بقلوب تخفق خفقانًا سياسيًّا محضًا مع الراية المغربية ذات النجمة الخضراء، وفي انتظار مرور عبقري إلى المقابلة الختامية على حساب فريق المحتل القديم، نلتفت أحيانًا إلى جماعة من عندنا تنشغل بالدعاية لانتخابات برلمانية تجرى ضمن أجندة الانقلاب، فلا نرى أحدًا ولا نسمع صوتًا ولا نتعرّف إلى وجه محترم له تاريخ سياسي، لقد شغلَنا الانتصارُ الكروي غير المسبوق حتى عن تدبُّر قوتنا العسير.
لقد عادت أزمة السكّر والحليب وأمكن “تسليك” مشكلة الخبز لأسبوع آخر، فمن سيهتم يا ترى بانتخابات لا يعرَف من ترشّح لها إلا في دوائر أسرية وعشائرية ضيقة، وقد أعلنت دائرة باريس (الهجرة) عدم فتح مكاتب اقتراع لعدم وجود متقدمين للاستحقاق الانتخابي.
لدينا حتى اللحظة وقت كافٍ للتمتُّع باللعبة، سيكون لنا بعد يوم الأحد وقت أطول للفرجة الساخرة على برلمان تونسي جديد، في بلاد افتخرت ذات يوم بأنها أسّست البرلمانات في بلاد العرب.
اليسار يتقدّم لبرلمان الخوصصة
التقطنا أسماء مترشحين من أقصى اليسار ومن القوميين من غير الصف الأول من هذه الحزيبات الميكروسكوبية، في خطة تضحية بالصف الثاني لحفظ ماء وجه القيادات، إلى جانب أسماء أخرى أصغر من أن تذكر في مقال بجريدة محلية، بما يعطي ملمحًا أولًا لبرلمان الانقلاب، ستكون الهيمنة فيه لكتلتَين.
كتلة النواب الحزبيين من اليسار ومن القوميين رغم ترشحهم بأسماء غير حزبية إلا أن تكتلهم وارد، تجاورها كتلة محتملة من المغامرين في المجال السياسي بخلفيات جهوية وعشائرية، وفيهم جماعة من المهرّبين والتجّار ممّن يظن أن لهذا البرلمان حصانة قد تعطي فرصة إثراء، ولا نراه إلا جاهلًا بفحوى دستور الانقلاب الذي ضيّق صلاحيات البرلمان ووضعه تحت سلطة مطلقة للرئيس.
سنشهد اليسار التونسي الذي عاش دومًا من بيع وهم الدفاع عن الفقراء، يبيع المؤسسات العمومية التي موّلت تعليم الفقراء وصحّتهم.
وبالنظر إلى ما تنوي الحكومة الحالية ووريثتها (التي لا شكّ ستعيَّن بعد الانتخابات) من استكمال برنامج الخوصصة والتفويت في آخر ما تبقّى من المؤسسات العمومية ذات المردود المادي، نتوقع ما يلي:
أن تتهرّب كتلة النواب التجار (هذا إذا تكتلت) من كل مواجهة مع الرئيس وأجندته وأجندة حكومته الخاضعة بعد لشروط المقرض الدولي، وتبعًا لذلك ستقع مسؤولية المصادقة على كل قرارات التفويت (وهي أولوية الحكومة) على كاهل الكتلة المسيّسة داخل برلمان الانقلاب، أي كتلة اليسار والقوميين.
فضلًا عن المصادقة على كل الأوامر الرئاسية التي سبق إصدارها والعمل بها، في انتظار تكوين برلمان يحوّلها إلى قوانين من قوانين الدولة، كما كان يجري به العمل في برلمانات سابقة بما فيها منشور الحد من الحريات؛ سنشهد اليسار التونسي الذي عاش دومًا من بيع وهم الدفاع عن الفقراء، يبيع المؤسسات العمومية التي موّلت تعليم الفقراء وصحّتهم، لكن ماذا سيقبض اليسار والقوميون مقابل تنفيذ أجندة الرئيس وحكوماته؟
الخوصصة مقابل الاستئصال
منطقة التفاوض بين اليسار البرلماني والرئيس ستكون في تنفيذ أجندة الاستئصال. نعلم أن اليسار والقوميين كانوا وراء الانقلاب قبل حدوثه، وهم سنده الباقي بعد أن انفضَّ عنه كل الطيف السياسي الديمقراطي.
لكن الانقلاب لم يمضِ في عملية استئصال حزب النهضة ومسانديه، خاصة ائتلاف الكرامة، وظلَّ يناور ويتحمل وزر المطاردات المحدودة ضد رموز النهضة والائتلاف وأصوات أخرى حرة (البعض يقول إن تردده ناتج عن خطوط حمراء خارجية، والبعض فسّر التردد بأن الأجهزة الصلبة ليست قادرة على مواجهة حرب شبيهة بحرب بن علي على الإسلاميين)، لكن النتيجة كانت أن أجندة اليسار الاستئصالي لم تنفَّذ حتى الآن.
