائيل”، ووزارة الإسكان، وصندوق أراضي “إسرائيل” وغيرها من الدوائر الحكومية، مع الجمعيات الاستيطانية للاستيلاء على الأراضي والعقارات الفلسطينية وإسكانها بالمستوطنين، والسيطرة على المواقع التاريخية الأثرية، وخلق رواية صهيونية حولها، عبر استخدامها مجموعة من القوانين لسرقة الأراضي.
تقف صناديق تمويل يهودية أجنبية خلف هذه الجمعيات، تقدَّر ميزانياتها بمئات ملايين الشواكل (الشيكل عملة “إسرائيل”)، فعلى سبيل المثال تقدَّر ميزانية “جمعية إلعاد” التي تنشط في بلدة سلوان بـ 500 مليون شيكل (حوالي 146.5 مليون دولار).
ومن خلال دراسة خاصة أجراها قسم البحث والدراسات في “المركز الفلسطيني للإعلام”، نُشر في أغسطس/ آب 2017، تمَّ الكشف عن جمعية “كرن سيغال لإسرائيل”، والتي تعدّ أبرز جمعية خارجية داعمة للكيان الصهيوني، وبمثابة صندوق وحاضنة دعم لمؤسسة تراث الحائط الغربي، ومسؤولها ورئيس مجلس إدارتها الحاخام شموئيل رابوفيتش.
كما توجد جمعيات تضخ ملايين الشواكل لصالح المنظمات اليمينية المتطرفة من دون قيد أو شرط، وتحاول التغطية على نشاطها بدعم تلك المنظمات.
وتتدفق ملايين الدولارات على جمعيات الاستيطان اليهودي في البلدة القديمة من القدس ومحيطها من الولايات المتحدة سنويًّا، دون أن تخضع لرقابة سلطات الضرائب الأمريكية، وتجنّد نوابًا في الكونغرس الأمريكي لجلب مزيد من الدعم المالي الأمريكي لبناء الأحياء الاستيطانية اليهودية في قلب الأحياء الفلسطينية على تخوم البلدة القديمة، كما هو الحال عليه في رأس العمود والشيخ جراح وجبل الزيتون، لتخلق واقعًا سياسيًّا صعبًا يدفع الفلسطينيون المقدسيون ثمنه مزيدًا من هدم منازلهم والاستيلاء على عقاراتهم.
أما فيما يتعلق بالضفة المحتلة، تشير تقارير أخرى إلى إرسال هِبات إلى “هيلون موري إسرائيل”، و”غوش ايتزيون إسرائيل”، و”فرناي شمرون إسرائيل”، و”أفرات إسرائيل”، و”بات عاين إسرائيل”، وجميعها منظمات وجمعيات تقع في مستوطنات بالضفة الغربية، اشتهر مستوطنوها بالسيطرة على أراضي مواطنين فلسطينيين وتجريدهم منها، بل الاعتداء العنيف على أراضي هؤلاء المواطنين.
الظهور في الشأن العام
من منصة المؤتمرات إلى عمق الحياة السياسية
استعانت الصهيونية الدينية بعدّة وسائل للصعود والسيطرة على الحياة في “إسرائيل”، فقد سيطرت على مفاصل الحياة السياسية والإعلام، ولا يقتصر الأمر على وجود ضبّاط برتب عالية في الوحدات القتالية، فهم أيضًا يسيطرون على ثُلث تركيبة المحكمة الإسرائيلية العليا، ومنهم المستشار القانوني للحكومة، ورئيس الموساد، ونفتالي بينيت الذي شغل منصب رئيس الوزراء الثالث عشر، وشكّل نموذجًا واضحًا لانتقال مركز ثقل الصهيونية-الدينية من الشريعة اليهودية إلى القومية.
وكما يقود أتباع التيار الديني الصهيوني معظم الكتائب والسرايا في ألوية المشاة المختارة، وهي المظليون و”هناحل” و”جفعاتي” و”جولاني”، إلى جانب احتكارهم قيادة وحدات الصفوة بصورة مطلقة، وهي “سييرت متكال” التي تعدّ أهم الوحدات نخبويةً في جيش الاحتلال الإسرائيلي، و”إيغوز” و”شمشون” و”دوخيفات”، فضلًا عن سيطرتهم على الوحدة المختارة للشرطة المعروفة بـ”يسام”.
يقول جوناثان كوك في مقال بعنوان “سلطة الحاخامات في “إسرائيل” وهاوية الحرب المقدسة”، إنه بعد تأسيس “إسرائيل” قرر ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء، إخضاع مناطق هامة من الحياة لليهود الإسرائيليين لولاية حاخامية أرثوذكسية، تمثل التيار الأكثر صرامة والأكثر تقليدية في اليهودية.
ومنح بن غوريون الحاخامات الأرثوذكس سيطرة حصرية على أجزاء مهمة من المجال العام ومسائل الأحوال الشخصية، مثل التحويلات والولادات والوفيات والزواج.
وعمل على تطبيق مبادئ النظرية الأمنية، ما استدعى من النخب الإسرائيلية الحاكمة العودة إلى تراث الديني اليهودي لزيادة الدافعية لدى الشباب اليهودي للتجنيد، في إطار الجهد الحربي الإسرائيلي.
