تعود الاحتجاجات في محافظة السويداء إلى الصدارة، إذ شهدت الأيام الماضية احتجاجات قوية على تردّي الأوضاع الاقتصادية وسوء الأحوال المعيشية التي تعاني منها المحافظة، وشهدت شعارات مناهضة لنظام الأسد، لكنها قوبلت هذه المظاهرات بالرصاص من قبل عناصر النظام حيث قُتل شخص وجُرح آخرون.
كما العادة، فإن الاحتجاجات التي تحصل في المحافظة ذات الغالبية الدرزية تؤرق النظام السوري، ما يجعله يقدم تارةً على المفاوضات مع أهلها وتارةً على التعامل بطريقة أمنية مع ما يحصل، وهو الخيار الذي اتخذه تجاه جميع المحافظات طوال السنوات الماضية، يضاف إلى ذلك عمل النظام المستمر على الوتر الطائفي في البلاد ككُلّ وفي السويداء بالخصوص.
حالة الاحتقان في محافظة السويداء بدأت عام 2018 إبّان هجوم تنظيم “داعش” على المنطقة، حيث راح ضحية الهجوم أكثر من 260 قتيلًا، واتهم النشطاء السوريون ونشطاء من السويداء النظام السوري بتسهيل وصول التنظيم إلى السويداء، وبلغت حالة الاحتقان ذروتها هذا العام حيث باتت المظاهر الاحتجاجية دورية في المحافظة.
“ليست ثورة جياع”
يرى بعض السوريين أن أهل السويداء تأخروا كثيرًا عن ركب الثورة السورية، وأن احتجاجاتهم الحالية ما هي إلا مظاهرات في إطار ثورة الجياع التي تختلف عن ثورة الكرامة التي بدأتها مدينة درعا في مارس/ آذار من عام 2011، لكن ليث البلعوس، رفض في حوار صحفي هذه “التهمة”، وقال: “يوجد من يتهم أهل الجبل بأن ثورتهم ثورة جياع، فأقول له: غير صحيح، فمنذ عام 2012 تطوع مع الشيخ الوالد وحيد البلعوس 3000 مسلح جميعهم مع الثورة ضد بشار الأسد، فالثورة ثورة سياسية تبدأ بمطالب الناس ومطالب اقتصادية تنتهي بمطالب سياسية”.
وأشار البلعوس أحد مؤسسي ما يعرف بقوات شيخ الكرامة الذي يعد من أكبر المناهضين لنظام الأسد وميليشياته في السويداء، إلى أن “النظام السوري اليوم خالي الوفاض من المطالب السياسية والاقتصادية، ولا يملك لا اقتصادًا يقدمه ولا حلًّا سياسيًّا، وبالطبع سوف يرد على انتفاضة أهالي السويداء بالحديد والنار، ففاقد الشيء لا يعطيه”.
وفي هذا السياق يقول الصحفي السوري والخبير بشؤون الجنوب السوري، نورس عزيز: “رغم قلة الأعداد التي تواجدت في الاحتجاجات الأخيرة، إلا أن هذا يمثل إنذارًا لعودتها بقوة في المحافظة، سيتطور الحراك في السويداء ضد النظام ولكن بشكل بطيء”، ويشير عزيز المنحدر من محافظة السويداء خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن “هذا الحراك ليس بمعزل عن سياق أي تحرك حصل في سوريا سابقًا”.
ويشير الصحفي السوري إلى أن “هذا الحراك يوجد منه جزء معيشي ويوجد جزء سياسي، من خلال هتافات الثورة الأولى التي تنادي بالوحدة الوطنية وإسقاط النظام، وأن سوريا لينا وما هي لبيت الأسد”، ويرى عزيز أن “الحالة الاحتجاجية في السويداء لم تتوقف منذ عام 2011، لكنها برزت لوحدها عندما توقفت بقية المناطق السورية عن الخروج، بعد عام 2015 كان يوجد حراك “خنقتونا”، ومن بعد أتى حراك “حطمتونا”، ومن ثم جاءت احتجاجات “بدنا نعيش” التي أسّست لشكل جديد في السويداء”.
