لا يتوقع أي مراقب لأوضاع السودان أن تصل الأمور فيه إلى أن تمنح المفوضية القومية لحقوق الإنسان (حكومية)، جائزة حقوق الإنسان لهذا العام لنائب رئيس الحكم العسكري محمد حمدان حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع المتهمة على نطاق واسع بارتكاب انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي آثار عاصفة من الاستهجان والسخرية على الشخصية المكرَّمة في مواقع التواصل الاجتماعي.
حتى لو كانت مزحة، يقولُ مراقبون؛ إنها سمجة وثقيلة، فكيف إن كان التكريم قد وقع فعلًا!
أسُس واهية
تقول المفوضية إنها اختارت حميدتي شخصية حقوق الإنسان للعام 2022، تقديرًا لدوره في الاتفاق السياسي وتعهُّده الشخصي بحماية الانتقال الديمقراطي واعتذاره عن عنف الدولة، بجانب دوره في منع الإفلات من العقاب، وإسهامه في فضّ النزاعات في عدد من أقاليم السودان وإعادة الاستقرار إليها.
هذه التبريرات مردودة على المفوضية، فالرجل متهم في إزكاء العنف الأهلي الذي أودى بحياة 829 شخصًا وتشريد 165 ألفًا آخرين هذا العام فقط، وهذه الإحصائية الصادرة عن الأمم المتحدة لا تشمل الضحايا في النزاعات فترة نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول في دارفور وكردفان.
أحدث تلك الاتهامات التي وُجّهت صراحة إلى قواته بالضلوع في الصراع القَبَلي كانت في لقاوة بغرب كردفان، وقبلها اُتّهمت بالتورُّط في أعمال العنف بكرنيك التابعة لولاية غرب دارفور، وفي الواقع لم يسهم حميدتي في فضّ النزاعات إنما يحاول فرض الصلح بالقوة بين المتنازعين ومن يرفض يُعتقل، وهذا الصلح الذي يُبرم بين الأطراف المتقاتلة يؤسّس للإفلات من العقاب، لأنه عادة ما يتوافق المتصالحين على دفع تعويض مالي لأسر الضحايا دون أن تقوم الدولة بواجباتها في معاقبة الجناة، لأن الرجل الثاني في الحكم العسكري يعقد الصلح.
قال ليك المفوضية القومية لحقوق الإنسان تكرم محمد حمدان (حميدتي) بجائزة حقوق الإنسان للعام ٢٠٢٢ !
مع العلم انه المفوضية زاتها تتبع لحكومة السودان اكتر حكومة منتهكة لحقوق الإنسان!
لا تخرج قبل ان تقول سبحان الله ?
— ℳ?ℋ ???ℰℛ || محمد تاجر (@mo7_tajer) December 11, 2022
بالنسبة إلى دوره في توقيع الاتفاق المبدئي الخاص بنقل السلطة إلى المدنيين، فإن حميدتي وافق على مشروع الدستور الانتقالي الذي أعدّته تسييرية نقابة المحامين لمخاوفه من تفرُّد غريمه الذي قاد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، الجنرال عبد الفتاح البرهان، بالسلطة، بعد تأييده لمبادرة رجل الدين الطيب الجعلي التي عقدت مؤتمرًا لمنح الجيش الوصاية على البلاد.
وفيما يتعلق بتعهُّده بحماية الانتقال والاعتذار عن عنف الدولة، فقد قمعت قوى الأمن والشرطة احتجاجات بطريقة عنيفة أدّت إلى إصابة 43 متظاهرًا، بعد ساعات من توقيع الاتفاق المبدئي في 5 ديسمبر/ كانون الأول الذي تحدث حميدتي في مراسم توقيعه عن الاعتذار عن عنف الدولة، ولا يزال العنف مستمرًّا.
وقُوبل هذا الاتفاق برفض واسع من الحركة الاحتجاجية، لتصالحه بداية مع قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، إضافة إلى عدم تضمينه قضايا العدالة لضحايا عنف الدولة، حيث جرى إرجاء هذا البند ضمن بنود أخرى تشمل إصلاح قطاع الأمن والدفاع إلى الاتفاق النهائي.
حميدتي شخصية العام 2022 لحقوق الإنسان
….
هذا زمانك يا مهازل فامرحي
قد عُد كلبُ الصيدِ في الفرسان
— جعفر خضر (@gafar_khidir) December 11, 2022
لا يكتفي حميدتي ومن خلفه فِرَق عمل عديدة بانتهاز الفرص لتحسين صورته، بل ظل يستميل الإدارات الأهلية -السلطة المحلية القَبَلية-، ويعمل على التغيير الديموغرافي في دارفور، من أجل حشد أكبر قدر من المؤيدين له في حال قرر خوض الانتخابات، خاصة أن بنود الاتفاق المبدئي لا تمنع مسؤولي فترة الانتقال من الترشح.