وكانت أبرز خطوة أقدمت عليها المؤسسة الحاكمة هي افتتاح مدارس عسكرية يشرف عليها الحاخامات، ويتم تمويلها من قبل الجيش لبعث الحماس الديني، وهو ما جعل الحاخامات على تواصُل مع قطاعات علمانية واسعة من الجمهور.
ومع أنه لا يتّسم الحاخامات داخل “إسرائيل” بالتجانُس الفكري، ويختلفون في المرجعيات الدينية بشكل غير بسيط، لكن تأثيرهم قوي في عالم السياسة والمال والاجتماع.
ويذكر المختص في الشأن الإسرائيلي، صالح النعامي، في مقال له، أن أكثر من 60% من ضبّاط جهاز “الشاباك” ونحو 40% من الضباط في الوحدات القتالية هم من أتباع التيار الديني الصهيوني، ما يدلّل على أن هناك تأثيرًا كبيرًا لفتاوى الحاخامات على أولئك الذين يحتكرون التأثير على دوائر صنع القرار في تل أبيب.
وفي الوقت ذاته، كشفت دراسة أعدّها قسم العلوم الاجتماعية في جامعة “بار آيلان” الإسرائيلية، المعروفة بتوجُّهاتها الدينية، حول مدى انصياع المجنّدين المتديّنين لأوامر الحاخامات، عن أن أكثر من 90% ممّن يصفون أنفسهم بأنهم متدينون، يرون أنه لو تعارضت الخطوات التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية مع رأي الحاخامات، فإن الأَولى هو تطبيق رأي الحاخامات.
كما يحظى هؤلاء الحاخامات بحاضنة سياسية اقتصادية واجتماعية ذات طابع مؤسساتي ودولي متين، والسكوت عنها يبرز فقط نفاق العالم وازدواجية معاييره.
العمود الفقري للحكومات الائتلافية
والواقع السياسي داخل “إسرائيل”، وحالة الانقسام السياسي التي تعيشها على مدار عقدَين من الزمن وبشكل غير مسبوق، يفضيان إلى تصاعُد مؤشّر التطرف، ما يدفع البيئة السياسية الإسرائيلية لأن تكون أسيرة ورهينة بيد التيارات اليهودية الدينية المتطرفة، بل تعطيها مساحة لأن تؤثر وتلعب دورًا كبيرًا في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حتى أصبحت لها هيمنة ونفوذ قوي، خاصة في القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية.
فالحاخامات في “إسرائيل” يمكنهم التأثير في الانتخابات البرلمانية، وتشكيل الائتلاف الحكومي وتوجُّهات الأحزاب السياسية، من خلال سيطرتهم على العديد من الأحزاب، مثل شاس، ويهودوت هتوراة، والبيت اليهودي وغيرها.
وبإمكانهم عبر هذه الأحزاب التأثير في القوانين داخل الكنيست، من خلال طرحها أو التصويت عليها وفق رغبتهم، حسب سلسلة الفتاوى التي يصدرونها بهذا الخصوص، ويتبيّن ذلك عندما أوعز الحاخام أهارون يهودا شطايمان للأحزاب الحريدية بعدم الانضمام إلى حكومة نتنياهو في أعقاب انسحاب حزبَي “يوجد مستقبل” و”الحركة”، ما جعل حلّ البرلمان والتوجُّه لانتخابات جديدة الحل الوحيد للأزمة، التي عصفت بحكومة بنيامين نتنياهو نهاية عام 2014.
ولأن الممثلين السياسيين للجاليات اليهودية الدينية الإسرائيلية، بما في ذلك المستوطنين، أصبحوا الآن العمود الفقري للحكومات الائتلافية، فهم صانعو الملك ويمكنهم الحصول على تنازلات هائلة من الأحزاب الأخرى.
ويعلق خالد شعبان، المختص في الشأن الإسرائيلي ومدير مركز التخطيط التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، بالقول: “يمكن للأحزاب التابعة للصهيونية الدينية أن تُفشِل حكومات إسرائيلية نتيجة عدم تلبية مطالبها، والتي تتمثل بعدّة أمور منها ميزانية كبيرة لمدارسهم الدينية أو مؤسساتهم الاجتماعية والصحف الداعمة لهم، وفي حال عجزت الحكومة عن ذلك سرعان ما يعملون على تفكيك الائتلافات الحكومية وبالتالي تسقط الحكومة”.
وأوضح شعبان لـ”نون بوست” أنه عند إقرار الميزانية لأي حكومة، هناك أزمة في الائتلاف نتيجة المطالب المالية الكبيرة والكثيرة جدًّا من الأحزاب الدينية لرئيس الحكومة.
وذكرَ أن من الحكومات التي أسقطتها ائتلافات الأحزاب الدينية كانت لإيهود باراك عام 1999، حين تعارضت القوى الدينية مع العلمانية ولم تتفق فانسحبَ الدينيون وأسقطوا الحكومة، حيث إن حركة شاس هي من كشفت عن هذه اللازمة لمطالبها العديدة التي أصرّت عليها، وهي منح صلاحيات لنائب وزير التعليم ميشو لام نهري، ودعم المؤسسات الاجتماعية لشاس ماديا.
ولفت إلى أن الأحزاب الدينية داخل الكنيست تحاول اليوم المطالبة بتشريع مجموعة من القوانين، لعدم إدخال أعضائها إلى السجن وتحديدًا من عليه قضايا، لذا هذا من أبرز المطالب لحكومة نتنياهو الجديدة، لا سيما أنه يمكن لهم تمرير العديد من القوانين والفتاوى عبر الكنيست.