تهديدات بالطائفية
بعد أن هاجم المحتجون مبنى محافظة السويداء وأحرقوه ومزّقوا صور بشار الأسد وأبيه حافظ الأسد، مردّدين هتافات تطالب بإسقاط النظام في ظل ارتفاع الأسعار والصعوبات الاقتصادية التي يواجهونها، هدد نظام الأسد بالرد بعنف وقسوة على المظاهرات، وأوصل رسائل ذات صبغة طائفية إلى أهالي المحافظة.
ليث البلعوس أشار إلى ذلك في لقاء صحفي، وقال إن “موقف النظام موقف طائفي، الجماعة تعمل بشكل طائفي، هددنا بشكل علني وصريح بسبب الانتفاضة القائمة في السويداء، قائلًا: “فعسنا بقلب 20 مليون سنّي ومش عاجزين عنكن يا دروز””، ويرى البلعوس أن “الآتي قاتم حسب الواقع الذي نراه على أرض الواقع، ولمن يقرأ ما بين السطور فالوضع بالجبل لا يحمد عقباه، لأن النظام السوري لا يملك أي حل اقتصادي أو سياسي، فهو يريد جرّ المنطقة إلى الصدام المسلح”.
وتحدّث البلعوس عن المقطع المسرّب لمحافظ السويداء في لقاء مع الأهالي، حيث شتم المحافظ خلال الاجتماع الذات الإلهية ما أثار الغضب في المدينة، وقال البلعوس: “لا يملك النظام السوري إلا دبابة وطيارة، أما تهديد المحافظ لأهالي السويداء ضمن اجتماع داخل مبنى المحافظة، فينمّ عن خلفية النظام ورجالاته الطائفية، لا يحترمون لا الدين ولا العرق ولا الطائفة ولا المجتمع المدني ولا الله تعالى، ولسان حالهم يقول: “قتلنا 20 مليون سنّي، ومصيركم يا دروز لن يكون أفضل حالًا من مصيرهم.. وين المشكلة؟””.
لهجة التهديد الطائفية هذه ضدّ المدينة ليست حديثة عهد، إنما ترجع لأيام نكسة حزيران عام 1967 حينما خسر الجيش السوري حربه مع “إسرائيل”، وأكال الاتهامات على دروز السويداء بإعطاء إحداثيات مواقع الجيش السوري لجيش الاحتلال الإسرائيلي من أجل قصفها، وكانت تلك سياسة ممنهجة من قبل حافظ الأسد حينما كان وزيرًا للدفاع آنذاك، والكلام هنا للصحفي نورس عزيز.
يتكلم عزيز عن النظام بأنه “تكلم عن المناطق السنّية التي خرجت ضده بأنها أماكن لتواجد الجماعات المتطرفة والمتشددة، ولما وصل إلى السويداء لا يستطيع النظام أن يصفها بالتشدد أو الصفات التي أطلقها على بقية السوريين سابقًا”، مشيرًا إلى أن النظام “عمل على تفصيل لباس جاهز لأهل السويداء بأنهم عملاء لـ”إسرائيل”، ودعا النظام بعض النشطاء من مناطق الساحل السوري للتكلم بهذا الكلام لتشويه هذا الحراك أمام السوريين”.
توجّهنا إلى الباحث السوري مضر الدبس، المهتم بقضايا المواطنة، للحديث أكثر عن كيف يلعب النظام على الوتر الطائفي لتشويه ثورة السويداء واغتيالها معنويًّا أمام جمهوره وجمهورها، حيث يجيب الدبس بقوله: “انتهت هذه اللعبة الطائفية واحترقت هذه الورقة من دون مجاز. انتهت مع نضج شعار “بدنا نعيش”. قد يبدو هذا الشعار إذا ما فهمناه وحلّلناه استمرارًا لشعار “الشعب السوري واحد”، أو “بدنا نعيش” هو الترجمة الملائمة لـ”الشعب السوري واحد” في هذا الزمان”.