لذا، يعمل حميدتي بشتى الطرق على التخلُّص من التركة الثقيلة المتعلقة بانتهاكات قواته، عبر إظهار نفسه على أنه يعمل من أجل صالح السودانيين عبر عشرات المبادرات التي ضمّنها التكفل بإعاشة تلاميذ وتوزيع أجهزة بثّ لقنوات “بي إن سبورت” على الأندية الرياضية والاجتماعية في السودان، ليتمكّن الشباب من مشاهدة كأس العالم مجانًا، ومع ذلك يجد المزيد من السخرية.
هو ما عندو مشكلة مع حقوق الانسان
حميدتي مشكلته مع الانسان ذاتو
يعني لو خلاك عايش انت بتجاسف حقوقك براك
و ع الاساس ده هو اختاروه
ما عندو مشكلة مع حقوقك مشكلته معاك انت ذاااتك ??
— SULIMAN (@SulimanaAbdalg1) December 11, 2022
يصف الروائي والكاتب حمور زيادة تكريم المفوضية القومية لحقوق الإنسان لحميدتي، ومنحه لقب شخصية العام 2022 لحقوق الإنسان، بأنه إهانة بالغة لحقوق الإنسان وللضحايا، بل للإنسان، كما اعتبره دليلًا إضافيًّا “على تفاهة هذه الجهات الحكومية ولو تولّاها حقوقي صاحب خبرة مهنية”، ويقول شاب مغردًا في سخرية بالغة: “ليس لحميدتي مشكلة مع حقوق الإنسان، بل مع الإنسان ذاته”.
مخالفة صريحة لأوامر الشعب
يُعد اختيار حميدتي شخصية هذا العام على النقيض تمامًا من مطالب منظمي الاحتجاجات الخاصة بمحاسبة الرجل على الانتهاكات التي ارتكبتها قواته وحلّها.
وإذا نصَّ الاتفاق المبدئي المسمّى بـ”الاتفاق السياسي الإطاري” على دمج قوات الدعم السريع في الجيش، فإن مطالب المحتجين هي حلّها، ويتجسّد ذلك في هتافهم الذي يرددونه دائمًا: “الثورة ثورة شعب، والسلطة سلطة شعب، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل”، والجنجويد هو الاسم الشعبي لقوات الدعم السريع.
وتعود رغبة الثائرين في حل الجنجويد، -على الأرجح- إلى الطريقة الفظيعة التي جرى فيها فضّ الاعتصام حول مقرّ قيادة الجيش في 3 حزيران/ يونيو 2019، حيث كان المعتصمون يتهيَّأون لأداء صلاة عيد الفطر في مقرّ الاعتصام، قبل أن تفاجئهم تشكيلات عسكرية من بينها قوات الدعم السريع لتفضَّ تجمعهم السلمي، ما قاد إلى مقتل 382 شخصًا وفقًا للنيابة العامة.
هذا الفض العنيف لا يزال يخلّف آسى في قلوب السودانيين، نظرًا إلى الغدر بعد تعهُّدات قادة المجلس العسكري آنذاك بحماية الاعتصام وعدم تفريقه، ورغم مرور سنوات على هذه الجرائم ضد الإنسانية التي اُرتكبت داخل حرم الجيش، إلا أن منفذيها ومدبّريها طليقو السراح، في أسوأ إفلات من العقاب يعرفه العالم كله عدا المفوضية القومية لحقوق الإنسان.
كرّس حميدتي وقته، بعد عزل الرئيس عمر البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019، في جمع الحلفاء والمال، وإن كان فشل في الأولى فقد نجح في الثانية بامتياز.
تملك شبكة الأعمال التابعة له ما يقارب الـ 28.35% من بنك الخليج، الذي لديه علاقات مصرفية مع بنوك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى، إضافة إلى أخرى من بينها تريدف للتجارة العامة وجي إس بي أدفانس والجنيد، وفقًا لمركز دراسات الدفاع المتقدمة، الذي يقول إن قوات الدعم السريع تطورت لتصبح قوة حقيقية تمارس نفوذًا سياسيًّا واقتصاديًّا خارج صلاحيات الدولة.
يبدو أنه من غير المعقول أن تسمّي مفوضية -وإن كانت حكومية- شخصًا تاريخه حافل بالانتهاكات، شخصية حقوق الإنسان للعام 2022، إلا إذا جاء هذا الفعل تحت بند التهديد أو الترغيب.