وأشار شعبان إلى أن نتنياهو في انتخابات سبتمبر/ أيلول 2021 فشل في تشكيل حكومة نتيجة رفض رئيس الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، مشاركة منصور عباس، رئيس القائمة العربية الموحّدة في دعم الائتلاف الحكومي.
أبرز المرجعيات الحاخامية
الحاخامية الكبرى
مؤسسة معترف بها من قبل القانون باعتبارها السلطة الهالاخاه (الفتوى) والروحية لليهود في “إسرائيل”، وقد أنشأتها حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1921 وكان الحاخام إسحق كوك أول رئيس لها، وتتكون الحاخامية في “إسرائيل” من اثنين من كبار الحاخامات، واحد من السفارديم والآخر من الأشكناز.
الحاخامية العسكرية
أُسّست عام 1948 من قبل الحاخام شلومو غورين، الذي ترأّسها حتى عام 1968، وهي المسؤولة عن تنفيذ ورعاية النشاط الديني داخل الجيش، وفي الآونة الأخيرة تلعب دورًا مختلفًا يتمثل في توفير “المبرر الديني” لجنود الاحتلال لارتكاب الجرائم الوحشية ضد الفلسطينيين والعرب عامة.
اليهودية الأرثوذكسية
تأسست في النصف الأول من القرن التاسع عشر في أوروبا، ويعتبر الحاخام شمشون هيرش (1808-1888) رائدها وأسهم في بلورة أفكارها، وهي أهم وأكبر الفرق اليهودية في العصر الحديث، وتسيطر حاليًّا على الحياة الدينية في “إسرائيل”، إذ تنتمي الأغلبية الساحقة من اليهود المتدينين إلى هذه الفرقة، ما مكّنها من إملاء رؤيتها للدين واجتهادات مرجعياتها الفقهية على الدولة.
صِيغَ قانون الأحوال الشخصية الإسرائيلي بناءً على الأحكام التي أصدرها حاخامات هذه الفرقة، وتبنّى القانون الإسرائيلي التعريف الأرثوذكسي لمَن هو اليهودي، ولا تعترف المؤسسة الإسرائيلية الرسمية بيهودية أي شخص تهوّد على أيدي حاخامات من غير الحاخامات الأرثوذكس.
مركاز هراب
عبارة عن مدرسة تلمودية توراتية في القدس، يدرَّس فيها الطلاب المؤمنون بالصهيونية بوصفها أيديولوجيا دينية، عمل على تأسيسها الحاخام أبراهام كوك عام 1924، ثم باشر ابنه الحاخام تسفي كوك التدريس فيها وتولى إدارتها بعد وفاة والده، وقد لعب دورًا بارزًا في تعزيز حركة الاستيطان الديني في الضفة الغربية بعد عام 1967، ويعدّ مركاز هراب معقلًا للصهيونية الدينية ومكانًا لولادة الاستيطان.
المدارس الدينية (اليشيفوت)
تشكّل دورًا هامًّا في إنتاج حراك اجتماعي وسياسي، وذلك عبر انخراط خرّيجيها داخل المجتمع الإسرائيلي، فإنّ اليشيفاه تحمل عبر طياتها رسالة تلمودية ترغب بتحقيقها وفق أهداف محددة، إذ تُعرف اليشيفاه بأنها حلقات تلمودية ومعاهد حاخامية تجري فيها دراسة التراث الديني والفقه التربوي اليهودي، فضمن هذا المفهوم تعمل هذه المؤسسات على ترسيخ القيم الدينية داخل صفوف روادها، ما يؤثر على مجريات الأحداث داخل النسيج الإسرائيلي.
السنهدرين
يعدّ المرجعية الحاخامية لـ”منظمات المعبد”، ويقدّم الدعم الكبير لأطروحات المنظمات المتطرفة المتعلقة باستهداف المسجد الأقصى ومكوناته البشرية، إلى جانب مشاركة حاخاماته في اقتحام الأقصى، وإرسال رسائل إلى قيادات الاحتلال لإقامة “المعبد”، وصولًا إلى صنع الأدوات الخاصة بالطقوس اليهودية.
في عام 2003 صدر قرار قضائي من “السنهدرين” (هيئة قضائية عليا) للسماح بالبدء باقتحامات المتطرفين اليهود للمسجد الأقصى، ليبدؤوا منذ ذلك التاريخ في تحقيق التقدم تدريجيًّا، فكانت البداية بالاقتحامات الفردية ثم الجماعية عام 2006، وصولًا إلى تأدية صلوات تلمودية علنية في ساحات المسجد الأقصى أثناء الاقتحامات.
فتاوى الحاخامات
فتاوى تبيح قتل “الأغيار”
يتخذ معظم قطاع الحاخامات في “إسرائيل” مواقف عصابية تجاه الفلسطينيين، تصلُ حد التنافس فيما بينهم بإصدار فتاوى متطرفة تحمل في طياتها الكثير من التحريض والكراهية، فلا يكاد يمرّ شهر حتى تصدر فتوى تتّسم بالعنصرية لممارسة أقسى درجات الوحشية ضد الفلسطينيين.