محاولات فاشلة
يكمل الدبس بجواب يشير إلى حديث وطني كادت تخلو منه البلاد: “المهم فيه ليس الفعل العامي “بدنا” الذي يحيل على الإرادة، ولا “نعيش” رغم ما تحمل هذه الكلمة من دلالات عظيمة. لكن المهم في هذا السياق هو الـ”نا” التي تحيل على الـ”نحن” أو على إجابةٍ أكثر نضجًا نحتها الألم عن سؤال “من نحن؟” من هو الدرزي؟ الألم نحت جوابًا بيّنًا: هو لا شيء من دون سوريا، وهو ما شاء لنفسه أن يكون فيها ومعها”.
يرى الباحث الدبس أن “كل محاولات اللعب على الوتر الطائفي أخفقت بما تعني الكلمة من معنى. هذه هي الصورة التي يمكن للمرء رؤيتها اليوم، إلا إذا أخفقت السياسة السورية الوطنية في التقاط هذا الجديد الكامن في فهم السوري العادي بالعموم، واستمرت هي الأخرى بخصخصة هذا الوطن عن طريق توزيع حصص للدول والجماعات الأيديولوجية، في الوقت الذي يرسل السوري العادي رسائل كثيرة بأنه يريد تأميم سوريا، تأميم السياسة في سوريا، وأن تعود ملكًا له من جديد”.
وبمفهوم الدبس، فإن مظاهرات السويداء “تأتي في سياق تأميم سوريا، ومظاهرات الشمال بعد تصريحات بإمكان تقارب تركيا مع النظام السوري وبعد “لا تهمنا هزيمة الأسد”، تُفهم أيضًا في هذا السياق. من يريد تأميم السياسة يريد العمومي، ولن يكون طائفيًّا وليس بعد اليوم معرّضًا ليستميله خطاب طائفي أيًّا كان مصدره”.
وأما الحديث عن جمهور النظام الذي بات يشير إلى الطائفية فيما يحصل بمظاهرات السويداء، يشير الدبس إلى أنه “كما لم يعد ملائمًا أن نقول إنه موالٍ، أيضًا لم يعد ملائمًا أن نقول إن له دينًا، أو طائفة، يحدّد بموجبها هويته، أو تنتج له تفكيرًا هوويًّا من نوع ما، فقد صار هذا ثانويًّا أيضًا أمام الورطة. لم يبقَ له إلا لملمة ورطته، وفي أحسن الحالات الاعتذار لإنسانيته والبكاء بندمٍ وحسرة على قبر ابنه الذي رحل فداءً لإجرام الأسد، لم يبقَ في ذهنه مكانًا للطائفية ولا لغيرها، بل علّه في أحسن حالاته يسأل فحسب: إلى متى؟”.
وللغوص في فلسفة تحرك السويداء المستمر خلال العامَين الماضيَين، يقول الباحث السوري إنه من “المهم في سياق البحث عن جديدٍ ما في ما يحدث في السويداء هذه الأيام، الجديد الذي قد يكون بدأ منذ أن اهتدى الشارع إلى “بدنا نعيش” حتى اليوم، هو مآلات مقولة الخصوصية في فهم ابن السويداء لذاته”.
