لا شيء يوحي في تونس أن البلاد ستشهد بعد يومَين انتخابات تشريعية لاختيار أعضاء البرلمان الجديد، حملة انتخابية فاترة لم يسمع عنها أحد، أغلب المرشحين غائبين عن الساحة إلا بعض الطرائف الصادرة عنهم قولًا وفعلًا، لا توجد مهرجانات خطابية كما عهدها التونسي في جميع المحطات الانتخابية التي عرفتها تونس بعد الثورة وسقوط نظام بن علي.
يومان فقط يفصلان تونس عن موعد الانتخابات -التي يعتمد عليها سعيّد لشرعنة خططه وبرنامجه الأحادي-، لكن لا أحد يتحدث عنها ولا أحد يعيرها أي اهتمام باستثناء “هيئة سعيّد للانتخابات” التي ما فتئت ترسل الرسائل لعموم التونسيين لحثّهم على المشاركة بعد تأكُّد النظام من مقاطعة غالبية التونسيين لهذه المحطة.
ما يجب أن تعرفه عن الانتخابات
لأول مرة في تاريخ تونس تجرى الانتخابات يوم السبت، فعادة ما كانت الانتخابات تقام يوم الأحد، لكن سعيّد أراد تغيير كل شيء بما في ذلك اليوم المخصّص للانتخابات، وإن كان الأمر رمزيًّا ففيه رسالة من سعيّد إلى الجميع، وهي سعيه لتغيير عديد التواريخ والمناسبات وربطها باسمه، فالانتخابات القادمة تقرر إجراؤها يوم انطلاق شرارة الثورة التونسية وهو 17 ديسمبر/ كانون الأول.
يوم السبت، 17 ديسمبر/ كانون الأول، تشهد تونس أول انتخابات تشريعية منذ انقلاب قيس سعيّد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية وسيطرته على جميع السلطات في مهد الثورات العربية في 25 يوليو/ تموز 2021، وحلّ البرلمان في 30 مارس/ آذار 2022.
ينظّم هذه الانتخابات قانون انتخابي جديد صاغه سعيّد بنفسه وأصدره في 15 سبتمبر/ أيلول الماضي، ويتنافس فيها المترشحون على 161 مقعدًا (تمَّ تقليص عدد مقاعد البرلمان من 217 إلى 161) منها 10 في الخارج، وتقدّم للانتخابات 1058 مترشحًا منهم 122 (12%) امرأة وغالبيتهم من المستقلين.
غياب التنافس والحماسة يرجع إلى مقاطعة أغلب القوى السياسية لهذا الاستحقاق الانتخابي.
الغريب في هذه الانتخابات أن 7 دوائر انتخابية من إجمالي 10 في الخارج لم تسجّل أي مرشح (دوائر فرنسا-1، وألمانيا، والأمريكيتَين، والدول العربية، وآسيا، وأستراليا، وأفريقيا)، فيما سُجّلت 3 ترشحات في كل من دوائر فرنسا-2، وفرنسا-3، وإيطاليا، بمعدل مرشح في كل دائرة، ما يجعل فوزهم آليًّا طبقًا للقانون الانتخابي الجديد.
تتواصل الغرابة مع الهيئة المشرفة، فأعضاء هيئة الانتخابات التي ستشرف على المحطة الانتخابية المرتقبة يعيّنهم الرئيس قيس سعيّد مباشرة عوضًا عن البرلمان، كما كان معمول به في السابق، ما يؤكد مبادئ الشفافية والنزاهة والمصداقية.
وفقًا لقانون قيس سعيّد الانتخابي، فإن التصويت في الانتخابات التشريعية سيكون على الأفراد في دورة واحدة أو دورتَين عند الاقتضاء، وذلك في دوائر انتخابية ذات مقعد واحد، وذلك على خلاف ما كان معمولًا به في قانون عام 2014 الذي كان فيه الترشح للانتخابات على قوائم حزبية من شأنه تشجيع المستقلّين المنتصبين لحسابهم الخاص، خصوصًا أصحاب الأموال منهم.