إنّ تنامي سيطرة الحاخامات على مفاصل صنع القرار واتخاذه في كيان الاحتلال، واستيلاءهم وتلاميذهم على مراكز سياسية رئيسية وتنفيذية، وتأثيرهم في مسار الانتخابات الإسرائيلية، وتغزُّل الساسة بهم والاقتراب منهم وتقريبهم، كلها شواهد تدفع إلى تدحرج منسوب التطرُّف والعنف، وعلى أن صناعة الكراهية في فتاوى الحاخامات مستمرة وتتمدّد.
يدّعي كيان الاحتلال الإسرائيلي أن نظامه السياسي علماني، أي يقوم على فصل الدين عن الدولة، بينما تذهب الشواهد وتؤكد أن فتاوى الحاخامات اليهود تحتلّ موقعًا مركزيًّا كأحد أهم مكوّنات هذا النظام في إدارة المجتمع والدولة، بل يحظى الحاخامات بنفوذ كبير في المراكز القيادية السياسية والعسكرية والأمنية على وجه الخصوص.
ومن دلائل ذلك أن جميع الحاخامات إما أنهم يتقاضون رواتب مجزَلة من حكومة الاحتلال، وإما أن مؤسّساتهم الدينية والتعليمية تحظى بدعم وتمويل كبيرَين من وزارات الحكومة.
دعم الجمعيات الحاخامية التي تحثّ على القتل لا ينحصر داخل “إسرائيل”، بل تلعب الولايات المتحدة دورًا رئيسيًّا في ذلك؛ فقد دلَّ تحقيق نشرته صحيفة “هآارتس” في عددها الصادر بتاريخ 19 ديسمبر/ كانون الأول 2015، على أن الولايات المتحدة تقدّم إعفاءات ضريبية لمنظمات يهودية أميركية تقدّم ملايين الدولارات لمنظمات يرأسها حاخامات يدعون لتدمير الأقصى، ولمدارس دينية يديرها حاخامات يصدرون فتاوى تحث على قتل العرب، وضمنها مدرسة الحاخام غيزنبيرغ.
كما أن القانون الإسرائيلي لا يعتبر دعوات الحاخامات العنصرية تجاوزًا في حال استندت إلى اقتباسات من الكتب الدينية اليهودية، ويضاف إلى هذه العوامل اتجاه كثير من المستثمرين اليهود المتدينين إلى تدشين قنوات تلفزة وصحف ومحطات إذاعية ومواقع إخبارية إلكترونية ساهمت في نشر الفتاوى الحاخامية وزيادة تأثيرها في الرأي العام.
ورغم أنه قد مضى أكثر من 70 عامًا على إعلان “إسرائيل”، فإن الفتاوى التي يصدرها الحاخامات لم تؤثّر بشكل طاغٍ إلّا في العقدَين الأخيرَين، لا سيما مع تعاظُم تأثير التيار الديني على نظام الحكم ومؤسسات الدولة المختلفة.
ونظرًا إلى أن عناصر جميع التشكيلات الإرهابية التي انطلقت في “إسرائيل”، منذ ثمانينيات القرن الماضي، هم من المتدينين المتزمّتين، فقد اكتسبت فتاوى الحاخامات أهمية خاصة في رفد الشباب اليهودي للانضواء تحت إطار تلك التشكيلات.
وتدحرجت فتاوى الحاخامات من مجرد رسائل وتوصيات فردية إلى كتب مشتركة، ففي عام 2009 أصدر الحاخامان يتسحاق شابيرا ويوسى إيليتسور كتاب “عقيدة الملك”، يحتوي مجموعة من الفتاوى تبيح قتل “الأغيار”، استنادًا إلى تفسيرات العهد القديم والتشريع اليهودي، حيث أفتى بقتل الأطفال إذا كان وجودهم سيضرّ اليهود بعد بلوغهم، وأخطر ما أكّده الكتاب هو أن القتل أمر فردي لا يخضع “لقرارات الدولة والجيش”.
وما يفاقم من تأثير هذه الفتاوى أن الحاخامات الذين يصدرونها في احتكاك دائم ويومي بمجموعات كبيرة من الشباب اليهودي المتديّن، من خلال إدارتهم المدارس الدينية، لا سيما في مستوطنات الضفة الغربية، التي يعدّ طلابها “الشريحة الأكثر تطرفًا من بين المستوطنين”.
فعلى سبيل المثال، يعدّ طلاب مدرسة “عود يوسي فحاي”، المقامة في مستوطنة “يتسهار” القريبة من مدينة نابلس، من النواة الصلبة لما يعرَف بـ”فتية التلال”، ويضمّ هذا التنظيم الفضفاض عددًا كبيرًا من الشباب المتدين، الذي أخذ على نفسه في البداية السيطرة على الأراضي الفلسطينية، وتدشين نقاط استيطانية دون الرجوع إلى الجيش والحكومة الإسرائيلية، وبعد ذلك انتقل إلى تنفيذ جرائم “شارة ثمن” التي تستهدف المساجد والكنائس.
وتركت هذه الفتاوى أثرها على أنشطة التشكيلات الإرهابية ووسائل عملها، ويصل عدد تلك الجمعيات التي تدعو إلى قتل الفلسطيني وسرقة مقدساته وأرضه إلى أكثر من 40 جمعية يقودها حاخامات يدعون إلى التطرف، ومنها جماعة إحياء الهيكل، كاخ، ريغافيم، لاهافا، تدفيع الثمن، إلعاد.