مضيفًا: “كانت هذه الكلمة خزانًا للميول المؤيدة للنظام، لم يتأخر النظام أو يتكاسل في إعادة ملء هذا الخزان باستمرار بنوع من العلف الأيديولوجي الذي يتقن تصنيعه بعناية، مستندًا إلى إتقان فهمه مجتمع السويداء أكثر من المعارضة بمليون مرة، وإلى إتقان هدفه النهائي ومعرفة طريقة تحقيق هذا الهدف، أي أن تكون السويداء رافدًا من روافد المقاتلين، وورقة تؤكد “إسلامية الثورة”، وهي الصفة التي تحوّلها أدوات النظام التسويقية إلى رجعية الثورة وسلفيتها، مقابل علمانية النظام وتقدميته واحتضانه الأقليات المستضعفة”.
أخيرًا، يقول مضر الدبس، وهو ابن السويداء، إنه “صار لصفة الموالي اليوم قيمة ضئيلة بالنظر إلى أنه ذاك الذي دفع فلذات كبده إلى الموت في غفلة من كل معنى، وفي زمن “اللا تفكير”، وغياب التفكير لا شيء سوى غياب الوعي ومن ثم غياب الضمير؛ فالوعي والضمير متطابقان لدرجة أن لغات كثيرة لا تزال تستخدم المفردة نفسها للدلالة عليهما معًا. موت كلمة الموالي هو الجديد، وعليه يحاول شباب السويداء أن يصنع فرصة جديدة”.
ليس جديدًا
وليس بعيدًا عن الطائفية، خرجت وزارة الدفاع التابعة للنظام السوري ببيان تتهم فيه محتجّي السويداء بأنهم “خارجون عن القانون ومخربون وتوعدت بملاحقتهم”، كما جنّد النظام إعلامه والوسائل الرديفة للتركيز على روايته، وذلك في إطار إضفاء صفة سلبية على الاحتجاجات التي بالأصل تتحدث عن وجع كل السوريين ومنهم المؤيدين، من قبيل إنكار الوضع المعيشي السيّئ، لذلك ما كان بيد النظام إلا اللعب على الوتر الطائفي أو التهم الباطلة.
يذكَر أن روسيا التي ثبّتت أركان النظام بعد تدخلها العسكري في سوريا، هددت أهل السويداء في احتجاجات فبراير/ شباط الماضي بفزاعة الوصم بالإرهاب، حيث أعلنت موسكو عبر مركزها في سوريا “أن قادة العصابات المسلحة يخططون لتنفيذ أعمال إرهابية في السويداء و3 محافظات أخرى هي دمشق واللاذقية ودرعا”، وتحدث اللواء الروسي قائلًا: “المعلومات الواردة تفيد بأن زعماء العصابات المسلحة المختفية يخططون لتنفيذ عمليات تخريبية تستهدف الموظفين والمنشآت الحكومية في أراضي محافظات حمص ودمشق ودرعا والسويداء”.
واستندت المعلومات المذكورة إلى تقرير استخباراتي لوزارة الدفاع الروسية، يفيد بأن “الاستخبارات الأمريكية تخطط لتحريض المتطرفين في مدينتَي دمشق واللاذقية السوريتَين على القيام بأعمال محددة ضد القوات السورية والإيرانية والروسية هناك”، ويضيف البيان: “لتحقيق أهدافهم في سوريا، يستخدم الأمريكيون اتصالاتهم الوثيقة مع ما يسمّى بالمعارضة المسلحة، ومع الجماعات المتطرفة”.
بالمحصلة، ما زال النظام السوري مصرًّا على التعامُل بالحلول التي تعامل بها عام 2011، إما أمنيًّا وإما مجتمعيًّا، فالقتل ما زال الخيار الأول لديه، وكذلك وصم أي احتجاج بالطائفية والتخريب والإرهاب، ويبدو أن حراكه للعب على الوتر الطائفي حاليًّا في السويداء سيفشل بحسب ما ورد من تصريحات لقادة الاحتجاجات هناك، إلا أن النظام يمكن له اللعب على حبال أخرى لإفشال هذا الحراك المستمر منذ سنوات، والكرة في مرمى أهل جبل العرب لإفشال خطط النظام التي باتت مكشوفة.