غناية جديدة تغني فيها ISIE! Désolée وخيتي البرلمان هذا ما يمثلنيش و كان نعطي صوتي و نعطي شرعية للمهزلة الي مسمينها انتخابات ووقتها نكون خيبتها تونس. أيا فكو علينا مش بش تعبدونا كيف العادة! pic.twitter.com/DTRiCs4PyO
— Proudly Tunisian, PhD ?? (@TUNScientific) December 6, 2022
كما نصَّ القانون الانتخابي أيضًا على مبدأ سحب الوكالة، إذ أصبح بإمكان الناخبين سحب ثقتهم من ممثليهم “في صورة إخلاله بواجب النزاهة أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النيابية، أو عدم بذله العناية المطلوبة لتحقيق البرنامج الذي تقدّم به عند الترشح”.
وقلّص دستور سعيّد الجديد من دور البرلمان الذي كان رئيسيًّا وفق دستور 2014، فالحكومة الآن تحت سلطة الرئيس مباشرة، ولا دور للبرلمان الجديد المؤلف من غرفتَين (هما مجلس النواب ومجلس الأقاليم والجهات الذي لم يصدر فيهما بعد نصّ قانوني لانتخاب أعضائهما وتنظيم العلاقات بين المجلسَين)، إلا مباركة خطوات الرئيس.
غياب المنافسة ومقاطعة كبيرة
تؤكد أرقام المشاركين، والصمت الذي يخيّم على شوارع تونس، غياب المنافسة في الانتخابات المرتقبة السبت المقبل، وحالة العزوف الواضحة، وهو دليل على فشل هذا الاستحقاق الانتخابي حتى قبل تنظيمه من قبل هيئة الرئيس.
على عكس الاستحقاقات الانتخابية السابقة التي شهدتها تونس طيلة 11 سنة أعقبت الإطاحة بنظام بن علي، يغيب الحماس والنقاش العام والحملات الساخنة، ويحضر الفتور والعزوف عن الترشح في معظم الدوائر الانتخابية.
غياب التنافس والحماسة يرجع إلى مقاطعة أغلب القوى السياسية لهذا الاستحقاق الانتخابي، ذلك أن القانون الانتخابي الجديد أخرج الأحزاب السياسية من المشهد السياسي، فنظام الانتخاب الفردي لا يسمح لها بتشكيل قوائم على أساس حزبي، ويجرّد الأحزاب من كل قوتها.
وتقاطع أبرز الأحزاب الانتخابات، منها النهضة، وقلب تونس، وائتلاف الكرامة، وحراك تونس الإرادة والأمل، والجمهوري، والعمّال، والقطب، والتيار الديمقراطي، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والدستوري الحر، وآفاق تونس، وفيها من كان يساند مسار سعيّد لكنه تيقّن من محاولات الرئيس الانفراد بالحكم، فقرروا الاصطفاف إلى جانب الشعب ورفض الانقلاب.
كل الأجسام التي انبثقت عن 25 يوليو/ تموز 2021، ما هي إلا لزوم “المسرحية” التي أخرجها سعيّد.
ترى هذه القوى السياسية أنه لا فائدة من الانتخابات التشريعية القادمة، ذلك أنها ستجرى على مقاس الرئيس، وستفرز برلمانًا ضعيفًا من أفراد بلا وزن ولا يجمعهم أي برنامج، ومهمتهم الوحيدة تأثيث “مسرحية سعيّد”.
هذا الفتور يرجع أيضًا إلى تنامي المشاكل الاقتصادية التي يعيش على وقعها المواطن التونسي، فأغلب المواد الأساسية مفقودة من الأسواق، والأسعار في ارتفاع مستمر، ونِسَب البطالة والفقر بلغت مستويات تاريخية، ناهيك عن التضخم الذي فاق كلّ التوقعات.