فتاوى ضد العرب
شواهد فتاوى الحاخامات لصناعة التطرف والكراهية، فكرًا وممارسةً، أكبر وأكثر من أن تعدّ أو تحصى، وهي تستخدم عمليات الاعتداء المختلفة، ولعلّ من أبرزها ما يلي:
– أفتى الحاخام دوف ليئور، حاخام مستوطنة “كريات أربع” المقامة على أراضي الخليل، بأن من يتفاوض مع الوحوش (يقصد العرب) خائن ونذل وجبان، ويجب شنّ حرب مقدسة على دعاة الانسحاب من أرض “إسرائيل”، وأفتى كذلك بـ”وجوب تدمير غزة عن بكرة أبيها لتحقيق سلام “إسرائيل””.
– في عام 2000 أفتى عوفاديا يوسف، الحاخام الأكبر والأب الروحي لحزب “شاس”، دون أن يعترض عليه أحدٌ، أو يتهمه آخر بأنه عنصري أو متطرف؛ أن العرب والفلسطينيين شرّ مطلق، وأنهم يضرّون ولا ينفعون، بل هم كالأفاعي السامة، يقتلون ويغدرون، ويؤذون ولا ينفعون، وأنه ينبغي على اليهود وضع الفلسطينيين في زجاجة مغلقة، ليمنعوا شرّهم، ويصدوا خطرهم، ثم ليموتوا خنقًا فيها.
– أفتى حاخام يُدعى نيسيم مئوفيل بضرورة اقتلاع أشجار الفلسطينيين، وتسميم الآبار التي يشربون منها، وأكمل الحاخام شلومو ريتسكين الفتوى السابقة بالدعوة إلى سرقة محاصيل الزيتون الفلسطينية.
– الحاخام مردخاي إلياهو (زعيم التيار الديني الصهيوني)، وهو أهم مرجعيات الإفتاء في “إسرائيل”، أطلق فتوى لا تُبيح فقط المسّ بالرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين، بل تدعو أيضًا إلى قتل “بهائمهم”، كما تنصّ الفتوى على وجوب قتل حتى الأطفال الرضّع.
– عام 2000، وخلال انتفاضة الأقصى، نشرت صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية نصَّ رسالة وجّهها تلاميذ المدارس الحكومية الدينية الإسرائيلية إلى الجنود الإسرائيليين الاحتياط، عند هجومهم على طولكرم، تقول: “عزيزي الجندي، تجاوز كل القوانين واقتل أكبر عدد من العرب، فالعربي الطيب هو العربي الميت، فليحترق كل الفلسطينيين”.
– في سبتمبر/ أيلول 2005، أصدرت مجموعة من الحاخامات فتوى ضمّنتها رسالة وُجّهت إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أرييل شارون، حثته فيها على عدم التردد في المسّ بالمدنيين الفلسطينيين، وجاء في الفتوى: “نحن الموقعين أدناه، ندعو الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي إلى العمل بحسب مبدأ: “من يقدم إليك لقتلك، سارع واقتله””.
– أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2009، كشفت صحيفة “هآارتس” أن الحاخامية العسكرية وزّعت على الجنود المتدينين فتوى للحاخام شلومو أفنير، تحثّ على قتل الفلسطينيين.
– في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، أصدر الحاخام بن تسون موتسيبي فتوى تجيز قتل الفلسطينيين بطريقة “الإمساك برأسه وضربه مرارًا بالأرض حتى يتفتت”.
– عام 2019 أفتى الحاخام أليعزر كشتئيل لطلابه بأن “السادة هم اليهود والعبيد هم العرب، والأفضل بالنسبة إليهم أن يكونوا عبيدًا لليهود، فالعربي يحب أن يكون تحت الاحتلال”.
ولم تتردد المرجعيات الدينية في إبداء احتفائها بالجرائم التي ينفّذها الإرهابيون اليهود، إلى درجة أن عضو مجلس الحاخامية الكبرى، والحاخام الأكبر لمدينة “كريات موتسكين”، مئير دروكمان، طالب بمنح “جائزة إسرائيل”، التي تعدّ أهم الجوائز في “إسرائيل”، إلى تنظيم “لاهفا”، الذي يشنّ هجمات إرهابية على الفلسطينيين في المسجد الأقصى.
الأقصى
مقتحمون أكثر.. هيكل أقرب
في السنوات الأخيرة ارتفعت وتيرة الاقتحامات للمسجد الأقصى، لكن ما يجري يأتي ضمن سياسة ممنهَجة اعتمدها رجال الدين الذين يرأسون جماعات متطرفة منذ الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس عام 1967.
البداية كانت منذ سعي عدد من المنظمات اليمينية لدى الاحتلال إلى تأسيس “المعبد” المزعوم، الذي يعدّونه “بيت روح الرب”، بحجّة أن المسجد الأقصى أُقيم على أنقاض “المعبد” الثاني الذي دمّره القائد الروماني تيطس، مستندين على روايات توراتية وادّعاءات آثارية لم تثبت بأي شكلٍ من الأشكال على أرض الواقع.
ومع ارتباط إقامة “المعبد” بقواعد وشروط دينية عديدة، شكّل الحاخامات جزءًا أساسيًّا من الترويج لفكرة “المعبد”، من خلال إنشائهم المؤسسات المتخصصة في نشر هذه الأفكار في المجتمع الإسرائيلي، أو عبر تغيير الفتوى الدينية التي تحرم اقتحام الأقصى، وهي تغييرات سمحت نحو تحقيق الفكر الديني الصهيوني المزيد من التقدم والامتداد في المجتمع الإسرائيلي.