لكن إذا ملك هذا اليسار وشقّه القومي ورقة ضغط في البرلمان، فإنه سيفاوض من جديد، فمقابل المصادقة على كل قانون سيطلب ثمنًا استئصاليًّا، وهكذا سيتم الذبح بروية، ويمكننا الكتابة بشكل ساخر: رأس الغنوشي مثلًا مقابل التفويت في الناقلة الجوية، أو حلّ حزب النهضة مقابل خصخصة الفوسفات، ورؤوس الصف الثاني مقابل مؤسسات أقل قيمة في السوق.
ستبدو هذه الفكرة متطرفة لكثيرين، وهي كذلك حتى اللحظة، لكن سوابق التاريخ تقدم لنا أدلة ترجّح الذهاب في هذا الاتجاه، فطيلة 50 سنة مضت لم يضع اليسار أي برنامج سياسي سوى استئصال عدوه الإسلامي.
في كل التغيرات التي حدثت، بما في ذلك حدث الثورة، لم نرَ ولم نسمع من اليسار غير ذلك، فما الداعي ليتغير برنامجه وقد أُتيحت له فرصة ربما أخيرة ليمسك بورقة ضغط ممتازة على رئيس فاشل، ويحتاج البقاء في مكانه وزيادة فترة رئاسة ثانية يبدو أنه لا ينوي التنازل عنها.
في انتظار نتائج زيارة الرئيس للولايات المتحدة
الصور القليلة الواردة من الولايات المتحدة كشفت أن الرئيس لم يحظَ بأي استقبال رسمي، ولم نسمع بأي لقاء مع قيادات الصف الأول، والتبرير أن الزيارة لا تتمّ للولايات المتحدة، وإنما للمشاركة في قمة على الأرض الأمريكية، وهذا منطقي.
لكن بالنظر إلى ما يبلغنا من اهتمام الولايات المتحدة بحالة المغرب العربي عامة وحالة تونس (وليبيا) خاصة، فإن الاستقبال كان باردًا (للضرورة الأمنية فقط)، ويكشف عدم اهتمام بشخص الرئيس.
ونرى أن الحديث مع الرئيس سيكون فقط حديثًا أمنيًّا (الهجرة السرّية والإرهاب)، وهذا تكفّل به وفد عسكري زار تونس والجزائر قبل أيام قليلة ولم يتسرّب عنه أي حديث يمكن تأويله، سوى أن المخاطب الأول هو الجيش التونسي وليس الرئيس.
ربّ انتصار رمزي يحفّز نفوسًا تحترق شوقًا إلى الحرية ولو عبر كرة القدم.
هل يمكن للرئيس أن يدافع داخليًّا عن برلمانه القادم طبقًا لمحددات القانون الانتخابي الذي وضعه بنفسه؟ هل يمكنه الدفاع خارجيًّا عن توجُّهه نحو الصين، وهو أمر لا يرحّب به الأمريكيون في هذه المرحلة.
نتذكر أن الطرف الأمريكي أولًا والفرنسي ثانيًّا قد وافقا على أجندة الرئيس منذ طرحها في نهاية العام 2021، ولا نرى نواياهما تتجه إلى عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، وسيتعاملان معها كشأن داخلي (لو كانا ينويان ذلك لرفضا برنامج الرئيس منذ الانقلاب).
إذا كان الأمريكيون يرحّبون بتحول ليبرالي في تونس (ومن أجل ذلك تركوا له الحبل على الغارب)، فهل يقبلون بسهولة تحويل البلد إلى مقاطعة صينية أو روسية؟ قد لا يكونون مهتمين بحجم تونس الاقتصادي، لكن موقعها الاستراتيجي في أجندتهم للهيمنة على المتوسط وأفريقيا (وقطع الطريق على التقدم الصيني والروسي) ليست خافية، لذلك نتساءل عمّا يمكن أن يبرر به الرئيس خطوته الشرقية وهو على الأرض الأمريكية، ونقرأ في عدم الاهتمام به، ولو بروتوكوليًّا، غضبهم من هذه الخطوة، لكن ما بدائلهم هنا والآن والرجل يتقدم في تنفيذ أجندته؟
إننا لا نرى أمره يعجزهم، لكننا لا نراهم يتجاوزون معه الوسائل السياسية (كأن يتدخلوا عسكريًّا للإطاحة به وأسمعهم يتداولون أن القُبّرة لا تستحق بندقية بل فخًّا يكفيها)، وهو أقل أهمية من مانويل نوريغا البنمي الذي عبث على حدودهم فعوقب عقاب مهرّب مخدرات، والفخّ في ما نرى أن يفسحوا له أكثر في تعفين الوضع الداخلي، فيواصلون محاصرته ماليًّا ويتركون اليسار يجرّه إلى حرب داخلية للتعفين لا للاستئصال التام (وهكذا تسقط نتيجة الانتخابات قبل حدوثها).
إني أسمع قائلهم يقول الثمرة لم تتعفّن بعد، لتسقط من تلقاء نفسها لندع الطبيعة تفعل فعلها، ولا بأس من بعض الأرواح تموت في اشتباك أمام مخبز، فكلما نزل الناس إلى الغريزة سهل قيادهم.
لنوغل في التجاهل والحلم بانتصار رمزي على المحتل القديم الذي لم ينفك يعبث بمصائرنا، فلولا فرنسا ما اندحرت ثورة تونس. ربّ انتصار رمزي يحفّز نفوسًا تحترق شوقًا إلى الحرية ولو عبر كرة القدم.