ثمة مترشح من بعض الجهات المشاريع الي قال عليهم يلزمو عشرة قروض من صندوق النقد الدولي وياربي باش يكملهم. جماعة تبيع في الاوهام والشعبوية للشعب وماشي في بالهم انتخابات بالحق والله. واجعتني كان تونس ?? ليها ربي
يحميها#قاطع_انتخابات_الضب_المهزلة #يسقط_الانقلاب_في_تونس pic.twitter.com/3U5dDhFGTD
— ??? منية? بالقاسم ??? (@f6rcLDYQf8oENmA) December 6, 2022
وتؤكد عديد الأرقام أن الوضع في تونس كارثي، إذ العجز التجاري لتونس يقفز إلى 7.34 مليارات دولار خلال الأشهر الـ 11 الأولى من عام 2022، مقابل 4.6 مليارات دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وبلغت الديون العمومية التونسية نحو 33 مليار دولار، ويتوقع أن يصل عجز الموازنة إلى 9.1% خلال عام 2022، مقارنة بنسبة 7.4% عام 2021.
الخطوة الأخيرة لإرساء مشروع سعيّد
تمثل انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022 الخطوة الأخيرة لإرساء مشروع قيس سعيّد الأحادي، والذي يقام على البناء القاعدي، ما يفسّر تركيز سعيّد الكلّي على إنجاز هذه المحطة الانتخابية بأي طريقة كانت وإن شارك فيها هو فقط.
ويمتلك سعيّد مشروعًا قاعديًّا يقوم على إعادة بناء النظام السياسي وفق رؤية تقلب رأس الهرم من تحت إلى فوق، ومن القاعدة إلى القمة، إذ يرى أن الشعب سيّد نفسه ولا مكان للوسائط في الفكر الذي يحمله، كالأحزاب والمنظمات وغيرها، وهو ما تبينّاه من إقصائه للأحزاب وتهميشه للمؤسسات وفرض الاقتراع على الأفراد بدل القوائم.
يرى سعيّد أن “البناء الديمقراطي القاعدي” سيمكّن التونسيين من التعبير عن إرادتهم على المستوى المحلي والجهوي، وصولًا إلى المستوى المركزي عبر مجالس محلية في كل معتمدية دون الحاجة لوسائط، عكس ما كان عليه الوضع قبل انقضاضه على السلطة.
الانقلاب صار صندوق انتخاب !#انتخابات#تونس#كاريكاتير pic.twitter.com/rTeNnjdhxy
— Emad Hajjaj Cartoons (@EmadHajjaj) December 13, 2022
مجرّد كلام ليس أكثر، صحيح أن سعيّد أقام خطابه على نصرة الشعب والمستضعفين ومحاربة الفاسدين، إلا أنه تبيّن بعد نحو سنة ونصف من انقلابه على دستور البلاد، أن همّه الوحيد إرساء نظام حكم يقوم على شخص والكل يدور في فلكه.
نظام الحكم الذي يتبنّاه سعيّد يقصي الأحزاب والمنظمات ويضع كل مؤسسات الدولة تحت تصرفه، ويسيطر على كل السلطات -التنفيذية والتشريعية والقضائية- وهو الذي كان يتهم خصومه بالتغوُّل واستغلال مؤسسات الدولة.
يريد سعيّد أن تنتهي هذه المحطة الانتخابية في أقرب وقت ممكن، فالنتائج لصالحه مهما كانت، ذلك أن البرلمان تحت تصرفه وفق الدستور الذي خطّه بيدَيه دون أن يشارك أحد في ذلك، فهو الذي يعيّن الحكومة ويقيلها، وهو من يسنّ القوانين وغيرها من التشريعات.
كل الأجسام التي انبثقت عن 25 يوليو/ تموز 2021، ما هي إلا لزوم “المسرحية” التي أخرجها سعيّد، فهو المخرج والبطل والباقي مجرد “كومبارس” لعيون القوى الأجنبية التي تتابع ما يجري في تونس.
بالمحصلة، نتبيّن أنه لا همّ لقيس سعيّد سوى إرساء برنامج حكمه الأحادي الذي يحلم بتطبيقه منذ سنوات بمعية بعض الوجوه الداعمة له، أما الشعب الذي امتهن خداعه، فليس له إلا أن يحصي الخيبات التي مُني بها جرّاء تصديقه لسعيّد.