وأول حركة تأسست في “إسرائيل” (في ستينيات القرن العشرين) من أجل تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى هي “أمناء جبل الهيكل”، لم تنشأ من داخل صفوف التيار الصهيوني-الديني، بل قادها غرشون سولومون، وهو علماني مدعوم من أعضاء عصابتَي “إيتسل” و”ليحي”.
وفي الثمانينيات ظهرت الحركة الأولى المتدينة بقيادة حاخام صهيوني-ديني، وهو يسرائيل أريئيل مؤسس حركة “ماخون هميكداش” (معهد الهيكل)، وبقيت هذه الحركة وحيدة داخل الصهيونية-الدينية حتى التسعينيات.
في التسعينيات أيضًا بدأت جماعات صهيونية متطرفة تنظّم وتحشد مستوطنين وتدفع لهم المال للمشاركة في الهجمات على المسجد الأقصى، وذلك في سبيل تعزيز الرواية التوراتية “مقتحمون أكثر.. هيكل أقرب”، فهي تؤمن بأن زيادة عدد اليهود المقتحمين للأقصى ستعجّل بقرار إسرائيلي يسمح لهم الصلاة داخله، وبعد ذلك سيصبح من السهل المطالبة بطرد المسلمين وتدمير المسجد وبناء الهيكل مكانه.
وغالبًا لم تمضِ تلك الاقتحامات بشكل عادي، بل كانت الشرارة التي أشعلت الانتفاضات والمجازر، فهي بدأت من منطلق ترسيخ فكرة السيطرة على الأقصى، حتى أصبحت جزءًا رئيسيًّا من عقيدة المشروع الصهيوني.
وتوجد جماعات دينية متطرفة تعمل على جلب المستوطنين وحثّهم على اقتحام الأقصى، مستغلة النواحي الدينية الأيديولوجية لتحقيق مكاسب سياسية لفرض سيطرتها على حكومتها.
وبعد عام 1996، حين كانت السياسات الإسرائيلية تتحفّظ من قيام المجموعات اليهودية المتطرفة، مثل “أمناء جبل الهيكل”، بزيارات جماعية واستفزازية ومدنِّسة للمسجد الأقصى، أصبح أفراد الشرطة الإسرائيلية مرافقين ومنظِّمين ومدافعين عن هذه الزيارات، التي هدفت إلى تثبيت وجود يهودي دائم في المسجد الأقصى.
كما أصدرت في العام ذاته “لجنة حاخامات مجلس المستوطنات” فتوى دينية أكّدت فيها أنه ليس فقط من المسموح لليهود دخول الحرم، وإنما يجب أن يحثّ كل حاخام أتباعه على دخوله.
ومنذ صدور هذه الفتوى التي اُعتبرت نقطة التحول على أرض الواقع، بازدياد عدد الحاخامات الذين دعوا إلى دخول اليهود للحرم، ازدادت في السنوات القليلة الماضية أعداد اليهود الذين يدخلون الحرم بغرض الصلاة فيه وتثبيت السيادة اليهودية عليه، وفرض أمر واقع جديد فيه.
ويمكن وصف الاقتحامات التي تجري اليوم داخل المسجد الأقصى بـ”انقلاب” يتجسّد في تحطيم قواعد الوضع القائم التي سادت عشرات السنين، وذلك عبر السماح لليهود بأداء الصلوات التلمودية ومنح الحاخامات الحق في إلقاء المواعظ الدينية في الحرم، بالإضافة إلى أن زيادة حماس اليهود لاقتحام الأقصى والحوارات التي دارت بين نشطاء “جماعات الهيكل” وشرطة الاحتلال، ساعدتا على إحداث التحول الكبير في مكانة اليهود في الحرم، حيث إن 35 ألف يهودي باتوا يقتحمونه في العام.
ومن أبرز وأخطر الجماعات الداعمة للاقتحام بشكل مستمر: أمناء جبل الهيكل، ونساء من أجل الهيكل، وحرّاس الهيكل، وعصبة الدفاع اليهودية “كاخ” والحركة من أجل بناء الهيكل.
قرار “السنهدرين” والحاخامية التقليدية
بدأت اقتحامات المتطرفين اليهود للمسجد الأقصى في عام 2003، بقرار قضائي من “السنهدرين” -هيئة قضائية عليا- تختص بالنظر في القضايا السياسية والجنائية والدينية في المناطق التي كان يعيش فيها اليهود، ليبدؤوا منذ ذلك التاريخ في تحقيق التقدم تدريجيًّا، فكانت البداية بالاقتحامات الفردية، ثم الجماعية عام 2006، وصولًا إلى تأدية صلوات تلمودية علنية في ساحات المسجد الأقصى أثناء الاقتحامات.
ويعدّ “السنهدرين” المرجعية الحاخامية لـ”منظمات المعبد”، ويقدم الدعم الكبير لأطروحات المنظمات المتطرفة المتعلقة باستهداف المسجد الأقصى ومكوناته البشرية، إلى جانب مشاركة حاخاماته في اقتحام الأقصى، وإرسال رسائل إلى قيادات الاحتلال لإقامة “المعبد”، وصولًا إلى صنع الأدوات الخاصة بالطقوس اليهودية.
كما أوجدَ بعض التغييرات التي باتت أمرًا واقعًا في المسجد الأقصى، بارتفاع وتيرة الاقتحامات ومنها تكليف شرطة الاحتلال بتأمين الحماية الكاملة للصلوات العلنية والطقوس التي يقوم بها المستوطنون في ساحات المسجد، بما في ذلك الصلوات التلمودية، بعد أن كانت تمنعهم من ذلك وتعتقل المخالفين، وذلك التزامًا بفتاوى بعض المرجعيات الدينية اليهودية التي كانت تحرّم إقامة مثل هذه الصلوات.
ومن أبرز المنجزات لحاخامات الاحتلال، دفع الحاخامية التقليدية إلى تخفيض حدّة رفضها فكرة “دخول اليهود إلى المعبد”، فقد أصبحت الأخيرة تهادن “منظمات المعبد” وتقدم خطابًا حقوقيًّا إلى حد ما، يقدم فكرة مساواة المسلمين مع اليهود بالدخول إلى المسجد، مع الإبقاء على الفتوى الرسمية، وهو ما ظهر عام 2015 عند تغيير اليافطة الحاخامية الموجودة أمام باب المغاربة المحتل، إذ تضمّن النص العبري أنه “يمنَع اليهود الذين لم يتطهّروا من دخول المكان”، مع بقاء نصها الإنجليزي على حاله بأن قانون التوراة يمنع الدخول إلى منطقة “المعبد” منعًا باتًّا.
ويعمل حاخامات الاحتلال الداعمون للاقتحامات على تجديد الفتاوى المتعلقة باقتحام الأقصى، ومن أواخر هذه الفتاوى تلك التي نشرتها “منظمات المعبد” في 9 يوليو/ تموز 2020، وتضمّنت الرسالة توقيعات لنحو 60 حاخامًا تُجيز استباحة المسجد الأقصى وتحثّ على اقتحامه.
التطبيع العربي
تعبيد الطريق
طوّرت “إسرائيل” لنفسها منذ عام 1948 نظرية أمنية، وعملت على تطبيقها، وحققت وفقها الكثير من الإنجازات العسكرية، وألحقت بالدول العربية عددًا من الهزائم أدّت في النهاية إلى تطبيع العلاقات مع عدد منها.
استمرّت العلاقة بين “إسرائيل” وبعض الدول العربية في حالة خفاء دون الإعلان عنها مع بقاء المصالح التجارية والاقتصادية، وفي الوقت ذاته تصاعدت فتاوى الحاخامات في تحقير الإنسان العربي على وجه العموم والفلسطيني خاصة.
وكما كان لهم بصمتهم في تأسيس دولة “إسرائيل” والتأثير على صنع القرار، عملوا على تعبيد طريق التطبيع بين الخليج و”إسرائيل”، لنفوذهم المتنامي لدى ملوك وأمراء الخليج، أو وجودهم القوي داخل الإدارة الأمريكية، وهو ما كان واضحًا عشية توقيع اتفاقيات “إسرائيل” والإمارات والبحرين.
وسُمّيت اتفاقية السلام التي وُقّعت في سبتمبر/ أيلول 2022 بين الإمارات والبحرين والسودان والمغرب مع “إسرائيل” بـ”اتفاقات أبراهام”، تلاها مشاريع اجتماعية كفتح مطاعم وكنس ونوادي يهودية واتفاقيات أمنية وعسكرية واستثمارات مهولة.
وما أظهر دور المؤسسة الحاخامية اليهودية في التطبيع العربي، هو نفوذها الواضح في عواصم الخليج تحديدًا، حيث إحياء الفعاليات اليهودية غير المسبوقة في هذه الدول المحافظة، كالاحتفال بعيد العرش في دبي، عدا عن افتتاح كنيس يهودي في دبي مهّد لعمليات التطبيع عام 2019 وكان في الخفاء.
فعاليات دينية وثقافية
وما يؤكد أن التطبيع اتخذ بين الطرفَين منحى دينيًّا، تأسيس منظمة يهودية جديدة في دول الخليج الستة تديرها وزارة الخارجية الإسرائيلية ورابطة المجتمعات اليهودية الخليجية، تضمّ المنظمة كلًّا من الإمارات والبحرين وعُمان والسعودية وقطر والكويت، بهدف تقديم الخدمات الدينية لليهود الذين يأتون إلى البلدان المعنية في الخليج، سواء للاستقرار أو السياحة.
في هذا السياق، افتتحت اللجنة اليهودية الأمريكية مكتبًا في أبوظبي، كما أعلنت البحرين حينها عودة الصلاة والتراتيل للكنيس اليهودي في قلب العاصمة المنامة لأول مرة منذ عام 1947.
وتأكيدًا على دور الحاخامات في رحلة التطبيع مع دول الخليج، ما ذكره إيهود يعاري (مستشرق إسرائيلي) حين قال إن “نجاح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في انتزاع الضوء الأخضر من السعوديين للترويج للتطبيع مع “إسرائيل”، يجب ألّا يغيّب الدور الكبير الذي لعبه الحاخامان اليهوديان مارفين هاير وآبي كوبر في تحقُّق التطبيع مع دول الخليج، خاصة البحرين والإمارات”.
وأضاف يعاري في مقال ترجمه موقع “عربي 21”، ونُشر في 13 سبتمبر/ أيلول 2020، بعنوان “هذا هو دور الحاخامات بالتطبيع مع دول الخليج”، أن “الاتصالات البحرينية الإسرائيلية شبه السرّية استمرت لفترة طويلة، لكن الإشارات التي جاءت من المنامة كانت مثيرة للاهتمام، فقد لعب الحاخامان مارفين هاير وآبي كوبر دورًا رئيسيًّا في هذا التطبيع البحريني الإسرائيلي، وقد قاما ببناء متحف كبير للتسامح في القدس في السنوات الأخيرة”.
وأشار إلى أنه “في فبراير/ شباط 2017، دُعي الاثنان إلى قصر الملك حمد في المنامة، أمسك الحاخام بيد الملك، وهو ما لم يكن وفقًا للبروتوكول، ووجّه التحية إليه باللغة العبرية، وبعد الاجتماع أخبر الملك مستشاريه أن هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها أي شخص لاستقباله، ولا يطلب منه شيئًا، في ذلك الاجتماع أصبح من الواضح أن الحاخام والملك سيعملان لصالح “إسرائيل””.
في قلب العالم العربي
تشير تقديرات إسرائيلية إلى أن هذا الدور الحاخامي سيجعل الوجود اليهودي في دول الخليج مطّردًا، بحيث يفتتحون حسابات على وسائل التواصل، ويعطون مقابلات عن الحياة اليهودية، ويطلقون على أنفسهم تسميات “الجالية اليهودية”.
وكما الامارات والبحرين، كان للحاخامات دور في التطبيع الحاصل في السودان الذي أُعلن عنه في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، لكن سبقه في بداية العام، وتحديدًا في 6 فبراير/ شباط 2020، ملتقى ديني عُقد بفندق كورينثيا في الخرطوم، بمشاركة رجال دين يهود (حاخامات) من بعض بلدان العالم، وأثار حالة من الجدل داخل الشارع السوداني، الذي عدَّ مثل هذه الملتقيات محاولة لتمرير التطبيع الشعبي وفرض الأمر الواقع.
وتزامن الملتقى آنذاك مع موجات الشد والجذب التي عانى منها الشارع السوداني بسبب التطبيع مع “إسرائيل”، وأثار الشكوك بشأن دوافعه الحقيقية، وما إذا كان خطوة نحو التطبيع أم مجرد فعالية دينية، بعدما أعلنت “إسرائيل” والسودان رغبتهما في تطبيع العلاقات بينهما.
أما الوضع في المملكة المغربية يختلف عن الدول الأخيرة المطبّعة بتأثير الحاخامات، فهي تضمّ أكبر جالية يهودية في شمال أفريقيا، ويعيش اليهود فيها منذ العصور القديمة، وقد ازداد عددهم على مرّ العصورـ خصوصًا مع وصول اليهود الذين طردهم الملكان الكاثوليكيان من إسبانيا ابتداءً من عام 1492.
وبلغ عدد أبناء الجالية نحو 250 ألف نسمة في أواخر الأربعينيات، وهو ما يعادل حوالى 10% من السكان، وغادر كثير من اليهود بعد قيام دولة “إسرائيل” عام 1948، ولم يبقَ منهم سوى 3 آلاف في المغرب، ويعدّ المجتمع اليهودي في الدار البيضاء من أكثر المجتمعات اليهودية نشاطًا.
وأقامت الجالية اليهودية في الدار البيضاء احتفالًا في الفضاء الافتراضي، جمع يهودًا من أصل مغربي في مختلف أنحاء العالم للاحتفال بعيد حانوكا التقليدي، وبتطبيع العلاقات بين المغرب و”إسرائيل” الذي وصفوه بأنه “معجزة” عيد الأنوار لديهم، وتمَّ التوقيع عليه في ديسمبر/ كانون الأول 2020.
وما يبدو جليًّا في عمليات التطبيع الأخيرة أن رجالات الدين اليهود لعبوا دورًا كبيرًا في إنجاحها، حتى قبل التوقيع عليها، عبر سلسلة من الفعاليات الدينية.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أن مشوار التطبيع العربي بدأ مع “إسرائيل” نهاية سبعينيات القرن الماضي، لكنه ظلَّ فاترًا حتى عام 2020، وفيه التحقت 4 دول بقطار التطبيع، وصل بعضها إلى حدّ التحالف.
وفي حين ظل التطبيع المصري والأردني في أضيق الحدود تهيمن عليه قضايا اقتصادية وأمنية تفرضها الجغرافيا غالبًا، وصل حدّ التحالف بين الإمارات و”إسرائيل”.
لم ينتهِ دور الحاخامات هنا، فهناك الكثير من الخبايا المتعلقة بهم في تحريك مراكز ودوائر الحكم في “إسرائيل”، ورغم مرور عقود كثيرة لا يزال حاخامات الصهيونية يحظون بحاضنة سياسية واقتصادية واجتماعية، ويمتلكون النَّفَس الطويل والأذرع المتغلغلة في مفاصل الحياة والسلطة في “إسرائيل” لتحقيق المزيد من المكاسب، ويواصلون اختراق الكنيست لتشريع القوانين التي ترسّخ من نظام الفصل العنصري لخنق الفلسطينيين، وسرقة ما تبقّى من أرضهم، بما يجعل حياتهم غير ممكنة.
فريق العمل:
بحث وإعداد: مها شهوان
توجيه وتحرير: أحمد حذيفة
تنسيق وتنضيد: أحمد الصيصي
تدقيق لغوي: فراس المعصراني
تصميم جرافيكي: عبد الرحيم سويد